لقد كرَّم الله تعالى البشر غاية التكريم، ورفع شأنهم، وأعلى منزلتهم، وسخَّر لهم ما في السماوات، وما في الأرض، والبحار والأنهار. وجعلهم سادة على الكون، وعلى ما فيه من مخلوقات.. يسرحون، ويمرحون، ويصعدون السماء، ويغوصون في البحار، وينزلون في أعماق الأرض؛ ينقبون فيها؛ ويستخرجون منها خيراتها الدفينة. وجعل الله كل ما في هذا الكون، من مخلوقات مادية، أو مخلوقات بهيمية، أو نباتية في خدمة البشر، وسمح لهم أن يستخدموها كيفما يشاؤون، بحرية كاملة.
فها هو سبحانه يخبرهم، بأنه أنزل لهم من السماء ماء؛ كي تنبت الأرض زرعها، وتخرج ثمراتها، وسخر لهم البحار والأنهار لتجري السفن على سطحها وتنقلهم من مكان إلى مكان آخر.
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ (٣٢)﴾ إبراهيم.
كما خلق لهم الأنعام والدواب ليركبوها ولتحمل أثقالهم وليأكلوا من لحمها ومن ألبانها ويلبسوا من أصوافها وجلودها.. ولقد جعلها لتكون تحت إمرتهم ولتكون خدماً لهم تطيع أوامرهم بدون أي اعتراض وليكونوا هم ملوكاً عليها وليس لتكون هي ملوكاً عليهم.
﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ (٨١)﴾ غافر. ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ﴾ النحل 7.
مراحل خلق الإنسان
وأهم شيء في هذا التكريم – الذي قد لا يلتفت إليه كثير من الناس، ولا يولونه أية أهمية، أو أي اعتبار..
- أنه خلق أبا البشر آدم عليه السلام بيده، من تراب، (والله خلقكم من تراب) فاطر 11.
- ثم تركه فترة من الزمن حتى أصبح طيناً لازباً ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)﴾ الصافات.
- ثم تركه حتى أصبح حمأ مسنوناً، (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) الحجر 26. ويقول ابن عباس: أي من طين رَطب.
- ثم تركه ليجف حتى أصبح صلصالاً كالفخار، (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) الرحمان 14.
- ثم نفخ فيه من روحه. وجعله إنساناً سوياً في أحسن تقويم. وأمر الملائكة بالسجود له تكريماً، وتشريفاً، وتقديراً، واحتراماً، وتعظيماً. ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩)﴾ الحجر.
وهكذا نرى أن خلق الإنسان قد مر في خمس مراحل، وكان بالإمكان أن يخلقه كما خلق الملائكة، بكلمة كن فيكون. ولكن الله جل في علاه، أراد لهذا الإنسان، التكريم، والتقدير، والتعظيم، وزيادة الاهتمام به.
ومما يثبت، ويؤكد تكريم، وتقدير، واحترام، وتعظيم البشر بشكل واضح، وقاطع، وحاسم.. ما جاء في كتاب الله الذي يُتلى إلى يوم القيامة
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا (٧٠)﴾ الإسراء.
ويقول الطبري في تفسيره لهذه الآية (قالت الملائكة: يا ربنا إنك أعطيت بني آدم، الدنيا يأكلون منها، ويتنعَّمون، ولم تعطنا ذلك، فأعطناه في الآخرة، فقال: وعزّتي لا أجعل ذرّية من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان.).
لقد أراد الله عز وجل، للإنسان، الرفعة، والعلو، والسمو، بل وجعله خليفة له في الأرض، حسب الحديث الذي جرى بين الله والملائكة ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة 30. لكن الجاهلية الجهلاء الحديثة، والأنظمة العلمانية المعادية لله، وللإسلام، تسعى جاهدة على إهانة، وإذلال الإنسان أيما إذلال..
بل وتعمل على تفضيل الحيوانات الشريرة الضارة المضرة عليه، بل وتجعلها هي السيدة والملكة عليه، وتعطيها من الحرية، أكثر مما تعطيها للبشر كافة، مستهينة ومستخفة بكل الميزات والخصائص الفريدة التي خصها بها، كما بينها الله تعالى لهم في كتابه، وما ذكر من فضله وإحسانه على الإنسان.. حينما خلقه في أحسن صورة، وأجمل هيئة. إلا أن هذا الإنسان الجحود الناكر للجميل، أبى إلا الكفر والنزول إلى أسفل سافلين.. وهي النار كما قال ابن كثير في تفسيره
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ التين 4-5.
مظاهر الحضارة الحيوانية
فالبقر! يتمشى ويتبختر في شوارع وطرقات بعض البلدان، ولا يتجرأ أحد من البشر على اعتراض طريقه، بل هو معبود من دون الله، ومبارك يُتبرك ببوله؛ فيُشرب، وبروثه؛ فيُأكل؛ ويُحرم أكل لحمه الذي أحله الله للبشر جميعاً.
والكلاب الضالة، الشاردة! تسرح، وتمرح، وتتبختر، وتتنمر في شوارع وطرقات بلاد كثيرة، وتعتدي على البشر، وخاصة الأطفال، والنساء، والمستضعفين.. فتفترسهم، وتقتل منهم المئات أو الألوف شهرياً، ولا أحد يتجرأ على أن يدافع عن نفسه، فيقتلها.. لأن القانون العلماني الجاهلي المتحدي لقانون الله، يُحرم ذلك، بل ويعاقب بالسجن، والقتل، والتعذيب لكل من يقتل كلباً.
