عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ اللَّهَ تَعَالَى جَوَادٌ يحِبُّ الجُودَ ويحِبُّ معَالِيَ الأَخْلاقِ ويَكْرَهُ سَفْسافَها» (رواه الترمذي).

لا أفضل في بدء الحديث عن خلق الكرم والجود من هذا الحديث النبوي الشريف، لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخلق في سياق حديثه عن معالي الأخلاق، وأكد عليه باستعماله أسلوب عطف العام على الخاص لإظهار علو مكانته من بين سائر الشمائل العليّة، وكأنه الأفضل منها جميعها، وزاد في إبراز مكانته باستعمال المقابلة ضمن أساليب البديع في اللغة العربية لترسيخ المعنى وإظهاره في أدق وأوضح صوره، فقال "يحب معالي الأخلاق" (التي أخصّها الجود) وقابلها ب "يكره سفسافها".

إن الكرم من الصفات العريقة عند الناس جميعا، تفاضل على أساسها الأفراد والأمم، ورفعوا قدر المتصف بها وجعلوها "أصل المحاسن كلها"، وعدّوها من دلائل نبل الأصول والأعراق، ومدحوا بها الأعيان والأكابر، وجعلوها عنوان السيادة، ومن شمائل القيادة، وغاية المجد وسبيل الريادة، لما تشمله من خلال كثيرة في معانيها، كالجود والسخاء والإيثار والإفضال والسماحة والإباء والنبل والنجدة وعلو الهمة والسماحة والشهامة والمروءة والعزة والإحسان، و ألصقوا بنقيضها، في قواميسهم، كل صفات الشح والبخل والجشع والأنانية واللؤم والذل والمهانة.

ولعل اللؤم هو الصفة الذميمة الأشمل نقيض الكرم، وفي هذا يقول أبو الطيب المتنبي، في بيت صار مثلا من أمثال العرب تتناقله الأجيال:

إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ ... وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا.

أي أن الكريم يأسره عطاء الكريم، في أي مجال من مجالات العطاء، فيظل يقر بفضل المحسن له أبدا، واللئيم ينكر الفضل سريعا ويضجر بالكريم إذ يذكّره وجودُه فضلَه فيتمرد.

واللَّئيم عند العرب، وفق ما جاء في كتاب " الزاهر في معاني كلمات الناس" لصاحبه محمد بن القاسم الأنباري: الشَّحيح المهِين النَّفس، فإن كان الرَّجل شحيحًا، ولم تجتمع فيه هذه الخصال قيل له: بخيل، ولم يُقَل له: لئيم، يقال لكلِّ لئيم: بخيل، ولا يقال لكلِّ بخيل: لئيم، والعامَّة تخطئ فيهما فتسوِّي بينهما".

ويتجاوز كثير من الناس عن سائر العيوب في المرء إذا اتصف بالكرم، إذ يغمرهم كرم الكريم بفضله وجوده فلا تبين مساوئه، وقد قال في هذا الإمام الشافعي شعرا ظل يتردد بين الناس منه:

وَإِن كَثُرَت عُيوبُكَ في البَرايا … وَسَرَّكَ أَن يَكونَ لَها غِطاءُ

تَسَتَّر بِالسَخاءِ فَكُلُّ عَيبٍ …. يُغَطّيهِ كَما قيلَ السَخاءُ

والكرم لغة "مصدر كريم، يقال: رجل كرم، قوم كرم، امرأة كرم، وهو كذلك ضد اللؤم" في "إصلاح المنطق" لابن السكيت، وفي معجم المعاني الجامع هو : "العطاء بطيب نفس"، ويعرف في مَعلمة مفردات المحتوى الإسلامي "الجمهرة" بأنه: "صِفَةٌ تَحْمِلُ صاحِبَها على بَذْلِ الخَيْرِ قَلِيلاً كان أو كَثِيراً بِطِيبِ نَفْسٍ دون مُقابِلٍ". وللكرم مفردات كثيرة تتشابه ذكر القاضي عياض بعضها في سياق تعريفه لصفة الكرم، في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى فقال:(وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، معانيها متقاربة، وقد فرق بعضهم بينها بفروق، فجعلوا الكرم: الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره ونفعه، وسموه أيضا جرأة، وهو ضد النذالة).

فلفظ الكرم - كما يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوي، "لفظ جامع للمحاسن والمحامد لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه".

