في يوم الخميس 28 يناير 2021 استضاف عمران الحضارة الدكتور محمد إدريس الجابري من المغرب في برنامج ساعة فكر للحديث عن وظيفة ابستمولوجيا العلوم في حضارة الإسلام المنشودة والتي بثت عبر صفحات عمران على الفايسبوك وقد حاوره أ.شمس الدين حيمود وهذا نص المداخلة كاملا.

ضيف حلقة اليوم شخصية وازنة وعلم من أعلام المغرب الشقيق، هو الدكتور محمد إدريس الجابري أستاذ باحث في تاريخ العلوم ومناهجها والابستمولوجيا، رئيس مركز نماء للعلوم والدراسات الإسلامية بالرباط. دكتور إدريس أهلا ومرحبا بكم معنا.

  أهلا وسهلا بكم جميعا وشكرا.

من هو الدكتور محمد إدريس الجابري؟

  هو عبد من عباد الله، يبحث عن كيفية إمكانية بناء وصناعة الفكر الإسلامي المعاصر صناعة واعية، من أجل إعادة مجد الأمة والتمكين لها في عالم تتدافع فيه الخيارات والسياسات والعلاقات، فقد أمضيت عقودا من الزمن في دراسة الفلسفات وتياراتها، وانتهى بي المطاف منذ عقدين من الزمن في أرض فلسفة العلوم، التي من المفروض أن يكون الباحث فيها يطل على مساحات شاسعة من المعارف العلمية الدقيقة وينظر في مساراتها المختلفة ويحاول استثمارها في إعادة بناء الأمة.

أكاديمية نماء: جسر تلتقي فيه العلوم الإسلامية بالفلسفة والعلوم الإنسانية
ماذا تعني أكاديمية نماء للدكتور إدريس؟ وأين يراها بعد سنوات؟

  هي واحدة من المشاريع التي حاولتْ أن تُنْزِل بعض الأفكار إلى الواقع، كانت مشروعا للبحث عن جسر التلاقي الذي حرمنا منه لفترة طويلة، على الأقل بين مساحتين من مساحات هذه العلوم، وهي مساحة العلوم الإسلامية من جهة، ومساحة الفلسفة والعلوم الإنسانية من جهة ثانية، فكان هذا المشروع في أفقه الأول نوعا من تجسير العلاقة، أي إقامة الجسور بين هاتين القارتين اللتين تبدوان لفترة طويلة من الزمن وكأنهما غريبتان، لا نعرف من يسكن في واحدة منهما، ولا يعرف الواحد عن الآخر شيئا. أظن أننا سرنا في هذا الدرب إلى حد ما، ويبدو أن التفاعل كان إيجابيا من قبل جمهور عريض من الناس.

المصطلح القرآني وعلاقته بعلم الرياضيات، ابن هيدور حياته وفكره الرياضي، أيضا العقل العلمي وشروطه في نظام المعرفة الإسلامي الجديد علم النفس نموذجا، هذه بعض أبحاث الدكتور إدريس، هل يوجد أبحاث أخرى؟ وهل يميل الدكتور إدريس إلى الأبحاث أكثر من الكتب في جانب التأليف؟

  لعل هذا هو الصواب، وهذا ما استفدناه من الكثير من الباحثين الذين التقينا بهم في عدة مناسبات، من المهتمين بدقائق المعرفة العلمية، تجد الواحد منهم قد يمضي ثلاث أو أربع سنوات لإعداد مقال قد لا يتعدى العشر صفحات، لكنه في وزن تاريخ العلم يصبح مرجعا على صغر حجمه، نحن سرنا في هذا المسار لكن هذا لا يعني أن المسار الآخر ليس له رجال، وأن لكل مسلك في التأليف رجال ومختصون بحسب همتهم في الكتابة في البحث العلمي، ولا شك أن هذه خصائص نوعية تهم الشخصية نفسها، وتهم طرق تكوينها الجامعي، وأنواع تفاعلاتها مع الساحة العلمية ومع التخصص الذي تمارسه.

ماهية المعرفة.. شطر أوسط من النسق الفلسفي
نظرية المعرفة من أهم مباحث الفلسفة، إذ تعتبر أساس الفلسفة كما يرى ديكارت بالطبع، كما تمثل الأصل الذي تقوم عليه شتى المذاهب الفلسفية، والجواب الذي تقدمه للإنسان والموقف الذي تتبناه تجاه قضاياها يؤثر بشكل كبير في تصوره ونظرته للعالم. والتساؤل اليوم حول فلسفة العلم وفقهه، وأيضا عن الوظيفة الحضارية لابستمولوجيا العلوم، والمنطلقات والاستخدامات القاصرة على المجال المعرفي والعلمي الإسلامي، كبداية ما المعرفة؟ وهل مازال سؤال التحليل التقليدي الذي استقيناه من محاورات أفلاطون مع ثياتيتوس سائدا لحد الآن في تحديد وتعريف المعرفة؟

  تُعرف المعرفة بأنها الشطر الأوسط من النسق الفلسفي، على أساس أن:

  • الشطر الأول هو البحث في الوجود،
  • الشطر الثاني هو البحث في نظرية المعرفة،
  • الشطر الثالث هو البحث في القيم.

وتعتبر المعرفة هي الشطر الأوسط، وكانت الأسئلة فيها هي أسئلة فلسفية صرفة، تتعلق بإمكان المعرفة وأدواتها ومصادرها: هل هي الحس؟ أم العقل؟ أم الحدس؟ وظيفتها، وقيمتها أو طبيعتها هل المعرفة نسبية ثابتة متغيرة أم مطلقة؟

هذه الأسئلة التقليدية التي شغلت الفلاسفة كثيرا نحن نراها الآن في فلسفة العلوم عائقا معرفيا، ولو بقي العقل يشتغل بهذه الاشكاليات العتيقة فإنه لن يتقدم في صناعة المعرفة، لأن هذه الأسئلة أسئلة فلسفية صرفة وتنفتح على مسارات ميتافيزيقية الحسم فيها صعب جدا والسؤال يظل مطروحا.

فكل فيلسوف يأتي فهو يضع لنفسه نسقا جديدا، فيجيب بطريقته الخاصة، وبالتالي فهي أسئلة لا تصنع أمة، وإنما ترضي ميول الإنسان الفردية إلى نوع من التأملات الديكارتية الميتافيزيقية، لأن كتاب تأملات ديكارتية لهوسرل ينتقد فيه ديكارت، ديكارت كَتب تأملات ميتافيزيقية، فرد عليه هوسرل في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بكتاب "تأملات ديكارتية" من وجهة نظر معارضة، هذه الأسئلة تذهب بنا في هذا المسار، مسار التأملات الميتافيزيقية، ليس مسار الصنعة العملية التي تؤدي إلى تغيير أو إصلاح أوضاع الأمة وهذا ما هو المطلوب من المثقف طبعا.

لذلك نحن نعتبرها عائقا معرفيا وربما هناك عوائق أخرى ينبغي الإشارة إليها، لكن لو بقينا ننشغل بهذه الأسئلة الكلاسيكية لن نتقدم إلى الأمام أبدا.

