على فترات متباعدة، وخصوصًا عندما تكون هناك حملات لجمع التبرعات لمخيمات اللاجئين تشرح أوضاعهم المتردية والظروف التي يعيشها الأطفال هناك، تتعالى بعض الأصوات بالسؤال المتكرر "لماذا ينجب اللاجئون في مخيمات اللجوء رغم درايتهم الكاملة بظروف العيش غير الملائمة التي ستستقبل أطفالهم الجدد"؟ غالبًا ما يُستخدم هذا السؤال كزريعة لعدم التبرع لأنه يلوّح إلى عدم أحقية اللاجئين (من وجهة نظر السائل) في طلب العون لنجدة أطفالهم وهم من "اختاروا" انجابهم في مثل تلك الظروف. والبعض يجول السؤال بخاطره ويخجل من طرحه بصوتٍ عال. ورغم أن السؤال في ظاهره استنكاري، إلا أنه يعكس عدم القدرة الحقيقية للسائل على فهم احتمالات أسباب إنجاب اللاجئين في مخيمات اللجوء. لأنه لو فهم لماذا، لما سأل. لذلك دعونا اليوم نتعامل مع هذا السؤال على أنه سؤال استفهامي ونحاول معًا أن نفهم بعضًا من ملامح حياة اللاجئين. 

المُهجرين قسرًا

ابتداءً، أدعوكم لتغيير المصطلح الذي نطلقه على ساكني المخيمات. هو لم يلجئوا باختيارهم إلى تلك الحياة المُزرية. هم هُجروا قسرًا وأُخرجوا من ديارهم. ونجد في القرآن الكريم تكريم كبير لمن أخرجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا، كما نجد وعيدًا لمن يرتكب ذلك الظلم الكبير بإخراج الناس من ديارها واقتلاعهم من جذورهم. فهم "المُهجرون قسرًا من بيوتهم" وليسوا "اللاجئين". هم فقدوا كل شيء وفقدوا ملامح الحياة الطبيعية وليس فقط الحياة الكريمة. لذلك أي شيء يحدث لهم في تلك المخيمات هو تعامل منهم مع وضع أُكرهوا عليه ولم يختاروه طواعية. أعانهم الله وعافاهم مما هم فيه والحمد لله الذي عافانا مما كان يمكن أن يكون مصير أيٍ منا. فهناك حقائق قليلة يقينية في هذه الحياة، منها أن أي منا يمكن أن يحدث له أي شيء في أي وقت. لا أحد مُحصّن من أي مصير. فالأولى أن نلتزم بعض التواضع قبل أن نتناول حياة أي إنسان لم نمر بظروفه. والأهم أن نفهم أنه لا شيء يأتي بالاختيار الحر في حياة "المُهجّرين قسرًا". 

الاحتمالات اللوجستية

إذا افترضنا أن الأزواج في مخيمات اللجوء لا يريدون الإنجاب في ظل تلك الظروف القاسية، علينا أن نسأل عن الخدمات، والوسائل الصحية المتاحة لهم في ظل تلك الأجواء للحصول على سبل منع الإنجاب والرعاية الصحية اللازمة لذلك. لا أعلم الكثير عن حياة المخيمات، ولكن في ظل عدم توافر أساسيات الغذاء، والمياه النظيفة، والتدفئة، والوقاية من الأمطار، وأقل سبل العيش الكريم، ليس من الصعب أن نتخيل أنه لا تُقدم لهم أية خدمات صحية تُذكر. فما السبيل إذًا لتنظيم النسل في ظل تلك الظروف؟ 

هناك من يأخذ المسألة إلى زاوية أكثر جرأة بحيث يستنكر وجود علاقة بين الزوج وزوجته في مثل تلك الظروف، ويتوقع منهما ضبط النفس كنوع من تحمّل المسؤولية والنضج. وأرى أن هذا توقع ظالم، ومُجحف يخلو من الإنسانية، والواقعية معًا. فالمهجرون قسرًا قد فقدوا كل شيء، وكل متعة في الحياة، وكل الأساسيات وليس فقط الرفاهيات. هم يتعلقون في الحياة بحبلٍ رفيع مهترئ يكاد أن ينقطع. فهل نحمّلهم أكثر مما يتحملون ونطالبهم بإيقاف الحياة تمامًا والامتناع عن أي سببٍ للسعادة أو أية لمحة لحياة شبه طبيعية في أيديهم؟ إن عدم فهمنا لطبيعة الظروف الفيزيائية، والإنسانية للمُهجرين قسرًا، هو الذي يجعلنا نسأل مثل هذه الأسئلة. وهي أسئلة قد تكون مشروعة إذا كانت استفهامية. لكن في ظل أزمة المُهجرين قسرًا، لا أعتقد أن أي سؤال استنكاري لتصرفاتهم يكون لائقًا أو منطقيًا. 

