التنمية والأمن مفهومان نوقشا على نطاق واسع من طرف المحللين والمنظرين السياسيين والاقتصاديين وحتى العسكريين، ويمثلان في نفس الوقت أحد أبرز محاور الدراسة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وهناك عدد كبير من النظريات والدراسات التي اعترفت بوجود جدل واسع بينهما من ناحية التفاعل والتأثر والتأثير، وفي هذا المقال سننطلق من ثلاث منظورات واسعة لنحاول تفسير العلاقة بينهما:
المنظور الأول أن الأمن لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافر عدد مـن الشروط الأولية: الاقتصادية، الصحية، البيئية أي شروط تنموية.
المنظور الثاني يرى أن الأمن شرط أساسي في تحقيق التنمية.
المنظور الثالث يرى أن العلاقة بين الأمن والتنمية علاقـة تداخل وتشابك.
للوصول إلى المنظور الأكثر دقة وقدرة على تفسير نوع العلاقة يجب الرجوع إلى مفهوم التنمية، فقد عرف هذا المفهوم تطورا من النظرة التقليدية التي تستند إلى النظرية المادية الاقتصادية والتي تركز على زيادة الإنتاج من خلال القيام بمقدار مناسب من الاستثمارات إلى المفهوم الأحدث خـلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات حيث برزت مفاهيم أخرى وهي: التنمية البشـرية، التنمية المستدامة، التنمية المستقلة…
ولكن كتعريف بسيط وواضح التنمية: هي عملية تطوير قدرات الاقتصاد والمجتمع، لتمكنه من توفير القوى البشرية والموارد المادية والمالية لتعزيز الإنتـاج الاقتصادي، مما يسمح بضمان مستوى لائق من المعيشة للمواطنين في إطار من الأمن.
أما الأمن فقد اختلف علماء السياسة والعلاقات الدولية حول تحديد مفهومه بشكل دقيق، فاتخذ الأمن مفهوما مغايرا في كل مرة حسب كلِ حقبة زمنية وتغيرت خصوصيته حسب حدود استخدامه ومكان استخدامه ولكن ينطلق أغلب المفكرين والمحللين من أن الأمن هو : "عدم شعور الفرد بأن حياته أو إحدى قيمه مهددة بشكلٍ ما".
ويعرفه باري بوزان أحد أهم المختصين في الدراسات الأمنية أنه "العمل على التحرر من التهديد".
الإطار التاريخي للعلاقة بين الأمن والتنمية
تُرْجِع العديد من الكتابات العلاقة التاريخية بين التنمية والأمن إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ابتكر الليبراليون أجندة أمنية مزدوجة لحل النزاعات والصراعات بالطرق السلمية وتحفيز التنمية في هذه البؤر على أمل تجنب تكرار العنف الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين.
ولقد تم وضع مجموعة أهداف أهمها:
- منع اندلاع صراعات من خلال تشجيع الانسجام بين الدول من خلال الحوار والتعاون.
- فكرة "التوسيع والتعميق" في أجندة الأمن الدولي من خلال تأمين الرفاه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للإنسان على المستوى الفردي.
وقد برزت بشكل أكبر فكرة التوسيع والتعميق في العلاقات الدولية خاصة في المجال الأمني مع المفكر باري بوزان للانتقال من مفهوم الأمن التقليدي العسكري إلى الأمن المجتمعي والبيئي والاقتصادي....
حاول العديد من المفكرين والقادة أن يأسسوا لمفهوم جديد للأمن يقوم على التحرر من كل خوف ومن كل تهديد أو ندرة في الموارد قد يصيب الانسان حيث أوضح أحد وزراء الخارجية الأمريكية بقوله:
"يجب خوض معركة السلام على جبهتين. الأول هو الجبهة الأمنية حيث الانتصار يعني التحرر من الخوف. والثاني هو الجبهة الاقتصادية والاجتماعية حيث الانتصار يعني التحرر من الفاقة. وحده النصر على الجبهتين يمكن أن يضمن للعالم سلامًا دائمًا".
ويقول الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان "العلاقة الموجودة بين الأمن و التنمية هي أن التخلف التنموي لا يهدد أمن الإنسان بشكل مباشر فحسب، بل إنه يساهم أيضاً في التكوين غير المباشر لتربة خصبة لتوليد التهديدات الأخرى، بما في ذلك الحروب والنزاعات وثانيا، تؤدي هذه الصراعات إلى انعدام الأمن الإنساني والتنموي على حد سواء، وبالتالي محاصرة المجتمعات داخل الحلقة المفرغة من الصراع".