فلسفة العلوم: ما دورها؟ وكيف تطرح نفسها بديلا للطريقة الأرسلانية والدهشة الطهطاوية والدوغمائية المذهبية في سؤال التمكين الحضاري؟ 
نتحدث دائما عن فلسفة العلوم وعن القفزة الحضارية للأمة، كيف تضع فلسفة العلوم هذا السؤال المقصود أولا بفلسفة العلوم وهل يمكن أن يكون عندنا مختصون في فلسفة العلوم؟

  في هذا السؤال شقان، الشق الأول المقصود بفلسفة العلوم والأمر يتعلق بعلاقة فلسفة العلوم بالشق الحضاري، والشق الثاني علاقة فلسفة العلوم بالبناء الحضاري، أو التمكين الحضاري كما يصطلح عليه أيضا، يمكن صياغة المسألة بطريقة أخرى أن معرفة ماهية فلسفة العلوم تقَتضي منا معرفة الطريقة التي تضع بها فلسفة العلوم سؤالها، لأن السؤال عن كيفية البناء الحضاري أو كيف يمكن تجديد حركة الإصلاح في الأمة والتمكين لها، هذا السؤال ما فتئ يتكرر مرارا وفلسفة العلوم لا تريد هذا وتريد أن تتجنب بعض الأمور، هي لا تريد أن تعيد صياغة السؤال بالطريقة الأرسلانية التي وضعها شكيب أرسلان، لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ من خلال ثنائية التخلف والتقدم، لأن وضع السؤال بهذه الطريقة يجعلنا نفكر من داخل البراديغم الفلسفي الغربي، والبارادايم الفلسفي كما نشأ في العصر الحدثاني، لا يمكن أن أقول الحداثي، لأن الحداثة يمكن أن تكون قرآنية، القرآن يصف نفسه بأنه محدث، وأنه حداثي، ولكن الحداثانية تصور متشوه بطريقة تحديث الناس، يضعنا داخل كماشة الحداثانية أو الصيغة الغربية الحداثانية للإشكالية، الصيغة الحداثانية منذ القرن السابع عشر وهي موضوعة داخل إشكالية التقدم والتخلف، وبالتالي حينما نضع السؤال بهذه الطريقة الأرسلانية كأنما نريد أن نضع الأمة في داخل الإشكالية.

 

نحن نريد أن نصنع الأمة باستقلال بسياق جديد، وعلى هامش النقطة الأولى حتى يفهم المقصود 

أنك لما تضع الصيغة بصيغة البرادايم أنت تضع نفسك في إطار المفاهيم التي تخدم هذا البرادايم، وأهم هذه المفاهيم مفهوم الصراع، ومفهوم الصراع في الواقع يخفي ثقافة الإكراه، لأن الصراع من الصَرْعْ القتل والتدمير. لذلك الحضارة الغربية نشأت كحضارة إكراه وليست حضارة حرية كما يقال، أكرهت العالم وأبَادت شعوب بكاملها لكي تقيم مؤسساتها الاستعمارية الرأسمالية الجشعة، وبالتالي منطق ثنائية التقدم والتخلف مغموسة في هذا الصراع، وهذا الصراع يبعد عنه كل صبغة أخلاقية.

لذلك نحن نفضل مصطلحاتنا الخاصة في هذا الباب، وبالتالي على فلسفة العلوم أن توجد ترسانة جديدة من المصطلحات التي تخرجنا من القوقعة ومن هذا البارادايم.

بالإضافة إلى الصراع هناك التصور الخطي التصاعدي للتاريخ، وهذا التصور الذي ساد لفترة طويلة من الزمن في الغرب خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هو الذي أدى إلى التفكير في إبادة الآخرين، لأنهم لا يسمحون للحضارة، عوض أن يفتحوا للحوار مع العالم كان التفكير في السياسة المسيطرة في الغرب ومعها ترسانة من المثقفين الذين اشتغلوا بالدراسات الشرقية وبمعرفة الدراسات الأنثروبولوجية والأثنولوجية، لمعرفة الآخر من أجل تدميره، أيضا مفهوم الصراع هو الذي أدى إلى ثقافة الإكراه وإلى ثقافة التدمير وجعل الفكر أو العلوم الإنسانية تدخل في هذه الثنائية، أيضا وضع السؤال بهذه الطريقة وضع غير مناسب، ثانيا لا يمكن أن نضع السؤال من جديد بطريقة الدهشة الطهطاوية، هذه الطريقة التي لا تستحضر من معنى الحضارة إلا تلخيص الإبريز من باريس، ولما أردنا أن نعرف هذا الإبريز وجدناه المرشد الأمين للبنات والبنين، كيف يختلطون بالمدارس وكيف يرقصون جميعا، أصبح هذا الإبريز منظومة من الأشياء الشكلية التي حتى لا تنقل روح الحداثانية التي كانت في الواقع، إذن نريد أن نضع السؤال بطريقة الاستقلال الفكري الذي لا يندهش أمام الغير، فينسى بفعل الصدمة الحضارية التي يعيشها هذا المثقف، وبالتالي تنحرف به عن الإجابة الصحيحة على السؤال.

المرحلة الثالثة أن نضع السؤال من داخل الدوغمائية المذهبية بكل أشكالها لما يضع الإنسان نفسه داخل علبة أيديولوجيا معينة، أو علبة في مكانة سياسية أو حزبية حتى علمية معينة، ويظن أن العالم كله مختزلا في هذه العلبية، والمذاهب إنما وضعت لتعبر عن نضج في الفكر، نضج يسمح بالاجتهاد، فلما تصبح العلبة عالما منغلقا هنا يصبح الإنسان بعيدا عن العالم المفتوح الذي يستمع للجميع بمنطق (وفوق كل ذي علم عليم) وبمنطق (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، ثم هو فوق الاستماع للجميع مستعد لمحاورة الجميع من منطق هم رجال ونحن رجال، بهذه الاحتياطات تعيد فلسفة العلوم طرح السؤال الحضاري ولعل هذه هي الملاحظات الثلاث التي تشكل الدرس الأول الذي نتعلمه من مدرسة فلسفة العلوم.

هنا نقول أن الصيغة التي تطرح بها فلسفة العلوم ذاتها كبديل للصيغة الأرسلانية والدهشة الطهطاوية والعلبة المذهبية، هي أنها تريد أن تبحث أو تتساءل كيف تنشأ الثقافات والحضارات وتتَدافع طرديا مع صناعة مجتمع العلم، وهذا هو صلب الموضوع تقريبا، لأننا بالمراجعة التاريخية للحضارات كلها من الحضارة المصرية إلى الحضارة البابلية إلى الحضارات الهندية والصينية القديمة إلى الحضارة الإسلامية إلى الحضارة اليونانية إلى الحضارة الحداثَانية المعاصرة كلها بالاستقراء نشأت فيها هذا الخط التلازمي الطردي بين نشأة الحضارة وبين صناعة مجتمع العلم.

فدور فلسفة العلوم إذن أن تقول لنا كيف يتم صناعة مجتمع العلم؟ هذا السؤال هو المغيب في الحقيقة في بعض المحاولات التي قدمت من بعض الناس الذين كتبوا في هذا الموضوع، لكن كتاباتهم كانت من موقع غير دقيق، لأنه إما أنه داخل في تلك الاحتياطات الثلاثة التي قلناها سابقا التي نُحذر من الانزلاق إليها، أو أنها تغيب هذا التلازم الطردي بين صناعة مجتمع العلم أو التمكين للحضارة أو صناعة الحضارة بشكل عام.

الدكتور إدريس ألا يحيلنا الربط بين العلوم والحضارة إلى الولوج إلى المعرفة ويخرج بنا عن مجال فلسفة العلوم؟