فمنه العطاء من المال، وكل ما يملكه المرء من المقتنيات المادية التي ينتفع بها غيره من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب وما يتداوى به وما يستعان به في قضاء الحاجات ورفع المشقات، ومنه العطاء من العلم والمعرفة مما يتعلمه المرء ولو كان حرفا، بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، بلا تحفظ ما أمكن ولا كتمان ولا خوف من أن يسبق المتعلم المعلم، وكل ما يساهم في محاربة الجهل ونشر المعارف وتعليم الناس جميعا والمساعدة على الاكتشاف والابتكار.

ومن الكرم بذل المرء من طاقة جسمه وقوته فيساعد بما أمكنه الضعيف، ويمشي في مصالح الناس، ويحمل على المثقل، ويأخذ بيد التائه والعاجز، ويهب لنجدة المظلوم والدفاع عن المقهور، وقد يصل هذا الجود بالنفس إلى التضحية بالحياة في الميادين التي يتعيّن فيها الجهاد في سبيل الله.

ومنه بذل النصيحة إذ لا يبخل الكريم عن تنبيه غيره لما ينفعه في دينه، وما يصلحه في شأن دنياه وإن لم يُطلب منه ذلك. وذلك هو الدين إذ "الدين النصيحة" وكلما كانت النصيحة في أساليبها الشرعية من الإشفاق والكلمة الطيبة وفي السر ما أمكن، كان الكرم فيها متجليا.

وأساس كل تلك المكارم كرم النفس إذ الكريم لطيف بغيره يهب للناس الحب والمودّة والحنان والرأفة ويوزع على الجميع ابتسامته، إذ ((كلُّ معروف صدقة، وإنَّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْق)) كما ورد في الحديث الصحيح، كما يحزن الكريم لكربات الناس من تلقاء نفسه، وتدمع عينه بسهولة حين يرى مآسي العباد، ويود لو يستطيع إعانة كل الخلق بلا مقابل ولا جزاء ولا شكور، كما يظل محافظا على مكارم أهله وأجداده، فلا يسمح لنفسه أن تتدنى حفاظا على أصله، وتأنف نفسه من أن تتصف بصفات اللؤم فيأسره المعروف ويظل مدينا لمن أحسن إليه أبد الآبدين، فلا يزداد بذلك إلا نبلا ورزقا ورفعة بين الخلائق.

إن حب الكرم مغروس في الفطرة البشرية، والكريم مبجل في كل الشرائع والفلسفات والنظم، ومحبوب عند كل الأجناس والأمم، ففي المسيحية يعدّ الكرم من الفضائل السبع، ويقرر التلمود أن صنائع الكرم تتساوى في القدر مع جميع الوصايا، وفي البوذية هو أحد الإكتمالات العشرة، وتحض الكونفوشيوسية أتباعها إلى الاتصاف بخلق الكرم، وفي الفلسفة اليونانية تغنى أرسطو بخلق الكرم في كتابه "علم البيان" وفعل مثله كثير من الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين.

ومن أكبر صفات العرب التي أهلتهم لحمل الرسالة المحمدية صفة الكرم، فلم تشتهر أمة بصفة كما اشتهر العرب بهذه الصفة الجليلة، فقد كانوا يتنفاسونها إلى حد المهلكة، ويتغنون بها في أشعارهم، وكان الكريم بالنسبة إليهم أفضل من ذي المنصب، ولا يعدّون السيد سيدا ما لم يكن كريما، وظهر فيهم كِرامٌ اشتهرت أسماؤهم في الآفاق وسُجلت في التاريخ كحاتم الطائي القائل في شعره:

يرى البخيل سبيل المال واحدة … إنَّ الجَوَاد يرى في ماله سبلا

لا تعذليني في مال وصلت به … رحمًا، وخير سبيل المال ما وصلا

وعبد الله بن جدعان القائل:

.إنِّي وإن لم ينل مالي مدى خُلُقِي … وهاب ما ملكت كفِّي مِن المال

لا أحبس المال إلَّا ريث أتلفه … ولا تغيِّرني حال عن الحال

غير أنه لا دين استطاع أن يبني منظومة كاملة خالدة عمليّة للكرم كالإسلام، فالكرم في ديننا مرتبط بعقيدتنا، وركن في عبادتنا، وأساس في أخلاقنا، وحقيقة قائمة في مجتمعاتنا، وتشريعات في حكمنا، وسمة لازمة في حضارتنا.