أبعاد العلاقة بين التخلف واللا أمن
هناك ارتباط واضح بين التخلف واللاأمن حيث توضح الإحصائيات أن نسبة البلدان الأقل نموا التي هي حاليا في صراع تعادل 33٪، والتي تزيد إلى أكثر من 50٪ إذا أخذنا في الاعتبار ربع القرن الماضي، ونسبة الأشخاص الذين قُتلوا بسبب النزاعات في البلدان المتخلفة تنمويا أعلى بعشر مرات من البلدان متوسطة النمو وأعلى بعشرين مرة من الدول التي تفوقها في التنمية.
ففي كثير من الحالات ترتبط الحرب داخل الدولة دائمًا بانخفاض واضح في الناتج القومي الإجمالي، وانخفاض كبير في آفاق معدل النمو وزيادة في عجز الميزانية.
هناك مجموعة من الأبعاد التي اعتمدها المحللون لتفسير العلاقة بين التخلف واللا أمن تناولوا من خلالها أسباب الصراعات:
1-البعد الثقافي (عدم المساواة):
معظم الحروب الجديدة التي نشأت بعد تفكك الاتحاد السوفياتي كانت بين "مجموعات" متمايزة ثقافيا أو عرقيا وفي الغالب منبع الصراع يكون حول بعض القضايا الأساسية المتعلقة بتوزيع السلطة وممارستها والموارد والثروات.
2-الدافع الفردي :
أي الدافع الخاص للفاعلين المتورطين في النزاع، حيث يقول كل من كولير وهوفلر أن الفوائد الاقتصادية الصافية للحرب بالنسبة للبعض تعوض التكاليف وبالتالي تحفزهم على المشاركة. حيث يسمح التخلف للحرب بأن تصبح تدريجية وطويلة الأمد. لهذا السبب، كما يقول كين، "على نحو متزايد، تحولت الحروب الأهلية التي يبدو أنها بدأت بأهداف سياسية إلى صراعات تكون فيها الفوائد قصيرة الأجل ذات أهمية قصوى" أي أصبحت الأهداف المادية السريعة هي المطلوبة.
3-فشل الدولة في أداء واجباتها:
عادة ما يكون العنف نتيجة لفشل الدولة في أداء واجباتها الأساسية، ويتجلى هذا الأخير في عدم المساواة بين فئات المجتمع، وانخفاض الدخل الفردي وانخفاض متوسط العمر المتوقع، والنمو الاقتصادي.
الصراعات في السودان والصومال مثلا تعكس هشاشة اقتصادية كبيرة مع غياب العدالة ووجود فروق مهولة في توزيع الدخل، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات وفيات الرضع، مما ساهم بشكل كبير في تصعيد وتغذية النزاعات والصراعات.
هل فسر الإسلام جدلية التنمية والأمن ؟
في الدين الإسلامي هناك ترتيب محدد لأولويات الحياة وتفسير واضح للأمن والتنمية والعلاقة بينهما وأيضا سبل تحقيقهم بداية مع الأمن حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا"
معافاً في بدنه أي صحيحًا سالمًا من العلل والأسقام حيث تعتبر الصحة الجسدية من أولويات بقاء الانسان.
آمنا في سربه قيل: في أهله وعياله، وقيل: في مسكنه وطريقه، وقيل: في بيته، فهو آمن أن يقتله أحد، أو يسرق بيته، أو ينتهك عرضه.
عنده قوت يومه أي: قدر ما يغديه ويعشيه، والطعام من نعم الله العظيمة.
هذا الحديث فيه دلالات على أهمية الأمن من المنظور الإسلامي في نفس الوقت يعتبر من أعظم نعم الله على عباده.
أما التنمية بمفهومها المتعلق بالعمل وبذل الجهد من أجل تطوير الحياة وتطوير الدولة في شتى المجالات فهذه الفكرة من أولويات الدين الاسلامي الذي دعا للعمل ونبذ التواكل والتخاذل، فمن سعى في الأرض واجتهد، نال جـزاءه في الدنيا والآخرة وعمَّ عليه الرخاء، ومن امتنع عن السعي والعمل، فليس من حقه أن يلوم الفقر والتخلف.
حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألَّا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها، وله بذلك أجر»
ما يهدف إليه الدين هو دفع الإنسان لكي يجعل من إيمانه واعتقاده منطلقاً نحو سعيه في الحياة وبنائه لها وَفْقَ قواعد وأسس سليمة.