  هذا سؤال جيد فلا نجد تقاطعات تقع بين التخصصين لكن هذا للملاحِظ من الخارج، بينما من تمرس بالعلوم الإنسانية من جهة وبالدرس الابستمولوجي من جهة ثانية يعرف أن ثمة فرق واضح وكبير بين الأمرين، لما نقول الدراسة الاجتماعية للمعرفة عموما أو سوسيولوجيا المعرفة فنحن نضع أنفسنا في إطار علم الاجتماع وليس فلسفة العلوم، فالتصور العام ينبني على مُسلمة تقول إن تنظيم الشخصية سواء في فكرها أو في انفعالاتها أو معاملاتها، وتنظيم الشخصية تابع للنظام الاجتماعي الذي توجد فيه، وهذه المُسلمة لا تهم الابستمولوجيا، لأن مقتضاها أنك دائما تبحث عن الأسباب الخارجة عن العلم التي أثرت في النشاط العلمي، وهذا يفتح الباب أمام الممارسة التأويلية الأيديولوجية في عملية قراءة النصوص والواقع، وتحليل الشخصيات، وكل واحد يمكن أن ينظر للموضوع من زاوية أيديولوجية معينة، فمن كان يرى أن الاقتصاد هو الذي يحكم الفكر كالماركسية مثلا سوف يؤول الفكر تأويلا ماركسيا ينبني على البحث في نمط الإنتاج السائد في المجتمع النمط الاقتصادي، ومن كان يتبنى المنهجية التاريخية أو التاريخانية سيبحث في الوضعية الثقافية العامة التي أثرت في المفكر أو أدت إلى صياغة النص، أنت تدفع نفسك إلى الاحتياط الثالث الذي قلناه سابقا أي إلى علبة الأيديولوجيا وهذا لا يهم الابستمولوجي، هذا يعني أن سوسيولوجيا العلوم بالمعنى المتداول في إطار فلسفة العلوم ينبني على مفهوم آخر وهو مفهوم التقليد العلمي الذي يعني مجموع القواعد الحية والمنتجة للعلم في مرحلة من مراحل تاريخ العلم، هذا التعريف يجعلنا حينما نتكلم عن سوسيولوجيا العلم نتكلم عن سوسيولوجيا الجماعة العلمية، أي العلاقات الداخلية التي تربط بين أفراد الجماعة العلمية الواحدة، كيف يتواصلون؟ كيف يتشاركون المعرفة العلمية بينهم؟ وكيف تتكون عندهم هذه التقاليد العلمية الراسخة في البحث العلمي، وفي صناعة المختبرات والتعامل معها، في التعاطي مع المادة العلمية التي يدرسونها، وكيف يتواصلون مع التخصصات الأخرى ومع الجماعات العلمية الأخرى، إذن نحن نبحث في بناء الجماعة العلمية الواحدة ثم في علاقة الجماعة العلمية مع الجماعات الأخرى داخل مجال تداولي معين، وهذا المعنى يعطي للنشاط العلمي نوعا من الابتعاد أو عدم الوقوع في المحظور الذي قلنا أنه الانزلاق إلى علبة المذاهب، وبالتالي يمكن للمعرفة العلمية من خلال ابستمولوجيا العلوم أن تسيطر على الأيديولوجيا لا أن يُسَيْطَرْ عليها بالأيديولوجيا، وهذا ما يدفع الباحثين خصوصا جماعة المعرفة العلمية من وجهة نظر علمية عندما يكونون فلاسفة علوم لا أن يبحثوا عن العوامل الخارجية، بل يبحثون في البناء الداخلي وهذا له علاقة بموضوع نقاشنا "فلسفة بناء العلوم في الحضارة" فيه كيف تبنى المدينة العلمية وكيف نبني مدينة العلماء.

توطين المعرفة العلمية: كيف تُشكل الانطلاقة نحو التمكين الحضاري للمسلمين؟

  المدينة المتحضرة التي سميناها سابقا بمجتمع العلم ويمكن أيضا أن نسميها بمدينة العلوم، وفي العموم تعرف المدينة بأن يكون فيها أصنافا مهنية أو تخصصات حرف ومهن وصناعات، منظمة بشكل معين وفيها حسبة وفيها تنظيم دقيق، وثانيا يجب أن تكون ثمة جماعات علمية متخصصة وهي أيضا تخصصات منظمة بشكل معين، وبالتالي نقول إن المعنى الابستمولوجي لاجتماعيات المعرفة العلمية يعني البحث عن دينامية المجتمع العلمي سواء في إطار جماعاته المهنية أو جماعاته العلمية، استحضار أشكال تواصلها وتحويل العلوم إلى تكنولوجيا بفضل هذه الجماعات المهنية.

كيف تنشأ هذه المدينة؟ وبعبارة أخرى يمكن القول كيف يمكن التمكين للمسلمين، لأنه لا يمكن التمكين لهم ما لم تكن لديهم مدينة علماء، وما لم يتكون لهم مجتمع العلم طبقا لما سطرته في السابق من علاقة طردية بين صناعة المجتمع العلمي وبين صناعة الحضارة، إذن كيف تنشأ المدن العلمية القوية؟ هي تنشأ طبقا لمقتضيات مرتبطة أولا بالمرجعيات الاعتقادية الفلسفية لكل حضارة، لأنه لا توجد نفس المعتقدات في الحضارات كاملة، والأمة التي لا تنشأ حضارتها انطلاقا من بنائها الداخلي لن تذهب بعيدا، ثانيا لا بد أن يكون هناك نوع من العلاقة الجدلية وأقصد بها هنا العلاقة التفاعلية بين الحياة الحضارية وبين تطور المعرفة العلمية، وهذا ما يحصل دائما في كل حضارة، تحتاج أن تطور نفسها في مجال معين فتنشأ لذلك الميدان تخصصا وتظهر جماعات علمية فيه فتستفيد من هذا التخصص وتزداد قوة فهي تقوي التخصصات وتتقوى بها وتزداد تقدما، والحالة الإسلامية في العصور القديمة سارت على نفس المنهاج لصناعة الحضارة، ويمكن أن نجد نفس المعيار في كل أمة ولا يمكن أن نعيد الصعود من جديد إلا بالتفكير بهذا المنطق.

كيف يمكن ترجمة مقتضيات فلسفة العلوم التي ذكرت واقعيا لإنجاز ما نأمل أن تكون نهضة شاملة للأمة الإسلامية؟

  يمكن ذلك إذا استحضرنا أصلا كبيرا من أصول البحث في فلسفة العلوم وهو ما نصطلح عليه بتوطين المعرفة العلمية أو توطين العلم، ما لم نتمكن من توطين العلم فلن ينشأ لنا مجتمع العلم، العلم لا يباع ويشترى، تشتري سيارة ولكن لا تشتري علما بالسيارة، العلم بالسيارة هو الخلاصة التراكمية لآلاف السنين، ولم يصل العقل البشري إلى إبداع فكرة المحرك إلا بتطور كبير للعقل البشري منذ ظهور الإنسان على الأرض، والمسألة ليست بسيطة، يمكن أن تشتري أي شيء ولكن أن تشتري العقل العلمي هذا الذي يصعب حصوله، إذا كان الأمر يتعلق بهذا الأصل الكبير في بناء العلوم فما هي شروط هذا البناء؟ وما هي شروط هذا التوطين؟

للجواب على السؤال نستحضر ما قلناه من علاقة تلازمية بين العلم الحضارة، وهذا يقتضي أن البحث العلمي وُجد بناء على هذا المشروع الحضاري، وهذا الأمر متعلق بالأمة كلها، وليس بالطبقة المثقفة فقط وإنما السياسيين أيضا هم معنيون، وأيضا بعقول ودواليب الأمة بقياداتها المختلفة، أيضا الشباب والمتعلمين عليهم أن يدركوا هذا وهو أن مشروع الحضارة لا يصنعه واحد وإنما تضعه النخبة المثقفة باعتبار أنها ترشد إلى الصواب في الموضوع، ولكن التنفيذ ليس بيدها دائما لذلك الحضارة الحديثة لم تستوي على سوقها إلا بعد تضحية علماء كبار بأرواحهم، وحرق كتبهم، وإذا بحثت في القرن السادس عشر والسابع عشر وحتى الثامن عشر ستجد غرائب حصلت لعلماء كبار في مجال العلوم الدقيقة قبل أن تنشأ في الغرب علوم بهذه القوة، المسألة هنا تتطلب أن يكون ثمة مشروع من جهة، وأن تكون إرادة التنفيذ موجودة من جهة ثانية. وبالتالي تحقيق هذا المشروع يتطلب أن تكون هناك عدة أبعاد منها البعد العلمي يعني كيف يمكن إعادة بناء العقل العلمي من جهة، ومن جهة أخرى البناء السياسي كيف نحدث هذه الإرادة السياسية التي تأخذ مشاريع ثقافية وتحولها إلى مشاريع قوانين، برامج ومخططات متوسطة وبعيدة المدى، وأيضا إرادة هذا الارتقاء الحضاري يجب أن تكون موجودة عند سائر فئات الناس، هذا شرط أساسي.

