- مونديال مختلف بكل المعايير
- في محاولة استدعاء التاريخ لفهم الواقع
- اضطراب في منظومة القيم والموازين الكونيّة
- مونديال العرب ومعركة ذي قار التاريخية
- ذي قار كانت درسا كبيرا ونقلة كبيرة في النفسية العربية
- لحظات الانتقال التاريخي بين الدروس والعبر
هل تخيلت قطر يا ترى، أن تنظيمها لكأس العالم سيحول ملاعب كرة القدم من ساحة يتنافس فيها اللاعبون إلى ساحة تتصارع فيها الثقافات والايديولوجيا والهويات؟
ماهي أسباب هذا الصراع وهل له جذور تاريخية يا ترى؟ وما هي مآلاته وانعكاساته على العالم العربي ؟
سنحاول في هذا المقال أن نجيب علي هذه الأسئلة بإذن الله تعالى.
مونديال مختلف بكل المعايير
لم تنجح قطر فقط في جعل هذه البطولة استثنائية بكل المعايير سواءا من ناحية التنظيم الباهر أو البنية التحتية الرهيبة، بل الذي ميّز هذه النسخة هو تمسك قطر بقيمها الإسلامية العربية والثبات على ثقافتها تحت قصف غربي رهيب جدا وحملات مقاطعة تشكيك وترذيل تصدت لها قطر وقاومتها.
خلال المونديال تفاجأنا أن تلك القيم التي تشبعت وتمسكت بها قطر، تحولت إلى لاعب رئيسي وأساسي حضر كل المباريات وربحها كلها وسجل أهدافا كثيرة وراوغ بكل الثقافات الغربية الفاسدة وانتصر عليها، وعلى سبيل الذكر مسألة الشذوذ والخمر في الملاعب، واستطاعت هذه الثقافة الإسلامية العربية التي تبنتها قطر أن تنافح عن نفسها وتهزم كل خصومها، بل وتجاوزت ذلك حتّى رأيناها تروّج لنفسها وتبهر العالم وتمسح الأباطيل والأكاذيب والشبهات التي ألبسوها إياها لعقود.
في محاولة استدعاء التاريخ لفهم الواقع
التاريخ ليس نصوصا نسردها أو وقائع ماضيةٌ نقصّها بل هو شي أعظم من ذلك بكثير. التاريخ عقل الأمم والحضارات، وعندما نواجه حالات استثنائية في حاضرنا ويصعب علينا فهمها نذهب إلى التاريخ ونبحث عن نماذج تفسيرية لها. وهل حصل شيء مشابه أو قريب لها، والغاية من هذا كله فهم الواقع ومحاولة استشراف المستقبل.
ما حصل في مونديال قطر جعلني أعود للمرحلة واستحضر الحقبة التاريخية التي حصلت قبيل بعثة الإسلام -القرن السابع- لفهم السياق العالمي، أما في السياق العربي أجدني استحضر معركة ذي قار، والتي حصلت سنة البعثة النبوية وسنأتي عليها لاحقا بإذن الله.
اضطراب في منظومة القيم والموازين الكونيّة
قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم شهد العالم حالة اضطراب استثنائية بكل المقاييس، وتعتبر بداية القرن السابع فترة فريدة في التاريخ الإنساني ككل، وبدى العالم في مرحلة نهاية حقبة تاريخية وأنه من المستحيل أن تستمر تلك الوضعية، ولم تضطرب موازين القوى السياسية والاقتصادية والإجتماعية فقط، بل اضطربت معها موازين القيم الكونية واضطربت موازين الجمال وغابت في تلك الفترة عن الناس آمالهم وأحلامهم حتّى تدخلت السماء وجاءت الرسالة الكونية الخالدة رسالة الإسلام.
