بعد هبة الإصلاح الديني في أوروبا وموجات مريرة من الصراع البشري والحروب الدينية والمادية على حد سواء، انبرى بعض الفلاسفة إلى إعادة صياغة الحياة برمتها على مركزية الإنسان، وهي مركزية تحاول من خلالها إزاحة أي مركزية أخرى والاحتفاظ بقدسية الانسان بما هو إنسان بعيدا عن أي خصائص أخرى يمكن من خلالها إعادة تصنيف البشر على أساسها. وهو ما يمكن أن يشار إليه بال Humanism أي الفلسفة الانسانية.

وعلى هذا الاعتبار أعيد تشكيل الكثير من المطلقات المجتمعية على أسس مختلفة وطرحت أسئلة جديدة على العقل البشري في محاولة للبحث في مآلات هذه المركزية الجديدة. 

لقد طرح السؤال الأساسي منها بشكل تلقائي ومباشر: ما الذي يمكن أن يتسع إليه الحقل الدلالي لمفردة الإنسان حتى نرى إلى أي مدى تتسع المركزية التي يحتلها مفهوم الانسان؟، وفي نفس الوقت ما الذي لا ينتمي للحقل الدلالي لمفهوم الانسان حتى لا يتشرف بالقدسية المنسوبة إلى الإنسان المركز؟.

لقد انتهت الجولات المعرفية في العالم الغربي الذي نشأت فيه هذه المركزية الى مادية الإنسان، خاصة بعد هيمنة النظرة العلموية على العلمانية بشكل عام ولعل تجليات نظرية التطور لداروين كان لها الدور الأبرز في ذلك، بالإضافة إلى الانتصارات المعرفية الكبيرة الأخرى التي حققها العلم في حياة الناس، وأضحى الإنسان ذو البعد الواحد هو المركز الوحيد المعترف به، وتم إزاحة البعد الثاني للإنسان من حيز القداسة والمركزية الا هو البعد الميتافيزيقي الذي يكتنز في أحشائه اللاهوت والاخلاقيات والمثل الاطلاقية بشكل عام، ولم تكتفي العلمانية بإزاحتها من حيز المقدس بل الحقتها فيما بعد بحيز المدنس واتهمتها بشكل مباشر بكل ما حدث للعقل من تخلف على المستوى العلمي وبما وقع للإنسان بشكل عام على المستوى الامني!، ومن هذا المنطلق نشأت فكرة المشترك الانساني التي تريد أن تجمع البشر على بعدهم الواحد الذي يتماثلون فيه إلا وهو بعدهم المادي بكل ما له من حمولات، وهي فلسفة تسعى إلى إذابة الفوارق التي تصنعها تضاريس الهويات المختلفة في شعوب الأرض وجمعها كلها في نموذج واحد من التصور الجامع.

كانت الفكرة حالمة وجميلة، وأقرب إلى المثالية باعتبار النظر إليها من زاوية المساواة المبدئية بين البشر وحقوق الإنسان، لكن العامل الاقتصادي وإشكالية الرفاهية من جهة وعامل الندرة في الموارد من جهة أخرى طرح سؤالا جديدا على الفلسفة العلمانية بعد خطوات يسيرة، بأن إمكانية النظر إلى جميع البشر من نفس المنظار الذي يحقق المساواة في الحياة الكريمة والرفاهية للجميع أمر غير واقعي، لا من الناحية الاقتصادية التي تحتاج أصالة الى تباين الطبقات واحتياج بعضها لخدمات بعض، ولا من ناحية النمو الديموغرافي الهائل الذي كان لا شك على حساب الموارد الناضبة كما كان يصرح مالتوس.

فأعادت الهيومانيزم بلورة تقسيم آخر للبشر وتم تحجيم المركزية من جديد والحقاها بالانسان الابيض الغربي وتم بناء على ذلك رفع شعار the west and the rest  《 الغرب والآخر》 ووصلنا إلى نقطة جديدة بما يعرف بمركزية الانسان الأبيض صاحب العبء الذي هو مؤهل بشكل انتقائي لتحمل أعباء الجنس البشري غير الواعي بمآلاته إذا ما ترك دون مركزية تقوده إلى حيث يجب أن يكون، وبالتالي يجب أن تسود نظرته للحياة ونمط استهلاكه وطبيعة معالجته للامور سواء كانت السياسية او الاقتصادية وحتى الفنية والدينية وغيرها ودخلنا عصرا جديدا من الهيمنة بعد فشل أطروحة المشترك الانساني في النمط العلماني واصطدامها بالواقع وإشكالاته المتنوعة التي لم تخل يوما من البعد الماورائي المتجاوز للفكر المادي الذي شيّأ الإنسان واختزل الحياة في الرغائب المادية المحضة، واكتشف الإنسان غير الابيض وغير الغربي أنه كان يمنى بأن يكون مركزًا حين تم استخدامه كأداة للصراع مع اللاهوت والميتافيزيقا، فأضحى هامشا بعد أن جاءت غنائم الاقتصاد وانفال الرفاهية وانتهى به المطاف بعد انتهاء المعركة الى آخر مجرد rest. 