وهناك مسألة أخرى وهي أن هذا المشروع مشروع التوطين الحضاري لا يمكن أن ينجح إلا باستبدال ما يسميه البعض باستمولوجيا التنافر السجالي التي مع الأسف تسود بشكل كبير جدا في الانقطاع الثقافي للأمة وفي النخبة المثقفة التي من المفروض أن توفر معطيات البيئة المناسبة للأمة فضلا عن انقطاعات أخرى، لأنه لا ينبغي أن يكون اللوم فقط على المثقفين وإنما على الجميع، هذه الابستمولوجيا التي تقوم دائما على فكرة الإقصاء والصراع والنظر إلى العالم من داخل علبة واحدة وهي علبة المذهب، وهو المأزق أو الصيغة الثالثة التي تستبعدها فلسفة العلوم من طريقتها في وضع السؤال.

إذن لا بد أن تفهم العلوم من داخلها أي من داخل الأمة، أن تدرس العلوم بما يناسب أدواتها، أن تستعمل العلوم بما يناسب سياقاتها، يعني أن نصنع فئة أو مجتمعا قادرا على أن يتحرك بالعلم من داخله لا عن طريق الاستيراد، نحن نعيش على الاعتقاد بأن مجرد بناء الأبراج وركوب سيارة فخمة والسكن في فيلات بهَندسة معاصرة وبالتالي دخلنا إلى منتهى العلم وبناء الحضارة، وهذا هو الغباء. 

الحضارة ليست تحديثا شكليا للحياة، وإنما هي شيئ أعمق من ذلك، هي أولا صناعة العقل وإعادة صياغة العلوم باستقلال داخلي، ومحاولة إنشائها من الداخل، وهذا هو المقصود بالتوطين، فالَتوطين يجعل العلوم تنشأ من داخل وطننا بلغة ومفاهيم ومنهجيات وتشكلات برادايمية، فحينما ينشأ لدينا هذا الفهم الداخلي بتوطين العلوم نكون بالفعل قد خرجنا من القوقعة، في اتجاه السكة السليمة في البحث عن وسائل التمكين للأمة من جديد.

إلى جانب التنافر السجالي للنخبة المثقفة.. 4 عوائق تشوه مصطلح "فلسفة العلوم"
توطين المعرفة قد تعترضه عوائق تحول دون تحقيقه، ماذا يمكن أن تكون هذه العوائق إلى جانب التنافر الذي ذكرته وحذرت منه؟

  نستطيع بالاضافة إلى هذا التنافر الذي قلت والذي يترجم في تفكك عرى الأمة في نهاية المطاف، لأنه حينما تسود فينا عقلية ابستمولوجيا التنافر السجالي في العلوم، نحن نساهم بشكل كبير في تمزيق عرى الأمة روحيا بعد أن مزقت جغرافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودينيا وثقافيا، هذا أول العوائق الخطيرة التي يمكن بالفعل أن يشاهدها الإنسان بوضوح، لكن هناك ما له صلة مباشرة بسياق حديثنا وهو تشوه مفهوم فلسفة العلوم نفسه عند من يستعملونه أو عند من استقبلوه واستعملوه لأغراض معينة، في الحقيقة هو تشوه بيد أهل الفلسفة أنفسهم الذين أوتوا في بعض تخصصها حظا، ولم يؤتوا حظا في فلسفة العلوم والابستمولوجيا أو ما أفضل تسميته بفقه العلوم اختيارا مصطلحيا لهذا اللفظ وبالتالي ينشأ عن هذا نوع من إغراق فلسفة العلوم في مشكلات ليست ذات صلة بها، وفي هذا السياق أستطيع أن أقول أن هذه العوائق المتعلقة بتشوه المصطلح أختزلها أنا شخصيا في أربعة عوائق:

أولها، العودة بفلسفة العلوم أو الإبستمولوجيا إلى المعنى الكلاسيكي للمعرفة، لأن نظرية المعرفة تشكل عائقا ابستمولوجيا في المعرفة كما قلت سابقا، هذا المعنى الكلاسيكي بعقمه الفلسفي حينما تفهم الابستمولوجيا من داخله فأنت تنقل هذا العقم إلى الابستمولوجيا، ويؤدي هذا الى جعلها غير منتجة وغير نافعة.

المشكل الثاني في الفهم هو مشكل التجزيء التاريخي للعلوم، وهذا ما يفعله بعض مؤرخي العلوم ويظنون أنفسهم يمارسون الابستمولوجيا حينما يدونون ويكتبون في مدونات العلوم الإسلامية القديمة وفي مجال التشريع الاسلامي بل وحتى في مجال العلوم الدقيقة كما فعل المرحوم فؤاد سزكين مثلا فجُهده انصب على جزء من المعرفة مطلوبة للابستمولوجيين الذين يبنون عليها ما يرتبط بطبيعة أسئلتهم لا أن يقفوا عندها، لكن حينما نقف على الدراسة التاريخية مع التغني بأمجاد الماضي نحول هذه العناصر المتناثرة مما تركه التراث إلى مادة قابلة للبناء، هنا نضع أمام طريقنا عائقا كبيرا جدا تشويها لمصطلح فلسفة العلوم، إذن تاريخ العلوم هو جزء بسيط من عمل فيلسوف العلم لأنه جزء يبني عليه ولا يقف عنده.

الجانب الثالث ربما الأخطر من بين كل هذه الأمور، وهو التوجيه الإسلامولوجي للابستمولوجيا؛ الإسلامولوجيا هي ما يعرف بالدراسات الإسلامية، لكن في الغرب يسمونها الإسلامولوجيا والتي نشأت في أحضان الاستشراق كما هو معروف من موقع الرجل الأبيض الذي يريد أن يتعرف على الرجل الملون لكي يكون تابعا له. 

نشأت هذه الدراسات الاستشراقية رغم أن بعضها منصف بدون شك، لكن غلب عليها هذا التوظيف السياسي الفج والواضح بشكل كبير جدا، فالطَلبة الذين درسوا مادة الإسلامولوجيا في الجامعات الفرنسية مثلا وغيرها من الجامعات سرعان ما يعودون يبشرون بالدرس الابستمولوجي للعلوم، لكن ليس فيه من الابستمولوجيا إلا الاسم.

وقد تجد من يستعملون هذا المصطلح على غير وجهه الحقيقي، أمثال محمد أركون، فهذا التوجيه الابستمولوجي الذي يريد أن يستغل الابستمولوجيا للسير في نفس الأهداف التي تسطرها معاهد الدراسات الإسلامية في الَغرب لأهداف ليست دائما نقية حتى لا أعمم فهذا التوجيه أفسد مفهوم الابستمولوجيا.

الفساد الرابع دخل إلى الابستمولوجيا من الاستغلال المذهبي لمصطلح ابستمولوجيا، والاستغلال المذهبي لمصطلح الابستمولوجيا تجده عند بعض من يزعمون أنهم يكتبون في هذا الميدان، واستحضر منهم كتابات حسن عبد الحميد الذي كتب عن نشأة الابستمولوجيا، وكتب عن الغزالي وكتب أن ابستمولوجيا الغزالي أرقى من ابستمولوجيا ابن تيمية، ونظرية المعرفة عند الغزالي أرقي من حيث المستوى المنهجي والاستدلالي لأنها تنحو منحى استنباطيًا، بينما منهجية ابن تيمية تنحو منحى استقرائياً، وبالتالي الغزالي كان أرقى من ابن تيمية وزعم أن هذا درس ابستمولوجي، ولست أدري من أين أتى بهذا التركيب فلا الغزالي استنباطي ولا ابن تيمية استقرائي ولا الاستنباط أفضل من الاستقراء في العلوم المعاصرة، والآن العلم يركب بين الاستنباط والاستقراء وقد تجاوز هذه الثنائية منذ الثورة الميكروفيزيائية، منذ الثورات الإقليدية في الرياضيات وغيرها من الثورات العلمية المتلاحقة التي تجاوزت هذا العقل الثنائي.