فالكرم والجود من صفات الله تعالى ونعوت الكمال القائمة بذاته سبحانه، ومنها اشتُّق اسمان من أسمائه الحسنى "الجواد" الذي ورد في السنة النبوية منها الحديث الشريف أعلاه، و"الكريم" الذي ورد كذلك في السنة، وفي القرآن الكريم في بعض الآيات منها قوله تعالى في سورة الانفطار: ((يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ -6)) وخص نفسه في آية أخرى باسم التفضيل "الأكرم" الدال على أنه سبحانه الكريم الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله نظير في قوله تعالى في سورة العلق: ((اقرأ وربك الأكرم . 3)). فهو سبحانه “الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان، وكرمه غير مشوب بالتقصير" وفق ما قاله الرازي في تفسيره " مفاتيح الغيب".

ومبعث الكرم عند المسلم فطرته كغيره من الناس غير أن الإسلام عمّقه في نفسه بأن جعل ما يصدر عنه من أوجه الجود والكرم يكون لوجه الله تعالى، وأن يبتغي بنفقته وبذله نفع من يبذل له الخير بحفظ كرامته، فلا رياء ولا عجب ولا تفاخر ولا منة، موقنا بأن أي خير أنفق منه فهو من الله تعالى وأن الله سيخلفه، وأن يقتصد المانحُ في عطائه فلا تقتير ولا تبذير. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا قولا جامعا جعل للكرم أصلا إيمانيا هو التقوى، وأصلا بالنّسَب لمن سمت أصوله، وأصلا بمكارم الأخلاق المتأصلة في البيئة العربية حين تفقه، فقال في الحديث المتفق عليه الذي رواه أبو هريرة عنه: ((قيلَ يا رسولَ اللَّهِ من أَكرَمُ النَّاسِ قال أتقاهُم للَّهِ ، قالوا : ليسَ عن ذلِكَ نسألُك قال يوسُفُ نبيُّ اللَّهِ ابنُ نبيِّ اللَّهِ ابنِ خليلِ اللَّهِ قالوا ليسَ عَن هذا نسألُك قال فعَن معادِنِ العربِ تسألونِِّي ؟ فإنَّ خيارَهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقُهوا)).

ولم يترك الإسلام الإنفاق لتطوع الإنسان الكريم كمِنحة يتفضّل بها على المحتاج كما هي سائر الديانات والملل، بل جعلها الله ركنا من أركان الإسلام الخمسة، إذ لا يكون المسلم الميسور مسلما إن لم يعترف بحق الفقير في ماله كما هي مقاصد ركن الزكاة فيبذلها وجوبا لا تطوعا، لوجه الله تعالى وبنفس طيبة كريمة. كما فرض سبحانه زكاة الفطر في آخر شهر رمضان ضمن أكبر عملية إنفاق يدور فيها المال وتوزع فيها الثروة على الفقراء على مستوى العالم بأسره كل سنة بتلقائية عجيبة لم يعرف التاريخ مثلها.

كما أنتج الإسلام محتوى أخلاقيا غزيرا ورسم قيما محكمة ومناهج قويمة في توجيه الناس إلى مكارم الأخلاق ومنها خلق الكرم والجود والسخاء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الفعلية والقولية، ومن أقوال ومناقب الصحابة والتابعين وما أنتجه العلماء من مصنفات وموسوعات في علم الأخلاق. فالله تعالى الذي وصف نفسه بالكريم الأكرم جعل القرآن الكريم عامرا في كل أجزائه بالترغيب في بذل الخير بكل أنواعه، وجعل البذل طريق الهداية وسبب النجاة في الآخرة والبركة في الدنيا ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: ((لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم ((كان أحسنَ الناسِ ، و أجودَ الناسِ ، و أشجعَ الناسِ)) كما قال أنس بن مالك في الحديث الذي أخرجه البخاري، وكان عليه الصلاة والسلام: ((أجودَ الناسِ بالخيرِ ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ))، ومن أعظم ما حبب رسولَ الله إلى الناس كرمُه كما جاء في حديث أنس بن مالك الذي رواه مسلم قال أنه: ((ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلِموا فإن محمداً يعطي عمن لا يخشى الفقر وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها))، ودعا إلى الكرم بمختلف صوره في أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله - عز وجل -»، وبيّن أن الظلم مرتبط بالشح والاستئثار بالخير وأن ذلك سبب الحروب والفتن في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ).

