بقيت ملفات التطبيع الرسمي في دولنا العربية تدار من تحت طاولات السلام مع إسرائيل حتى نشوب ثورات الربيع العربي عام 2011. فمع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في العديد من الدول العربية، نحى الصراع مع إسرائيل منحًا جديدًا أثر على الواقع العربي والفلسطيني بشكل عام. فكثر الحديث عن لقاءات مكشوفة مع شخصيات سياسية وإعلامية إسرائيلية، سوقت تلك اللقاءات صورة إسرائيل على أنها البلد الديموقراطي والحَملٍ الوديع الذي لا بد من التعايش معه.

1. الربيع الكاشف

أعادت النجاحات الأولى للثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن الروح للشارع العربي، واختفت نداءات محور الاعتدال والممانعة، ولا سيما بعد الثورة على نظامي مصر وسورية. وتزامن ذلك مع تنامي الاهتمام الإقليمي غير العربي بقضية فلسطين (الإيراني والتركي). فبدأت إسرائيل وحلفائها العمل على إعادة إحياء نماذج بديلة في الحكم العربي الجديد للحيلولة دون ترسيخ مشروع عربي ديمقراطي يحقق المطالب التي خرج المحتجون لأجلها، وللحيلولة دون تشكل تحالف عربي وإسلامي ثوري من شأنه إلغاء مشروع التطبيع للأبد [1].

في سياق موازٍ، حدثت تطورات على المستوى الداخلي الفلسطيني، فقد أدت الأحداث إلى تغيرات هيكلية، فلم يعد الموضوع موضوع استيطان، ومفاوضات عبثية، وإنما سعي أمريكي وإسرائيلي لتوظيف الأجواء الراهنة للوصول إلى تسوية عاجلة ولو على حساب جوهر القضية الفلسطينية، ولا سيما حق العودة. وعلى الأساس الذي رسمه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في اتفاق سلام نهائي رافضاً الإقرار بدولة فلسطينية متواصلة، والإقرار بوجود دولي ــ إسرائيلي ــ أوروبي بمنطقة الأغوار. ولفت كيري النظر لدور عربي مصري وأردني جزئي بالاتفاق. كما صعدت أحزاب اليمين الإسرائيلية "جماعة ليبرمان" من لهجتها ضد الاتفاق التي حاول نتنياهو عقده مع عباس لتسوية أزمة تمدد المستوطنات في الضفة الغربية [2].

ومع ذلك، استمر التوجس الإسرائيلي من إمكانية حدوث مقاطعة عربية شاملة، برغم الدعم الأمريكي والأردني والمصري، وأحيانًا الخليجي الخفي. ولكن الحسابات أتت في صالح إسرائيل، فكان تصاعد الموجة المضادة للثورات العربية قد حسمت اللعبة في فلسطين وخارجها. وغفل العرب عن خطورة ما أنجزته الثورة المضادة، لدرجة أنهم لم يهتموا بما أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في مقابلة تلفزيونية مع شبكة "سي. إن. إن" الأمريكية في يناير 2016، حيث قال: "كنا نعتقد في السابق أننا إذا أنهينا الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، فإننا سنتمكن من حل صراع أكبر، هو الصراع العربي الإسرائيلي، لكن اتضح لنا لاحقاً أن العكس هو الصح، ونعمل حالياً لأجل تحقيق هذه الغاية". فالوزير الإسرائيلي عبر عن علاقات مختلفة بعد قيام الثورات المضادة، بالتعاون مع دول سنية "معتدلة" صديقة، حسب ما أعلنته الأدبيات الإسرائيلية [3].

ولعل اتساع المد الإيراني بعد احتجاجات اليمن وسورية والبحرين، وتزايد تهديدات الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل داعش والقاعدة وحزب الله، وما تبعه من أزمات خليجية، قد دفع عواصم عربية كبرى لتغيير علاقاتها مع تل أبيب نحو التطبيع المعلن والغير المعلن، كحل نوعي يحفظ بقاء تلك الأنظمة من تهديدات داخلية وخارجية.  