فعندهم! قتل الإنسان، أهون وأرخص من قتل الكلب العقور، الشارد، الضال، المتوحش.. بينما في الهدي النبوي، فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بقتله في الحل والحرم. يعني حتى ولو كان الإنسان محرماً للحج، يحل له، ويجوز له، ويُباح له، ولا حرج عليه؛ أن يقتله إضافة إلى قتل حيوانات أخرى سماها فواسق.
ففي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة
(خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ في الحِلِّ وَالْحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ، وَالْحُدَيَّا).
فإذا كان يحل للمحرم للحج وفي أرض الحرم، قتل الكلب، فبالأولى خارج الحرم أن يُقتل ذلك الكلب النجس، الشرس، المتوحش، العقور الخطير، الذي أثبت الطب الحديث وجود بعض الجراثيم الممرضة، المؤذية في لعاب الكلاب.
وفي حديث مسلم عن عبد الله بن عمر، أمرٌ نبويٌ صريحٌ وواضحٌ؛ بقتل الكلاب أينما كانوا.
(كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُ بقَتْلِ الكِلَابِ، فَنَنْبَعِثُ في المَدِينَةِ وَأَطْرَافِهَا فلا نَدَعُ كَلْبًا إلَّا قَتَلْنَاهُ، حتَّى إنَّا لَنَقْتُلُ كَلْبَ المُرَيَّةِ مِن أَهْلِ البَادِيَةِ يَتْبَعُهَا.).
وتحذير شديد اللهجة منه في البخاري، عن عبد الله بن عمر، لعدم اقتناء الكلاب إلا للأغراض التالية:
(مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إلَّا كَلْبًا ضارِيًا لِصَيْدٍ أوْ كَلْبَ ماشِيَةٍ، فإنَّه يَنْقُصُ مِن أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قِيراطانِ.).
وتنبيه في البخاري عن أبي طلحة زيد بن سهل بأن الملائكة لا تدخل بيتً فيه كلب.
(لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ ولا تَصاوِيرُ).
ولكن حضارة الحيوانات، وزعماء تلك الحضارة، يرفضون رفضاً قاطعاً الانصياع، والانقياد لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أدى إلى هلاك البشرية، استكباراً، وعلواً وحسداً من عند أنفسهم، وبغياً، وظلماً، وعتواً. بل الأعجب، والأغرب في هذه الحضارة الحيوانية، أنك ترى أن الكلاب، تحظى بالرعاية، والعناية، الفائقة من قبل البشر؛ بشكل يدعو إلى الاشمئزاز، وإلى القرف، وإلى الغثيان، بل وإلى التقيؤ.. حيث تراها توضع في الأحضان، وتُقبل، وتُعانق!! بل والأكثر اشمئزازاً، ونفوراً قيام عدد غير قليلٍ من النساء الاباحيات، بالمعاشرة الجنسية مع الكلاب!. بل وأكثر اندهاشاً، وسخرية؛ قيام عدد غير قليل من رؤساء، وملوك، وأمراء الدول – ذكراناً وإناثاً – باصطحاب كلابهم معهم أينما حلوا وأينما ارتحلوا، في زياراتهم الرسمية، بلا خجل، ولا حياء. والأموال التي تُنفق على إطعام هذه الكلاب المدللة، المرفهة.. لو أنفقت على الجائعين والعطاشى والمساكين والمحتاجين؛ لأغنتهم وكفتهم حاجتهم.
وبمتابعتنا لمسلسل السخرية والتعجب والاندهاش من سلوك الذين يربون الكلاب في بيوتهم – ليس للحراسة – بل للتمتع بها، واعتبارها من أحد أفراد الأسرة إذ أنها تجلس على سرر موضونة، وتتكئ على الأرائك والوسائد، وعلى فرش بطائنها من استبرق. وتجد الواحد منهم، هو الذي يعتني بالكلب؛ فينظفه؛ ويُحممه؛ ويخرج به إلى الهواء الطلق، للنزهة والاستجمام منذ الصباح الباكر قبل طلوع الشمس.
وانتشرت جمعيات الرفق بالحيوان في كل مكان وجندت جنوداً كثيرة للعناية والرعاية بهذا الحيوان وجمع له التبرعات الطائلة وتداعى أفراد من سلالة المسلمين إلى جمع التبرعات للحيوانات وإخوانهم من سلالات المسلمين يموتون جوعاً وعطشاً ولا توجد ولا جمعية واحدة للرفق بالإنسان!
وحينما يحتج أحد المفكرين على هذه التصرفات المخزية المشينة التي يقوم بها ذراري المسلمين من الاهتمام بالحيوان أكثر من الإنسان يصرخون بأصوات منكرة ووقحة بأنهم يريدون المغفرة بناء على الحديث الذي ذكر المغفرة لمن سقى كلباً ويتركون نهاية الحديث المروي في البخاري عن أبي هريرة الذي يقول:
(في كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ). أليس لدى الإنسان كبد رطبة أيضاً؟! وأليس جمع التبرعات لسقاية هذا الإنسان الجائع العطشان، أهم وأكبر أجراً من تخصيصها للحيوانات، وترك البشر يموتون يومياً بالآلاف جوعاً وعطشاً؟!