والمشكل أحيانا قد تجد بعض الباحثين وهذا أيضا عند حسن عبد الحميد الذي أشرت إليه للتمثيل وليس للحصر قد نجده في سلة واحدة بأنه يستند في ذلك إلى الابستمولوجيا الارتقائية لجون بياجي مثلا جنبا إلى جنب مع ابستمولوجيا النقدية عند باشلار وجنبا إلى جنب مع ابستمولوجيا بول فايراباند المبنية على نقد المنهج، لست أدري كيف يمكن أن يجمع هذا الخليط، إذا كان باشلار وجُون بياجي من الممكن أن نبحث لهما عن قواسم مشتركة على ما بينهما من دقائق الاختلافات، فمن الصعب أن نجمع بين العقلانية الباشلارية الراقية جدا، وبين هدم أو نقد المنهج الذي سلكه غيرهم، أيضا تجد المرجعيات عند هؤلاء غير مضبوطة فلسفيا، وهذا يتردد مع الأسف، والمسألة كلها مسألة أيديولوجيا، لأنه إن كان في موقع نقاش مع حركات الإسلام السياسي يأخذ موقفا ديكارتيا مدافعا عن العقل، لكن إذا كان في موقع آخر يجنح إلى نيتش وإلى بول فايراباند وإلى هذه النسْبانية المطلقة، أو التنوع بحسب المخاطبة وحتى على المستوى الثقافي ليس هناك التزام فلسفي محدد، وبالتالي كل هذا يضعنا أمام عوائق حقيقية.

يجب أن نعيد النظر في هذا المصطلح وأن نضبط مفاهيمه، والابستمولوجيا هي درس تحليلي نقدي للمعرفة العلمية، أما هذه النقاشات الأيديولوجية التي تسخر المعرفة العلمية لأغراض مذهبية معينة فهذا نتركه للأيديولوجِيين يتصارعون فيه كما يشاءون، النقد العلمي لا بد أن يضع دائما عندما يتعرض إلى المعرفة العلمية أن يتساءل عن طبيعة موضوعاتها أن يتساءل عن منهجياتها، على الأصول والقواعد والإجراءات التفصيلية، أن يتساءل عن النماذج النظرية التي صنعت في إطار كل نموذج علمي معين، في إطار كل ممارسة علمية معينة، ما هي النماذج النظرية التي خرجت وسادت عصرا من العصور ثم أخيرا هذا هو المهم هذه العناصر الثلاثة ما هي المفاهيم التي يستعملها العالم وهو يفكر فيها؛ هذه أسئلة أساسية في الابستمولوجيا وهي تستبعد بالضرورة هذا النقاش الإيديولوجي الفج، ثم الاهتمام بتاريخ العلم الذي هو جزء من الاهتمام بالاستبمولوجيا لكن أيضا بزوايا محددة حتى لا نترك مجالا للعودة إلى سوسيولوجيا المعرفة العلمية بالمعنى السوسيولوجي.

البحث في تاريخ المعرفة ينبغي أن يتجنب سوسيولوجيا المعرفة بالمعنى السوسيولوجي الفلسفي، وأن يتجنب ما قلته سابقا التجزيء التاريخي الذي يكتفي بسرد الأحداث العلمية التاريخية، المعرفة العلمية في الابستمولوجيا تناقش عادة ما موقع التخصص أو معرفة معينة من خارطة العلوم في عصر من العصور وهذا سؤال كبير ومهم جدا سؤال تصنيف العلوم وتحقيبها، كيف تنتقل العلوم عبر حقب تاريخية حاسمة في مرحلة يسود فيها نماذج معينة بارادايم معين؟ ما هي هذه البراديمات التي سادت في إطار البيئة الإسلامية؟ كيف كانت خصائصها وكيف كانت تشكيلاتها وكيف ظهرت على المستوى التاريخي وكيف مرت بمراحل حاسمة؟ كأن نتكلم عن طريق المتقدمين والمتأخرين في أصول الدين مثلا ونحو ذلك. 

بعد ذلك نتكلم عن التقاليد العلمية والتقليد العلمي هو أساسي في مجتمع العلم كما ذكرنا قبل قليل، إذن كيف تشكلت التقاليد العلمية في إطار حضارة من الحضارات كالحضارة الإسلامية مثلا؟ لأنه إذا عرفنا هذا سنعرف كيف ننشئ حضارة أخرى كيف تنشأ هذه التقاليد العلمية؟ ما هي خصائصها المميزة لها في كل سياق تداولي معين؟

الاعتقادات التي توجه العلماء في إطار هذه التقاليد.. الأدوات الوسائل الديداكتيكية في حقل المعرفة من سياقها النخبوي عند العلماء.. سياقها التعليمي عند التلاميذ.. ما هي الوسائل التي استعملها المسلمون لنقل معارفهم إلى الأجيال المتلاحقة التي مرت عبر عشرة قرون؟

ثم أخيرا السؤال الرابع في إطار تاريخ العلوم هو المتعلق بالعوائق في المعرفة العلمية من الذي يحول بين العلماء في عصر من العصور، وبين استمرارية نشاط المعرفة العلمية. لماذا تنهار أحيانا المعرفة العلمية حتى لا نقع في المحظور مرة أخرى؟ فلابد للابستمولوجيا أن تجيب عن هذا السؤال فهذا هو الاختبار الحقيقي أمام فيلسوف العلم إذا أراد أن ينتسب إلى هذا النمط من الدراسة، وأن يحقق الصورة الحقيقية في هذا النشاط وأن يتجاوز العوائق المختلفة التي تحول بيننا وبين التفكير الابستمولوجي بشكل سليم.

"هم رجال ونحن رجال".. هكذا ترفض فلسفة العلوم التعامل مع الغرب من موقع التبعية 
ذكرت أن مصطلح ابستمولوجيا العلوم شهد توظيفا في العديد من التخصصات من قبل البعض، العقل الحداثي أو الحدثاني معروف أنه نقل المركزية من الدين وأقصد بذلك الإله إلى العقل، ثم إلى ما بعد الحداثة وأصبحت المركزية للإنسان بذاته فكان ذلك الفصل بين مفهوم القطيعة مع الماضي بالكلية والجزئية يعني فصل الوحي عن العقل، ثم العقل عن الإنسان عبر مشاريع عديدة مرتبطة بمناهج ومنطلقات وآليات أصلها من الغرب صناعة وتطويرا وحتى تطبيقا، جاء بعد ذلك الحداثانيون العرب ونقلوا هذه الأدوات وطبقوها على علومنا ومعارفنا الإسلامية. سؤالي هنا دكتور إدريس هل طرح هؤلاء ابتداء سؤال الصلاحية لدراسة علومنا الخاصة والتجارب ماثلة أمامنا حتى لا أحصر محمد عابد الجابري محمد أركون حسن مروة وغيرهم الكثير، في نظرك هل درسوا أصلا وتساءلوا عن مدى صلاحية هذه الآليات والمناهج للتوائم مع علومنا الخاصة؟

  هذا من الأسئلة التي يضعها الابستمولوجيون لما يناقشون مسألة المنهج في العلم، حيث نجد من أسئلة الابستمولوجيا ما يتعلق بالعلم نفسه من حيث البناء، موضوعه نموذجه النظري مفاهيمه، ثم الشق الثاني تاريخ العلم فلما نبحث في السؤال المتعلق بمنهج العلم ابستمولوجياً، نحن نستحضر أن المنهج هو خيار يتعلق بالموضوع وبالتالي لا بد أن يكون مناسبا للموضوع، لأن ثمة قاعدة في فقه العلوم تقول إن طبيعة الموضوع هي التي تحدد طبيعة المنهج، خصائص الموضوع تحدد الخيار المنهجي الذي يناسبه هذا السياق العام ويترجم ذلك في جزئية من جزئيات المنهج وهي الاستدلال، المنهج له مفهومه العام الذي هو أصول وقواعد وإجراءات تفصيلية، لهذه الاجراءات التفصيلية حتى على مستوى القواعد نضع ما يعرف بقواعد الاستدلال وتفريعاته؛ هنا أيضا الابستمولوجيا تشترط وتتساءل على الأقل في هذا السياق عن أن على الباحث أن يتساءل عن نجاعة الاستدلال في الجواب على ما وضع دليلا عليه، الاستدلال دليل والدليل يرشد ولا يتوه بالإنسان وإذا كان يرشد فإنه يرشدك إلى طريق معين نحو المقصد المعين الذي أنت تريده وهو ما نسميه بالموضوع، أنت مقصدك أن تبحث عن موضوع معين، إذ لا بد أن يكون هذا الدليل يدلك على الموضوع الذي أنت تسير إليه، وليس عندنا منهجا يفتح كل الأبواب.