2. مهزلة تطبيع وعُري لا نظير له

على الرغم من انشغال مصر بمشكلات داخلية تتعلق بالوضعين الأمني والاقتصادي، ولكن عادت عناوين التطبيع إلى الصحف المصرية والإسرائيلية بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي. فقد بلغ التنسيق المصري الإسرائيلي درجة التعاون في مكافحة "المجموعات المسلحة" في سيناء، واستمرار استيراد مصر للغاز من إسرائيل، وكما توالت زيارات عدد من النخب الإعلامية والسياسية والاقتصادية المصرية إلى مطار بن غوريون والسفارة الإسرائيلية في القاهرة على الدوام. 

وبنفس الوقت، انتهز الإسرائيليون فرصة التأزم الخليجي ولا سيما السعودي في الحرب اليمنية، وتبعات قانون جاستا، وحصار قطر الأخير لعرض خدماتهم الأمنية؛ فإسرائيل اعتبرت العداء المشترك مع السعودية لإيران وحزب الله فرصة لا تفوت. ويتلخص الموقف الإسرائيلي بعبارة قالها أمير بو خبوط الباحث المختص بالشؤون الأمنية في موقع "واللا" بالقول: "مصالح مشتركة عدة مع المحور السني بقيادة السعودية، المُحبَطِ كثيرًا من الخيار الأمريكي في رؤية إيران لاعبًا رائدًا في المنقطة" [4].

وقد تفسر الزيارة السرية التي قام بها مؤخرًا وزير الاقتصاد الإسرائيلي يوفال شتاينتس لدولة الإمارات العربية المتحدة، حسب ما كشفته وسائل إعلام إسرائيلية، مستويات التعاون الأمني والاقتصادي المشترك بين الطرفين. وبعد أن أكدت القناة الإسرائيلية الثانية: "بأن أبو ظبي وعددًا من الدول العربية، التي أسمتها "المعتدلة"، تجمعها مصالح مشتركة مع إسرائيل الساعية لإقامة شراكة فعلية مع هذه الدول، وإن زيارة الوزير الإسرائيلي تصب في هذا الاتجاه" [5].

ويظهر الإعلان الواضح في التطبيع، تمهيدًا لما هو آت، في تصريح المستشار في الديوان الملكي السعودي أنور عشقي، أن عداء المملكة لإسرائيل هو تضامني مع الفلسطينيين فقد لا أكثر. وفي دعوة وزير الاتصالات الإسرائيلية لمفتي المملكة العربية السعودية عبد العزيز آل الشيخ بزيارة إسرائيل لتحقيق التسامح الديني، بعد تصريح المفتي بأن مظاهرات عرب القدس دعاية رخيصة. وسبق ذلك، دعوة الإعلامي السعودي أحمد العرفج، عبر قناة روتانا السعودية، إلى التعايش مع إسرائيل في المنطقة، مضيفًا أن "التطبيع مع إسرائيل مطروح شئنا أم أبينا، فهي لم تعد كما السابق، حيث أصبحت كيان مستقل ولهم موقع ومكانة، ونفوذ وتأثير أمريكا"[6]. 

وتكشف التطبيع الإعلامي شيئًا فشيئًا، عندما هاجم الكاتب السعودي، تركي الحمد، الشعب الفلسطيني، موجهًا اتهامات للفلسطينيين. وادعى في تغريدات على حسابه التويتر، "أن الفلسطينيين تخلّوا عن قضيّتهم، وباعوها".. وزعم "أن الفلسطينيين يعيشون حياة جميلة في الخارج، بينما حدثت الانقلابات، وتعطلت التنمية في السعودية وغيرها؛ بسبب القضية الفلسطينية، وعلى حساب تدهور بلاده" [7].

وكانت آخر مظاهر التطبيع العربي في الزيارة التي قامت بها جمعية "هذه هي البحرين" إلى إسرائيل بعد أيام معدودة مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 7 ديسمبر 2017. وفي الزيارة صرح أحد أعضاء الوفد فضل الجمري خلال لقائه مع قناة إسرائيلية: "إن الملك البحريني حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة حَمّلَه رسالة سلام لجميع أنحاء العالم". وأضاف "أن الشيعة لا يحملون أي عداء لأي ديانة أو مذهب". وقد ندد اتحاد كتاب فلسطين بالزيارة التي قام بها وفد البحرين إلى إسرائيل، واعتبروه موقفًا مخزيًا وجارحًا للشعور العربي والإسلامي في وقت تشتعل فيه المنطقة العربية ضد القرار الأمريكي[8].