تعددت مظاهر الاضطراب التي شهدها العالم في ذلك الوقت، ونذكر من أبرزها اختلال موازين القوى الدولية، سقوط روما عاصمة أقدم امبراطوريات العالم القديم، الصراع البيزنطي الفارسي الذي استمر لفترة طويلة استطاع والذي استطاع أن يجرّ أغلب حواضر العالم لحروب طاحنة و مدمّرة، كانت تلك الفترة فريدة بكل المقاييس وأكثر ما يهمنا هو اضطراب موازين القوانين الكونية ومعايير الجمال. يذكرنا هذا الأمر بأشياء نعيشها اليوم ونراها واقعا أمامنا، الصراع الروسي الغربي، التصدع في الجدار الدولي و موازين كبيرة تتغير صعود دول من آسيا كالصين وتركيا وصارت تمثل قوى وازنة عسكريا و اقتصاديا.
أشياء كثيرة تجعل العالم وكأنه يعيش فترة استثنائية وانتقالية، مثل انهيار المنظومة الأخلاقية الغربية، تفكك العائلة واضمحلال مفهوم الأسرة، انتشار خطاب النسوية المعادي للفطرة الانسانية السليمة مثله مثل مسألة الشذوذ، تفشي مفاهيم خاطئة ومغلوطة عن الحريات تحت تأثير ماكينات إعلامية رهيبة، انتشار الفلسفة المادية ومزيد من تفكيك الإنسان في هذه المنظومة الفاسدة التي تقبل المادة كشرط وحيد للحياة وترفض الإله كشرط من شروط الحياة.
مونديال العرب ومعركة ذي قار التاريخية
تعتبر معركة ذي قار حدثا هاما جدا في تاريخ العرب زمن الجاهلية، رغم أنها حصلت زمن البعثة النبوية ولكن العرب لازالو في الجاهلية وكانت المعركة بين قبائل العرب وجيش المملكة الساسانية أو ما يسمى الدولة الفارسية، حيث كان العرب قبل الإسلام مقسمين بين ثلاثة حواضر تقريبا وهم سكان جزيرة العرب في تهامة ونجد، ثم نجد الغساسنة العرب الذين يعيشون في الشام وهم تحت الوصاية الرومانية، وكان هنالك تجمع آخر مهم جدا والذين تدور عندهم معركة ذي قار وهم عرب العراق دولة المناذرة وعاصمتها تسمى الحيرة وكانوا تحت الوصاية الفارسية.
كانت تلك الفترة تشهد صراعات بين الفرس والروم، وكان العرب في ذلك الوقت وقودا لتلك المعارك الطاحنة، وكانوا دوما يقتتلون ويتطاحنون فيما بينهم، عرب المناذرة مع الفرس، والغساسنة في الشام يحاربون في صف الرومان حروب دامت لقرون عديدة. وكان للمناذرة آنذاك ملك يسمى النعمان وكان بينه وبين كسري آبرويز مشاكل وبعض الخلافات السياسية ليس المقام الآن لسردها.
أراد كسرى التخلص من هذا الملك فقام باستدعائه لقصره ومن ثمّ قتله، النعمان قبل ذهابه وأحسّ بالخطر، أي أنّ كسرى ربما يقوم بتصفيته فترك ماله وعائلته ونسائه عند هانئ بن مسعود الشيباني، وهو واحد من شيوخ قبائل بكر. وفعلاً قام كسرى بتصفيته، وبعد أن قتل كسرى النعمان، أرسل جيشا كي يصادر أمواله ويفتك نسائه، إلا أن مسعود الشيباني رفض ذلك بطبيعة الحال واستنجد بكثير من قبائل العرب واستنفرهم لقتال الفرس وانضمت إليه كثير من قبائل العرب، وحتى القبائل العربية التي كانت تقاتل مع الفرس موجودة داخل الجيش الفارسي انسحبت من الجيش وانضمت إلى صف العرب.
حصلت عندها المعركة واستبسل العرب في القتال وأظهروا بأسا شديدا ودامت المعركة لأيام، وانتصر فيها العرب وانسحب الجيش الفارسي وعادوا أدراجهم خائبين. صحيح أن الجيش الذي انتصر عليه العرب ليس بالكبير جدا لأن الجيش الأصلي كان يقاتل في الدولة البيزنطية، لكن الفرس في ذلك الوقت كانوا أعظم الممالك في الأرض ولذلك كان الانتصار تاريخي و له أثر نفسي كبير جدا ووقع كبير في كل أنحاء جزيرة العرب، اعتز كل العرب بذلك وشعروا بالفخر وأنشد الشعراء الشعر وافتخر سادة العرب بذلك حتى عامة الناس.