الاستدلال في مجال النقد الحديثي مثلا عند المسلمين وأقصد نقد المتن وليس نقد السند، الموضوع له سياق طويل إذا كنت في سياق الاستدلال بالسند أيضا له خصائصه المميزة وأيضا نفس الشيئ بالنسبة للمتن، إذن الاستدلال في باب نقد المتن في الحديث ليس هو الاستدلال الأصولي صرف، مع العلم أن ثمة بعض الخصائص والجزئيات الأصولية لأنه من شروط سلامة المتن أن لا يتناقض مع الكليات الدينية.

لكن مع ذلك يظل الاستدلال في مجال نقد الحديث من حيث المتن استدلالا يجب أن يكون مناسبا لسِياقه، فإذا ذهبت إلى علم الكلام وجدت نفسك في جو آخر فنقل الاستدلال الأصولي إلى الكلام يشوهه تماما، يشوش الوسيلة والغاية أو المنهج والموضوع، ونقد الاستدلال الكلامي إلى الاستدلال الأصولي يشوه أيضا الموضوع والمنهج لأن الموضوع الكلامي يكون فيه الموضوع غائبا وليس شاهدا، والاستدلال في مجال أصول الدين يجب أن ينبني على هذه القاعدة علاقة الغائب بالشاهد لكن في المجال الأصولي نتكلم عن الشاهد لأن الأمر يتعلق بأصول الفقه، والفقه يتعلق بالأحكام التي يزاولها الإنسان وهي أحكام مشاهدة، لأن الفقيه يحكم على ظواهر السلوك وبالتالي فالِقياس الفقهي قياس شاهد على شاهد، حينما نقول شاهد على غائب لا نقصد به الغائب الميتافيزيقي، إنما الغائب في الماضي فقط والغائب في الماضي كان شاهدا، نحن إذن نمارس آلية معينة تناسب طبيعة الموضوع، فنْقل القياس الفقهي إلى مجال الأصول الكلامية خطأ يشوه الوسيلة والغاية، وهذا مثال فقط لتقريب الصورة وينطبق الأمر على العلوم المعاصرة ويجب أن نراعي دائما الموضوع الذي يستعمل فيها.

إن ما وقع لهؤلاء الحداثانيين أنهم لم يفقهوا هذه القاعدة فأخذوا الاستدلال من موضوعات ليست موضوعاتنا أي لم تكن أبدا موضوعات المسلمين وأرادوا أن ينقلوها من بيئتها إلى هذه البيئة التي لا توافقها في كل المعطيات على مستوى الموضوع أولا وعلى مستوى البيئة ثانيا نقلوها من موضوع غير موضوعها ومن بيئة إلى بيئة مخالفة لها تماما، وهذا النقل غير مبرر في الابستمولوجيا وإذا كان لديهم مبرر فليْفصحوا عنه، ولن يفصحوا عنه في حدود ما نعرف لأنهم اعتقدوا أن النموذج الحدَاثاني هو نهاية التاريخ، نهاية تاريخ العلم أقصد لأن ما وصل إليه الغرب هو النهاية، واعتقدوا أن النموذج الوحيد للعلم هو النموذج الغربي، والغريب أن هذا النموذج لم يدعي لنفسه ذلك على الأقل في إطار العلوم الدقيقة، بعض العلوم الفلسفية قد تدعي هذا أحيانا، والآن نجد الكثير من المشروعات الفلسفية في الغرب متواضعة جدا لا تريد أن تقدم نفسها كبديل للعالم، أو كمصلح للعالم وإنما كاجْتهادات، المنهج هو مسألة مفتوحة وليست مسألة صارمة، لأنها مرتبطة بسياقات معينة وبالتالي ليس هناك في المنهج نموذج واحد، بل هناك تعدد في المناهج، وبالتالي هناك تعدد في الأنساق، هذا في الفلسفة التي تعودنا منها منعطفات فكيف في المجال الرياضي والطبيعي؟ تجد الفيزيائيين والرياضيين الآن أكثر نسبية وأكثر تواضعا، فقط هذه الكبرياء العلمية توجد عند أشباه المثقفين الذين مع الأسف اعتقدوا أن العالم انتهى، وأن العلوم قد انتهت مع ما وصل إليه الرجل الغربي.

فهم لا يتحاورون مع الغرب من موقع هم رجال ونحن رجال، وإنما يتعاملون مع الغرب من موقع التبعية، وهذا ما ترفضه فلسفة العلوم باعتبار أن الأنساق العلمية أنساق تداولية، مرتبطة بالمكان والزمان والبيئة الحضارية ولا يمكن تعميم هذا على العالم كله.

لماذا نقد أصول الفقه يلغي إمكانية بناء العلم من داخل السياقات التداولية الحضارية للأمة؟
البعض يجعل علم أصول الفقه مادة متناولة للنقد ليتجاوز بعد ذلك إلى نقد العقل الإسلامي المنظر، الذي أنتج المعرفة في إطار منهجي ووفق قواعد صارمة ومقيدة، لماذا يتم التركيز على علم أصول الفقه لا أقول دون غيره، لكن أن يجعل في صدارة ما يتم نقده أو محاولة تفريغه من محتواه من قبل الذين ذكرنا سابقا؟

  في الواقع تاريخ العلوم الإسلامية في عصور قوتها شهدت ثورات علمية كبيرة، وكان علم أصول الفقه إحدى هذه الثورات ويمكن أن نقف على ثلاث أحداث كبيرة في تاريخ العلوم الاسلامية وهي:

حدث ميلاد علوم الحديث لأن ميلاد علم الحديث كان يعني ميلاد علم التاريخ، وعلم التحقيق الذي هو الآن من أهم ما تنتجه الحضارة الغربية في توثيق النصوص، وله ذيول كثيرة على المستوى الابستمولوجي نريد أن نقف عندها الآن وهذه الثورة مهمة جدا.

ثورة أصول الفقه لأنها وضعت العقل المنَهاجي للبحث في الإنسانيات عموما يعني الثورة الحديثية في اتجاه النص، صناعة النص والثورة الأصولية في اتجاه النظر في تجلياته الإنسانية لا في التجليات الميتافيزيقية، أي كيف يتصرف المكلف وهذا جعل أصول الفقه باعتبار أنها ترتبط بالروح أنها تستثمر المعطيات الحديثية طبعا وتستثمر معها معطيات علوم أخرى كعلوم اللغة على سبيل المثال وغيرها من أجل استخلاص الكليات التي تصبح فيما بعد منطلقات لصَناعة الفتوى، إذن هي نوع من البناء المنهجي وأصول الفقه كانت نوعا من البناء المنهجي لصناعة العقل النظري في الإنسانيات، الآن لو فكرنا في صناعة العلوم الإنسانية بمعزل عن هذا الإطار إطار الحضارة الإسلامية فنحن نعبث. 

الذين يتحدثون بين قوسين عن أسلمة العلوم باستيراد علوم موجودة في الغرب والبحث عن جلباب لها أو زي لها مزركش على الطريقة الإسلامية هم يخونون التاريخ، كما يخرجون عن قواعد فلسفة العلم، فلا يبنى العلم إلا من داخل البناء الحضاري للأمة ومن داخل سياقاتها التداولية، كان نقد أصول الفقه معناه إلغاء إمكانية هذا البناء الجديد على أصوله الحقيقية.