يقول الدكتور توفيق الطيب البشير أن الإسلام وضع للتنمية حسابا خاصا فجعلها في حكم الواجب وذلك من تفسير الآية "أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود:61). فالسين والتاء تفيد الطلب المطلق من الله للناس في سبيل الوجوب لإعمار الأرض وهذا ما قاله الإمام الجصاص "أن معنى الآية دلالة على وجوب عمارة الأرض" (أي التنمية).
وأشار الماوردي إلى أن "الدين له علاقة إيجابية بالظاهرة العمرانية (الإنمائية)" أي كلما زاد التدين زاد الاهتمام بظاهرة الإنماء" من خلال القاعدة (حيثما كانت مصلحة المسلمين فثم شرع الله).
أدوات تحقيق الأمن تؤسس للتنمية
من المنظور الإسلامي هناك عدة أساسيات تحقق الأمن من بينها:
1.سيادة القانون
هذا المبدأ يعتبر من الأساسيات التي يجب على الدولة أن تحققها لتضمن أمن المواطنين حيث تعتبر دولة القانون من أهم أسباب الأمن، فوجود تطبيق للقانون بالإضافة إلى المساواة بين كل أفراد المجتمع أمام القانون وسيادة الحق تخلق جوا من التعاون ويزول الشعور بالأنا والآخر الذي يعتبر من أهم أسباب النزاعات والعنف وفي نفس الوقت وجود قوانين وتطبيقها بشكل عادل يحفز على التنمية والاستثمار
2.التكافل الاجتماعي والتعايش ونبذ العنف
وجود قواعد سليمة للعلاقة بين الأفراد داخل المجتمع تزيد من نسبة التعايش بشكل آمن ونبذ العنف خاصة بين طبقات المجتمع المختلفة من الناحية العرقية والإثنية حيث عادة ما يكون سبب الصراعات غياب التكافل الاجتماعي والتوادد بين أعضائه.
أهم صفة في المجتمع الإسلامي في تواده وتراحمه كالجسد الواحد يعضد بعضه بعضاً خلافاً للمجتمعات المادية التي يعيش كل فرد فيه عالمه الخاص الذي لا يمت بأية صلة بعالم الآخرين، هذا الترابط بين أفراد المجتمع يخلق جوا مناسبا للتنمية وتحقيق الازدهار عن طريق تطوير الشراكات والتعاون في شتى المجالات وتبادل الخبرات بين أفراد المجتمع.
وكل هذه الأساليب السابقة تقودنا لأهم نقطة وهي:
3.التعاون الاقتصادي الذي هو أهم أدات لتحقيق الأمن والتنمية في آن واحد، لأن اقتصاد أي بلد هو معيار تقدمه وازدهاره واستقراره وأحد مكونات الأمن في المجتمع وأمن الدولة فإن بناء اقتصاد مزدهر تنتعش به كل بنى المجتمع و يقودنا لا محال للأمن لكي نصل إلى دولة القانون حيث لاتجد من يسلب الآخرين حقوقهم.
من خلال كل هذه النقاط التي تم ذكرها سابقا يمكننا القول أن التنمية والأمن وجهان لعملة واحدة فلا يمكن تحقيق الأولى دون الوصول للثانية. بالتالي، فإن المنظور الثالث الذي يرى أن العلاقة بينهما علاقة تداخل وتشابك هو الأقرب إلى الواقع حتى بالنسبة للإسلام.
من ناحية أخرى كإجابة على الإشكالية فإن الإسلام تحدث بشكل واضح وصريح حول المفهومين وحتى المفكرين العرب والمسلمين كان لهم إسهامات مهمة في هذا المجال ولكن واقعيا كانت الإنجازات الغربية هي الأبرز، ففي الوقت الذي عملت فيه مختلف المؤسسات الحكومية الدولية والغير الحكومية على ترسيخ التنمية كأساس وأسلوب لحل الأزمات والنزاعات بالإضافة إلى محاولات الباحثين لدراسة سبل تحقيق الازدهار الاقتصادي والاجتماعي في أوضاع أمنية مضطربة كان المسلمون يملكون مسبقا كل الأساليب اللازمة لتحقيق هذين المفهومين في طيات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة و كتب المفكرين والعلماء لكن لا زلنا نشهد أزمات أمنية وتنموية عميقة في الدول الإسلامية.