في الفلسفة الإسلامية فكرة المشترك الانساني تقوم على أصل الخلقة الواحد (فكلكم لآدم وآدم من تراب) وكرامة الإنسان مكفولة منذ وجد الإنسان (ولقد كرمنا بني آدم)، لذلك يبقى الإنسان كريمًا بصرف النظر عن عرقه ولونه وجنسه وأصله الذي انحدر منه، فضلًا عن الحيز الجغرافي الذي يقطنه، ثم يأتي العمل الاختياري لدى الإنسان، هو الذي يعيد ترتيب مكانة الإنسان حسب درجة قربه وبعده من أنموذج الخلافة التي هي السبب الرئيس في وجود الانسان على وجه الأرض.

فعمارة الأرض بما لا يغضب الله تعالى بغية الفوز بأعلى الدرجات في الجنة، هو المقياس الثابت الذي يفرق بين البشر في مراتبهم، ثم إن الفصل بين البشر ومراتبهم النهائية أصلا من صلاحيات الله تعالى في الفلسفة الاسلامية (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فبما كانوا فيه يختلفون).

هذه المفاهيم العامة يستحضرها المسلم بشكل عام، ثم يأتي رمضان ليزيد من تعزيزها بشكل كبير، في دورة تكوينية تدريبية لمدة شهر كامل تكتنز الكثير من معاني المشارك الانساني المحمود.

فالصيام الذي يشعر الإنسان بالجوع والعطش الاختياري أمر يذكّره بباقي الجنس البشري الذي يعاني الجوع بشكل غير اختياري وهي فلسفة تصب في تعزيز ثقافة المشترك الإنساني المحمود، كما هو ملاحظ بصرف النظر عما إذا كان هؤلاء الناس مسلمين أم غير مسلمين، فرمضان يشمل المسلم في بلاد الاسلام و غيرها من البلاد.

ثم إن قيام الناس في صلاة التراويح صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، الذكور منهم والإناث، كلها تجمع بين أنواع البشر في صعيد واحد لتذيب الفوارق المادية التي تنحتها الثقافة المادية السائدة في الواقع وتعيد تذكيرهم بالمشترك الإنساني من جديد.

إن توحيد أوقات الإمساك والافطار، وإلزام المسلم بالانضباط عليها أمر أيضًا له دلالة تجعل المسلم يشعر باستعداد نفسي للاندماج في ثقافة المشترك الانساني المحمود وتعيد ترتيب الطبقات في قدرة الإنسان على الانضباط في ذلك لا على ما يمتلكه مسبقا من مراتب مادية أو جنسية أو حسن خليقة أو إرتفاع نسب أو غير ذلك، كلها فوراق غير معتبرة ولا تزن مثقال ذرة في القيمة المركزية للإنسان العبد الذي تزداد مكانته بالقدر الذي يتحرر فيه من عبودية المادة الى عبودية الله تعالى المطلق.

يحتاج العالم اليوم والمسلمون بشكل خاص إلى النظر المعمق في فلسفة المشترك الإنساني من منظور إسلامي حتى لا يقعوا في هنات تصنيف الناس حسب أعراقهم كما فعلت النازية أو أموالهم كما تفعل اليوم أوروبا والغرب بشكل عام وغيرها من التصنيفات الجائرة التي تريد تثبيت ثقافة المشترك الانساني فقط على النمط الغربي العلماني الذي ينتج انسان السوق الذي يستهلك منتجات الشركات العابرة للقارات ولا يسأل عن اي معنى متجاوز لذلك.

رمضان فرصة المسلمين وغير المسلمين للتخلص من هذا الورم المعرفي المغرق في تشييء الإنسان والرقي به إلى مستوى من المشترك الإنساني الواعي الذي يجعل الجميع عبادًا لله مكرمين بالاصالة الوجودية مختلفين بالانتماء الاختياري الذي ينتهي الفصل فيه بيد الله وحده.