وعلى هذا النهج كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قولا وعملا، فهذا أبو بكر الصديق عليه الرضوان يقول، وفق ما ورد في " ربيع الأبرار ونصوص الأخيار للزمخشري: " الجود حارس الأعراض" وقوله: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" وكان قدوة في ذلك بنبله ورقته، وحزمه عند وفاة نبيه المصطفى، وبصرامته ونجدته في قتال المرتدين، وجاء رضي الله عنه بكل ماله يتصدق به بين يدي رسول الله حين دعا صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصدقة. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا أكرم منه بعد صاحبيه ببذل عطفه وشفقته للمسلمين، ووفائه لنبي الله وتوقيره لأبي بكر الصديق، ونجدته لنصرة الحق والمسلمين، وجاء رضي الله عنه بنصف ماله يتصدق به حين ظن أنه سيسبق أبا بكر فلم يسبقه، وقصص الكرم عند الصحابة والتابعين عند غير هاذين الكريمين في التاريخ كثيرة لا يستوعبها هذا المقال.

وقد أدت هذه المرتكزات العقائدية والأبعاد الإيمانية والأركان التعبدية والتوجيهات الأخلاقية إلى قيام مجتمعات إسلامية ارتفعت فيها المكارم المتوارثة في المجموعات العرقية والبيئات الاجتماعية فصار الكرم تصرفات تلقائية ومؤسسات تتوالد في مختلف المجالات ومناحي الاحتياجات ضمن مؤسسات الزكاة والأوقاف والروابط والمنظمات، وحين قامت الحضارة الإسلامية طغت أبعادها الإنسانية القائمة على تكريم الإنسان وفق قوله تعالى في سورة الإسراء: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا- 70))، بمحاربة الفقر والقضاء عليه في فترات محددة في تاريخ الإسلام، وبالسماحة مع الديانات والملل الأخرى وعدم الإكراه في الدين، وتوفير العلم والتعليم لكل الأجناس من أهل القبلة وغيرهم حتى سهل على الأوربيين الاعتماد على المسلمين في ثورتهم العلمية الأولى، وبالنجدة ونصرة المظلومين وإن لم يكونوا على دينهم، خلافا لما تتصف به الحضارة الغربية اليوم القائمة على الجشع الرأسمالي والاحتكار العلمي وترك أغلب سكان العالم يحطمهم الفقر وتفتك بهم الأمراض وتدمرهم الحروب.

إن صلاح أنفسنا ومجتمعاتنا ونهوض حضارتنا من جديد إنما يتحقق - ذلك كله - بكثرة أصحاب النفوس الكريمة بيننا، وإن بداية ذلك أن يشيع المعروف فينا فيُعرف الكريم بين الناس وتتمايز العوائل والعشائر والقبائل بلزوم الكرم فيها، وأن يبقى المنكر منكرا فلا يستطيع لئيم أن يرفع عقيرته في الساحات ولا يجد لنفسه بين الخلق مكانة، ويصبح الخاطب يبحث في مضارب الكرم بين العائلات ليختار الكريمة بنت الأكارم، ولا تقبل حرة زواجا بغير شهم نبيل كريم، فيُحافَظَ على الفطرة السليمة في البشر وتنمو سلالات الخير والبر، فيكثر الكرم ويشيع، ويقل اللؤم والشح ويضيق.

والطريق إلى ذلك التذكير بالله ورفع لواء التقوى وخوف المولى العزيز الجبار، والتربية السليمة في الأسرة على مكارم الأخلاق، وإعداد وتدريس المناهج الدراسية التي تلقن معاني الكرم والجود والنجدة والإيثار والشهامة، وحذق الأئمة في تحبيب الكرم وأصنافه وأبعاده للمصلين، وأن ينهض المجتمع المدني بتأسيس شبكات عديدة للتطبيقات العملية لخلق الكرم وتوابعه، في المجالات الخيرية والتربوية والتعليمية والصحية والفنية وغير ذلك، وأن تكون الأحزاب وعاء الأكارم لا يثبت فيها فقير النفس واللئيم، وأن تكون الدولة هي حارسة الأخلاق، بالاعتماد على النفوس الكريمة ذات الكفاءة، في التأهيل والتوظيف والترقية، وبالتشريعات الأخلاقية في كل الميادين، وبالقدوة والأسرة الحسنة في القادة والمسؤولين.