ثورة العقل الرياضي وهذه قل من يتنبه لها من مؤرخي العلوم حتى ممن يدرسون تاريخ العلوم الإسلامية من منظار الدراسات الإسلامية في البلاد الإسلامية وكليات الشريعة على سبيل المثال لا الحصر، فهم لا يعرفون بأن الرياضيات دخلت في تراثنا إلى جسم العلوم كلها حتى في اللغة، أول معجم في التاريخ وهو كتاب العين كما يعلم الجميع، وهو أول معجم صنع صناعة رياضية، الآن نكتشف بأن قواعد الرياضيات التي استعملها الفراهيدي تنتمي إلى ما يعرف بالتحليل التوفيقي، وهذا ليس غريبا لأنه كما يعرف في ترجمة الفراهيدي أنه كان عالم رياضيات، حتى قتلته الرياضيات، فالرجل كان عالم رياضيات وبالتالي هم أول من استعملوا الرياضيات في بناء اللغة، حتى في الفقه حضور الرياضيات كبير جدا وهذا ليس غريبا لأنهم اعتمدوا على القرآن وفي القرآن أيضا أصول هذه الرياضيات من حيث نظرية الأعداد الكسورية كلها موجودة في القرآن الأعداد الصحيحة كلها موجودة في القرآن، فبالتالي كأنما التكوين القرآني ساعدهم على صناعة هذا العلم، فالتأثير القرآني كان واضحا في صناعة المفاهيم الرياضية وكان مشجعا ومحرضا للعلماء على أن يشتغلوا بالعقل الرياضي.

كان لصناعة العقل الرياضي ثورة أخرى قادت إلى توجيه الفكر المسلم توجيها إلى الطبيعة الاستثمارية على أحسن وجه، وإلى الإنسان لكي يفكر بطريقة سليمة ويصوغ حياته بطريقة نافعة له ولغيره.

دكتور إدريس الجابري إسلامية المعرفة صحيح أنه كما تذكر الأمثلة أن المعرفة يجب أن تنطلق من المجال التداولي الخاص بالأمة، وفي حياتنا من القرآن والسنة والتراث الثقافي والفكري للأمة الإسلامية، لكن نرى إسلامية المعرفة تدور حول ثلاث محاور بحثية رئيسية أولا الاستيعاب النقدي للعلوم الاجتماعية الغربية، ثم فهم استيعاب النموذج المعرفي الذي تولدت عنه علوم التراث الإسلامي لتحاول في الأخير أن تخرج بمنهج يستوعب منجزات المناهج التراثية والحداثية ويتجاوز نقاط المفاصَلة المنهجية، في رأيكم أي هذه المحاور يشوبه الخلل أكثر بالنظر إلى الاعتراض الذي كان لديكم حول هذا النهج الذي تم سلكه في محاولة إنشاء معرفة إسلامية خاصة بنا في هذا الزمان، أو أي من هذه المحاور يشوبه الخلل أم أن المشكل أكبر من وجوده في محور واحد من هذه المحاور وهو في النظرة الكلية والتصور العام لهذه المحاولة التي شهدها المجال الإسلامي من سبعينيات القرن الماضي حتى الآن؟

  أنا أميل إلى المسألة الثانية لأن المسألة تصورية تمس المشروع كله، طبعا هذا لا يعني التعميم لأن التعميم مشكل، والاستثناء موجود، لكن المشروع سار في هذا الاتجاه وربما لانعزال كل متخصص في مجال تخصصه فهو لا يملك الرؤية الكلية التي تمكنه من أن يعرف مسار الحضارة الغربية والفكر الغربي عموما، ومعه في نفس الوقت مسار الثقافة الإسلامية التي ينتمي إليها تاريخيا، وهذه مشكلة عندما تجد هذه القطيعة في التخصص بين المسارين قد يخلق لدى الباحث الذي يسير في علم النفس وعلم الاجتماع وهو لا يعرف شيئا عن العلوم الإنسانية الأخرى، فما بالك بأصول الفقه والفقه وغيره من العلوم الإسلامية، وبالتالي يعيش في جزيرة مغلقة وقد يقع في الدهشة الطهطاوية في داخل جزيرته يعني يجذبه هذا العالم خاصة إذا درس في الغرب، والانفتاح الموجود هناك والمنهجية المنضبطة الصارمة في تلقي المعرفة، يؤدي به هذا إلى الاعتقاد بأن ذلك الذي يُنتج هو فعلا نهاية العِلم فيقيسُه على الرياضيات مثلا أو على الفيزياء، لأن هذه المعرفة بريئة من الأيديولوجيا وممكن أن أنقلها فقط علي أن أبحث عما يناسب على المستوى الاصطلاحي من مفردات تعبر عنها، فيبدأ يبحث لها عن لباس كما قلت أو جلباب لترتدي هذه الحُلة، إذن مشكلة التخصص الضيق كما كان لها إيجابيات تعمق المعرفة بمجال معين، لكن كان لها سلبيات أنها جعلت من الإنسان يعيش في جزيرة معزولة وحينما يريد أن يجتهد في هذا الباب، يجتهد من داخل الجزيرة التي يعيش فيها اعتقادا منه أنها كل شيئ، وأنها هي العلم النهائي لكن في الإنسانيات لا يوجد علم نهائي.

من عايش العلوم الإنسانية في أي موضوع يتناولونه تجد آراء كثيرة جدا ومتضاربة ومختلفة بحسب المنهجيات التي يتبناها العالم، المرجعيات التي يضعها لنفسه أو يأخذها من غيره، ويبني عليها ما داموا هم ليسوا متفقين على هذا المسار فلماذا أندهش أمامهم؟ وأشعر بهذا النقص وأبحث فقط عن مصوغ لنقل المعرفة حرفي؟ هذا ضد مفهوم التوطين.

تريد أن توطن علما عليك أن تتغذى من تربته، وأن تُجري عليه عملية استقلابية حقيقية بالمعنى البيولوجي، كيف تهضم العلم هضما جيدا وتلقي ما لا ينفع وتأخذ ما ينفع هذا هو منطق الشرع، نحن لا يهمنا من أنتج العلم لكن يهمنا هذا العلم هل هو فعلا علم كله أم فيه الدَخَنْ؟ وعلينا أن نلقي بالدخن ونأخذ بالصافي، إذن التخصص الضيق خلق هذه المشكلة.

ثانيا، هناك أيضا مسألة أخرى وهي أن ضعف المعرفة للأمور الشرعية من قبل أهل الاختصاص في الإنسانيات كان سببا وراء ذلك، وفي الحقيقة أغلب من قام بهذه الأسلمة ليسوا مؤهلين للأسلمة، كيف تريد أن تعطي جنسية لشخص وأنت لا تملك ذلك الوطن، وتدعي أنك تملك وطنا وتريد أن تجنس فيه الآخرين والمسألة شبيهة بهذا السياق، فلا تعطي الجنسية لفرويد وأنت تعلم أن نظريته التحليلية ليست سليمة وأنت لست مؤهلا لذلك من حيث هذا الوطن الإسلامي بعمق تاريخه وثقافته وإبداعاته في دقائق النفس الإنسانية، فكيف تريد أن تجنس الآخر وتجد له مشروعية فقط بزركشة كلامية وغطاء مصطلحي غالبا ما لا يستعمل في سياقه، فيفسد المصطلح ويفسد معه الموضوع، الأمور تأخذ في سياقها العام وبدون هذا الوضوح النظري وبدون هذا الوضوح الابستيمي.

إن توطين العلم ينبغي أن ينشأ أولا من داخل العلوم ومن شخص مؤهل لهذا التوطين، لذلك لا ينفع أن يتم إلا بجماعات علمية وهنا نرجع إلى مفهوم ابستمولوجي يتداوله فلاسفة العلوم كثيرا وهو مفهوم الجماعة العلمية فلا يمكن أن ننشئ جماعة علمية في مجال علم النفس من هؤلاء الذين يعيشون في هذه الجزر البعيدة عن الهم الحضاري، لا بد أن نجمعهم من كل تخصصاتهم ونضيف عليهم المتخصصين في مجال الإسلاميات المتعمقين فيها والمتشربين لها فيجلسون في جلسات حوار مطولة لكي يناقشون تفاصيل الأمور وحين ذاك يضعون النُقط تحت الحروف وفوق الحروف حتى لا يقع خلل في هذا البناء العلمي المنشود.

مبدئيا لست ضد أن يصبح العلم جزءا من حضارتنا الإسلامية الذي هو أسلمة العلوم ولكن بالشروط التي قلت التي تختزل في مصطلح التوطين توطين المعرفة العلمية.