أحدثت ذي قار رجة نفسية إيجابية كبيرة للعرب، لأنه لأول مرة في التاريخ تتوحد القبائل العربية مع بعضها البعض وتقاتل الفرس وهي أعظم ممالك الأرض فقد اشعرتهم تلك الحادثة أنهم قادرون على فعل الكثير وقادرون على قول لا، كانت ذي قار درسا نفسيا هاما جدا لهم و خاصة حصولها سنة البعثة النبوية لتكون تهيئة نفسية للعرب، وخاصة أنهم سيكونون بعد سنوات قليلة مهد رسالة الإسلام وسيحملون هذه الرسالة لشتى أصقاع الأرض.
ذي قار كانت درسا كبيرا ونقلة كبيرة في النفسية العربية
ما أشبه ما حصل في معركة ذي قار بما نراه حصل في مونديال قطر، هذه البطولة التي كسرت الكثير من العقد النفسية التي زرعت فينا كعرب مسلمين إما عن طريق الحكام العرب لعقود أو الغرب عن طريق أذنابه الغرب الذي يرفض التنازل عن أوهامه ولا يريد الكف عن عنفه المادي والرمزي ضدنا نحن كعرب ومسلمين، لم يكفه ما قام به في فلسطين وتدمير العراق، لازال يمارس في عنفه متباهيا بعلويّته الكاذبة ونرجسيّته المقيتة.
رأينا هذا العنف الرمزي المتمثل في حملات المقاطعة التي شُنّت على مونديال قطر، لكنها فشلت كلها بل ارتدّت وانقلبت عليهم كما انقلب السحر على الساحر.
مونديال قطر أشعر أن العرب جسد واحد خاصة عند لعب أحد الفرق العربية ورأينا ذلك لآخر المونديال مع المنتخب المغربي، لقد تجاوز العرب كل النزعات العرقية والطائفية والأحقاد القديمة التي زرعها المستعمر ثم استمرت في التفريخ في محاضن ومزارع الاستبداد. لقد أحدث مونديال قطر رجة كبيرة في النفسية العربية و زرع فيهم آمالا وأحلاما كثيرة فهم منذ عقود لا يعيشون إلا النكبات والنكسات المتوالية، هذا المونديال احيي كثير من الأشياء في داخلهم.
لا يجب أن ننسى أمرا هاما لابد ان نعرج عنه، لقد أظهر هذا المونديال أن العرب فلسطينيون لحد النخاع، من الممكن أن بعض الأنظمة طبّعت وخنعت، ولكن الشعوب رفضت وتمردت على ذلك وشعرنا أن القضية لازالت حية في وجدان الشعوب وأن مشروع التطبيع التخريبي الذي قادته الإمارات سقط في الماء.
لحظات الانتقال التاريخي بين الدروس والعبر
نسرد في هذه الأحداث التاريخية، وكأننا نراها لكي نفهم لحظات الانتقال التاريخي ونحن في قلب عملية انتقال كبيرة يعيشها العالم.
المنظومة التي تحدثت عنها قبيل قدوم الإسلام لم تستطع أن تقدم حلولا للناس فتزيد معاناتهم ومشاكلهم فهي إلى زوال وانهيار، اليوم أيضا نرى الكثير من الأصوات في الغرب تعلو وهنالك حركات محترمة تدعو لمقاومة هذه الظواهر والأمراض الخطيرة كالشذوذ والنسوية وتدعو الناس للعودة لفطرتها، لأنها تيقنت من فشل المنظومة الغربية الحالية والخطر الذي تمثله وهنالك تيارات عقلانية تنتشر في الغرب تقاوم الفلسفة المادية الغربية التي تأله الطبيعة و تلغي دور الإله.
نسرد معركة ذي قار لنفسر الرجة الإيجابية التي أحدثتها داخل النفسية العربية، لذلك كانت هنالك نفسيتان للعرب، قبل ذي قار وبعد ذي قار، كذلك النفسية العربية اليوم، العرب قبل مونديال قطر ليست نفسيتهم ما بعد مونديال قطر.