الاحتمالات الإنسانية

أما إذا فكّرنا في الاعتبارات والاحتمالات الإنسانية التي قد تدفعهم للإنجاب، فيأتي إلى ذهني احتمالان. الأول هو أنهم بالتأكيد لا يعرفون متى تنتهي أزمتهم. فمن يعتقد مثلاً أن أزمته ستنتهي في خلال عام، يمكنه أن يخطط لحياته على هذا الأساس. أما من لا يرى أية بقعة للضوء في نهاية النفق المُظلم، فإلى متى يمكنه أن يضع حياته على "خاصية الانتظار" ويوقف كل شيء فيها؟ من حق أي أسرة ترغب في إنجاب أطفال أن تسعى لذلك. ومع غياب أية بوادر لانفراجة مستقبلية في الوضع، من الذي يمكن أن يطالبهم بتأجيل أبسط حقوقهم، وأحلامهم، في طفل يرسم البسمة على وجوههم؟ 

الاحتمال الثاني الذي يأتي إلى ذهني، هو الاحتمال العملي. إن مهمة العناية بطفل حديث ولادة، تتطلب تفرغًا، وإيقافًا مؤقتًا لأنشطة الحياة من أحد الوالدين، وتكريس لجزء كبير من الحياة من الطرف الثاني. ورغم أن ظروف البقاء القسري في مخيمات هي ظروف غير مثالية، إلا أنه وضع منطقي (رغم غرابة الكلمة) لمن يأمل في أن تنطلق حياته مجددًا بعد انتهاء محنة المخيمات، فيعود إلى صفوف الدراسة، وميادين العمل. فربما تبدو فكرة إنجاب الأبناء في ظل هذه الظروف القاسية، مُغرية من هذه الناحية حيث هناك تفرّغ من الوالدين للأطفال في سنّهم الصغيرة برغم قسوة الظروف المعيشية، على أمل أن تبدأ حياتهم من جديد في القريب أو البعيد وينصرفون إلى بناء تلك الحياة الجديدة في وضع سيكون مجهولاً على الأغلب ويتطلب الكثير من التفرغ للسعي، والمحاولات للاندماج، والاستقرار وربما تعلّم لغة جديدة.  

وفي كلتا الحالتين، ينبغي أن يسعى العالم لدعم المُهجرين قسرًا في أية أهداف يرونها مناسبة لأوضاعهم ولحياتهم. وليس علينا أن نقوم بدور المُحللين المقيّمين لقراراتهم، وأفعالهم. 

وما ذنب العالم يتحمل تبعات قرارات المُهجرين قسرًا؟ 

فعلا، لماذا يتبرع إنسان يعيش في العالم العربي أو مهاجر يعيش في العالم الغربي لدعم المُهجّرين قسرًا إذا كان لا يتفق مع ما يفعلونه في حياتهم، كإنجاب الأطفال في مثل تلك الظروف؟ برأيي، هناك بعض الأسس التي نحتاج لإرسائها لكي نتمكن من إجابة هذا السؤال. 

أولها، هو أن أي عون يمده أي شخص لمن يحتاجه، هو حق وليس فضل ومنّة. جعلنا الله وإياكم ممن قال ﷻ فيهم في سورة المعارج "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)". فهو حق وليس فضل أو "تبرّع". وهذا الحق عندما يُصرف لمستحقه، لا ينبغي أن نستجوب الشخص عن سيرته الذاتية قبل صرفه إلا إذا كان سينفقه في محرّم. تخيل مثلاً أنك وجدت فقيرًا في الطريق وأعطيته بعض المال، وراقبته بعد ذلك فوجدته يشتري به كوبًا من القهوة وبعض الكعك الفاخر. يمكنك أن تغضب وتقول كان الأولى أن يشتري طعامًا يسدّ به جوعه، أو أن يشترى قميصًا يستره. لكنه ربما يشتهي هذا الكوب من القهوة وسيصنع فارقًا في حالته النفسية كلفتة رفاهية نادرة في حياته وتحمل معنى أكثر من معنى القميص أو الطعام الأساسي! إن شأن تحديد الأوليات يرجع له هو وليس لمن يُعطي. والله ﷻ يرزقنا وهو يرى أننا ننفق فيما يستحق وما لا يستحق. 