قِصر النظر الابستمولوجي.. حين يُتعامل بانفعالية مع المعرفة العلمية
دكتور عودة إلى المقارنة بالتوظيف الابستمولوجي والاهتمام بالاستبمولوجيا من التيار الحَداثاني كما ذكرنا هناك ما تسمونه في مقالاتكم بقصر النظر الابستمولوجي في التراث، ما أسباب هذا القصر وما نتائجه المعايشة والمشاهدة؟

  عموما المسار الذي سارت فيه مشاريع الإصلاح أو ما يسمى بالنهضة في التاريخ الحديث للمسلمين نهايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، هذا المسار كان مسارا غير دقيق وغير سليم لأنه بني على فكرة الدهشة الطهطاوية، وأحيانا يسمونها بالصفعة إذا نُظر إلى رحلات الغرب إلى الشرق وتسمى بالدهشة إذا نُظر لرحلات الشرق إلى الغرب، الذين يرحلون إلى الغرب يندهشون والغربيون الذين يأتون إلينا يْصفعوننا، في الحالتين نحن نتعامل بانْفعالية مع المعرفة العلمية وهذه خلاصة في جانبين، إما تحت الشعور بالإعجاب الناتج عن الدهشة، أو الشعور بالنقص الناتج عن الصفعَة للصدمة في كلا الحالتين نتعامل بانفَعالية، تعاملنا لعقود طويلة بانْفعالية مع المعرفة العلمية وآن الأوان لنَتعامل من موقع الوعي الحقيقي لخَصائص هذه المعرفة، وهو أمر المطلوب في عملية البناء الحضاري وصناعة مجتمع العلم والمعرفة، إذا فكرنا بهذا المنطق ربما نتجاوز ما وقع فيه أولئك الذين بدأوا المشوار بطريقة مبنية على الانفعال أكثر من الوعي، نحن نعتبر هؤلاء المتأخرين الذين ظهروا في السبعينيات والثمانينيات ومازالوا إلى اليوم يرددون نفس الأمور، هم استمرارية لهذه النشأة غير الطبيعية لهذه الولادة غير الطبيعية للفكر العربي الحديث، خاصة الفكر العربي المكتوب بالعربية، إذ نجد بعض العلماء من الذين يكتبون بغير العربية من المسلمين أحيانا أكثر وعيا ممن يكتبون بالعربية، لكن الظاهرة الغالبة في الكتابات العربية الحداثانية غالب عليها لحظة الاندهاش أو الشعور بالنقص الذي أدى إلى مركب نقص لاشعوري فيما بعد، وهو أن أثر الصفعة يعطي هذا الشعور بالنقص لكن فيما بعد يصبح مركبا نفسيا لاشعوريا عند الحداثانيين ولا يشعر بأنه ناقص، هو يعيش المركب ولكن لا يعيه لأنه حين ننتقل إلى لحظة الوعي سيدرك بأنه عليه أن يستكمل نقصه، كونه لا يعي بأنه ناقص وهذه هي المشكلة هذه هي الأزمة النفسية الحقيقية التي علينا أن نشخصها كباحثين في تاريخ العلم وفي العقل العلمي المنتج للمعرفة العلمية، وهذه المشكلة كبيرة تحتاج إلى مزيد تفصيل في القادم بإذن الله.

دكتور يستهين البعض بخصوصية العلم الإسلامي ويزعمون أن العلماء العرب والمسلمين أخذوا علومهم عن اليونان وعن الفرس وهذا معروف، ويقولون أن العلماء المسلمين اكتفوا بالشرح والتعليق، هل ترى أنه في هذا الأمر إغفال وجهل لأهمية الوحي في تأسيس عقلية منهجية جديدة هي التي قدمت إسهامات نوعية نظريا ومنهجيا؟

  هذه الدعاوى ترجع غالبا إلى عدم شيوع فكرة فلسفة العلوم وكيف تنظر إلى العلاقات بين العلوم في المجتمعات، وكيف تنشأ العلوم في المجتمعات.. هذه المسألة حساسة ومهمة جدا ويصطلح عليها عادة بمصطلح "التوارث العلمي" والتوارث العلمي يكون في علوم دون علُوم، كل حضارة تِرث عن حضارة أخرى علوما دون علوم، نتحدث هنا على الخصوص على العلوم الدقيقة لأنها هي الإرث الذي يجنح فيه الإنسان إلى التراكم أكثر من القطيعة من جانب العلوم الدقيقة، فالرياضيات مثلا يجنح فيها الإنسان إلى التراكم أكثر من القطيعة لا أقول التراكم قطعا دائما بل أقول التراكم أكثر لأنه حتى في العلوم الدقيقة تحدث ثورات وتغيِيرات وتجْديدات وإضافات كبيرة جدا، المسلمون في الرياضيات أضافوا أشياء كثيرة لا يكاد يحصرها العد العلمي، حتى علوما لم تكن معروفة وأوجدوها داخل العلوم الدقيقة، لذلك قلت يميلون إلى التراكم ولم أقل أن العلوم بطبيعتها تراكمية، فقط قد يتم تصحيح أخطاء ومراجعة أشياء وقد حدث هذا من قبل علماء مسلمين بدليل أن ابن الهيثم مثلا صحح كثيرا من النظريات في مجال البصريات، الهيئة، علم الفلك إن لم يكن الفلاسفة الكبار من أمثال ابن سينا وابن رشد خصوصا يرضون على ابن الهيثم كل الرضا لأنهم كانوا واقعين تحت نوع من الدهشة الطهطاوية المعاصرة، كانت لديهم دهشة أمام أسطورة المعلم الأول، كانوا واقعين تحت خرافة أسطورة المعلم الأول فأبعدهم عن متابعة التجديد الذي وقع في المعرفة العلمية الدقيقة، إذا حصل هذا في المعرفة العلمية الدقيقة حصلت تغييرات وإضافات وتصحيحات، فما بالك بالعلوم التي لم يشهدها التاريخ من قبل، وقد ذكرت أمثلة سابقا من ثلاث ثورات إذا أخذنا الثورة الأولى والثانية هذه العلوم لم يعرفها العالم قبل المسلمسن، علوم تصحيح الخبر وتصحيح الرواية لم يعرفها العالم قبل المسلمين، علم أصول الفقه وما يتصل به من علوم أخرى من علوم اللغة وعلوم أخرى كثيرة جدا جدَّتْ في حياة المسلمين لم يكن يعرفها اليونانيون.

فإذن كل حضارة تأخذ بعض العلوم من سابقاتها، وتَراكُمها بعد عمليات تصحيح وتطهير وتبديل وإضافة، ثم تضيف علوما جديدة لم يكن يعرفها الإنسان من قبل.

حدث هذا مع المسلمين وحدث مع اليونان مقارنة بمن سبقوهم، لنكون منصفين وحدث مع الغربيين اليوم مقارنة مع المسلمين بحيث أضافوا علوما كثيرة لا نعرفها، ولم نكن نعرفها فحتى في مجال العلوم الدقيقة فهذه طبيعة الأمور، الغربيون أخذوا وترجموا الكتب الإسلامية واستفادوا منها وراكمواها وأضافوا إليها، وهنا أتحدث عن العلوم الدقيقة وسرقوا بعضها أحيانا ونسبوها لأنفسهم وهذا من سوء أخلاق بعضهم، لكن المهم أنهم يأخذون أشياء ويضيفون من عندهم أشياء هذا هو المقصود، وهذا هو منطق الحضارة ومنطق التاريخ، والذي يجهل هذا المنطق فإنما يجهله لأنه لا يعرف أو لم يقرأ ولم يتمرن بمفهوم التوارث العلمي في مجال فلسفة العلوم، ويمكن لفلسفة العلوم أن تضيئ هذا المفهوم وتبين أن العلم ينشأ مع الحضارة في علاقة تفاعلية كما أشرت في الأول بين البحث العلمي من جهة، وبين الحاجات الحضارية من جهة ثانية والحاجات الحضارية قد تؤدي إلى ولادة علم، لأن الحاجة الجديدة تحتاج إلى ولادة علم لم يكن معروفا هذا هو وضع تاريخ العلم وتاريخ الحضارة. لعله درس مهم جدا نستفيده أيضا من الاشتغال بفلسفة العلوم.