3. شعبيون ضد الفضيحة   

في كل مرحلة، ظل الموقف الشعبي العربي مختلفًا عن الموقف الشعبوي الرسمي، فلم تتوقف مؤتمرات رفض التطبيع مع إسرائيل يومًا. فعلى صعيد مؤتمرات المقاطعة، اختتم مؤتمر مقاومة التطبيع أعماله في الكويت في 11 نوفمبر 2017، بإشراف حركة "بي دي أس" في الكويت، وحركة "شباب ضد التطبيع" في قطر، و"الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع" في البحرين. مؤكدًا ضرورة توحيد الجهود الشعبية للتصدي لعملية التطبيع مع الاحتلال، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي. وأكد الناطق الإعلامي للمؤتمر خليل أبو هزاع "أن المؤتمر لا يأتي بمعزل عن تحركات على مستويات رسمية في عدة دول خليجية في الآونة الأخيرة لاستضافة وفود إسرائيلية أو الترويج للتطبيع مع إسرائيل بحجة الأنشطة الرياضية أو الثقافية أو الأكاديمية"، حسب قوله [9].

كذلك أثارت الاتهامات التي كالها السعودي تركي الحمد للشعب الفلسطيني، نشطاء سعوديون كثر، فردوا على تغريداته: "إن قضية فلسطين ثابتة في قلوب السعوديين". كما سخر شباب خليجيون من قيمة تغريدات تركي الحمد، ومدى تأثيرها في مواقف الشعب السعودي والخليجي تجاه فلسطين [10]. وشن أيضًا الكاتب السياسي الكويتي عبد الله الشايجي، هجمة قوية على الحمد في تدوينته، بالقول: "أتمنى لو كنت شجاعًا لتجهر وتطالب علنًا بالتطبيع وتنضم لقائمة مروجي التطبيع مع المحتل الإسرائيلي" [11]. ولم يكلف قرار الرئيس الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أنظمة عربية ولو بالتصريح، غير أن شوارع العواصم العربية والإسلامية اشتعلت وانفجرت بمظاهرات ساخطة، ولتكشف القدس مجددًا حالة الخذلان العربي الرسمي، والصحوة لدى شعوبها.

أو بتعبير آخر لحمزة مصطفى حين قال: "أن الشعوب العربية والإسلامية لا تزال تنبض بالحياة، وعَرّت إخفاق أنظمة الثورة المضادة في إعادة تدجينها". وكما أضاف: "كانت الاحتجاجات لنصرة فلسطين وعاصمتها الأبدية تمريناً آخر على الاحتجاج من أجل الكرامة، بعد مقولات أخيرة كانت تقول بموت الإنسان العربي الحر" [12].

يمكن القول إنه طويت صفحة الصراع العربي الإسرائيلي التقليدية، لتبدأ صفحة مختلفة، وليتحول إلى صراع بين أنصار التطبيع العربي وأعدائه. هذا ليس بسبب الربيع العربي، بل بأداء محكم من أنصار الموجة المضادة على الربيع، وما أعقبها من حروب داخلية وأزمات عربية بحجج محاربة المد الإيراني، وكل ذلك ألقى بالقضية الفلسطينية في دائرة المساومات؛ فقابل التصدي للمحور الإيراني لدى بعض الدول العربية الارتماء في الحضن الإسرائيلي. فغابت الأصوات العربية الفاعلة المطالبة بعودة قدس الأقداس ورمز عزة العرب، مع تنمر الخطاب الرسمي لدول "الاعتدال العربي" الذي لم يرتقي حتى الآن لدرجة إقناع واشنطن بحتمية حل الدولتين، ولم يصل لمستوى الجرأة التي بلغها الرئيس التركي أردوغان بعقد قمة إسلامية تعلن القدس عاصمة رسمية لدولة فلسطين. وبهذا انتقلت ملفات التطبيع المخفية تحت الطاولة إلى حالة تمييع لأقدس قضية عربية، ولمهزلة فاضحة لا نظير لها في ظل تهجير أهالي الشيخ جراح أحد أهم أحياء القدس الشرقية القريبة من المسجد الأقصى وقصف تدميري لغزة دون أن يحركوا أي ساكن.