ثانيها، أن العالم أجمع يتحمّل نتيجة ما وصلت إليه أوطان المُهجّرين قسرًا، وتتفاوت درجة مسؤوليتنا عنه. هناك منا من يعيش في بلدان صمتت على الاستبداد، والممارسات الوحشية تجاههم في بلدانهم، ولم تتدخل لنصر الضعفاء، والأبرياء. فهؤلاء جريمتهم الصمت والتجاهل التام لظلم يتعرض له ضعفاء. ومنا من هو مصيبته أكبر فهو يعيش ويدفع ضرائب وينتخب المسؤولين في بلدان ساهمت بالتدخل الرسمي العسكري أو الدبلوماسي في تفاقم الأزمة في تلك البلدان. 

فكلٌ منا مُدان بدرجة أو بأخرى ونسأل الله ﷻ أن يرحم عجزنا وتقصيرنا ونبرأ إليه من كل ما لا يرضيه. فالأمر ليس اختياريًا على من يستطيع أن يساعد لأننا كلنا مساهمون بطريقة أو بأخرى في تفاقم الأزمات التي أدت إلى التهجير القسري لأبرياء لم يختاروا ما حدث لهم. 

وأخيرًا، كما تقدّم، لا شيء يحدث للمهجّرين قسرًا يكون باختيارهم. فلا هم لديهم رفاهية التخطيط للحياة، ولا الأدوات والخدمات اللازمة لذلك. فليس من الإنصاف أن نحكم عليهم أو أن نحاسبهم عندما تكون أمورهم ليست في أيديهم. هي مسؤوليتنا جميعًا أن نساهم ماديًا إذا استطعنا وأن ندعم المؤسسات التي تعمل معهم بكل الموارد المطلوبة. لعل أن يكون ذلك معذرة نعتذر بها إلى الله ﷻ. 

أبناء الأزمة: جيل التحدي، والأمل

أذكر أنني في سنوات الجامعة كنت أنا وزملائي نتعاطف مع من يضطر للعمل أثناء الدراسة ليعول نفسه ويعول أسرته، وخصوصًا عندما كان الأمر مفروضًا عليه. وكان معنا عدد من الزملاء الأفاضل الذين كانوا، على صغر سنّهم، مسؤولين عن أسرهم وكانوا يضطرون للتغيب عن المحاضرات أحيانًا من أجل ظروف عملهم الشاق. ولا أنسى أن أحدهم ضاق ذرعًا بهذا التعاطف البادي منا يومًا ولقننا درسًا لا يُنسى. استنكر منا أن نعتقد أن الحياة الطبيعية أو الأفضل هي نمط حياة الطالب الجامعي الذي يأخذ مصروفه من الأهل ويجد كل طلباته مُجابة. عبّر لنا عن امتنانه، رغم المتاعب، لكل التجارب التي صنعت منه رجلاً مسؤولاً لا يهتم بالتوافه ولا يركض وراءها. علّمنا أن مصانع الرجال ليست في مناطق الراحة!

لعل الأبناء المولودين في مخيمات التهجير القسري ينجون من عوامل التفاهة التي يغرق فيها أطفال العالم الذين ينشؤون في ظروف "طبيعية"، ولا شيء طبيعي في هذا العالم الذي نعيش فيه! ولعل قسوة حياتهم تُكسبهم نظرة أكثر عمقًا للحياة، يملؤها التحدي، والبحث عن المعنى، والرغبة في إنهاء الأوضاع المأسوية، والمعاناة لكثير من المتضررين. ربما يخرج منهم أمثال أحمد حسن ، اللاجئ الصومالي الأصل الذي أصبح لاحقًا وزيرًا للهجرة، وشئون اللاجئين في كندا قبل أن يشغل منصبه الحالي كوزير للإسكان، والتنوع، والاندماج الثقافي: فيكون أدرى الناس بشؤون اللاجئين لأنه كان منهم. ربما يكونوا هم أمل، وضمير عالم يحتاجهم بشدة، ويصبحون كمئات المُهجّرين قسرًا الذين أصبحوا مدافعين عن حقوق الإنسان، ومحامين، وناشطين في كافة المجالات الحقوقية، ومُبدعين في مجالاتٍ عدة. وكيف لا وهم الذين تحدوا أسوأ الظروف، واضطروا لإيجاد حلول لأداء أبسط المهام اليومية. لعل العالم بانتظار جيل من المؤثرين صقلتهم الأزمة وجعلتهم مرآة للإنسانية وللحقيقة.