تأتي رائعة زفايغ "مانديل بائع الكتب القديمة" في 80 صفحة وتدثر قصتين من زمن الحرب قصة المستشار الغابي الكفيف جامع التحف الذي اغتالت الحرب سعادته حينما اضطرت عائلته لبيع سلسلة ألواح فنية نادرة وظلت توهمه بوجودها في خزنته لتنفخ في نار سعادته دون يراها.

أما القصة الأخرى فقصة العجوز مانديل بائع الكتب القديمة وآخر رسل المدينة قبل الطوفان القابع دوما في مقهى غلوك العتيق أعلى شارع ألسترا لس لا يحجز من اتساع الأرض إلاّ قدر طاولة مربعة من المرمر ملئ بالكتب يوغل فيها كل يوم بنظارتين صغيرتين من السابعة صباحًا الى السادسة مساءً ويحرص بذاكرته آلافا من الكتب والعناوين والمعلومات والفهارس لقراء المدينة وباحثيها إلى أن جاءت لحظة الحرب، فانتهى مشردًا فاقدًا للذاكرة بعدما تحول المقهى العتيق الى مقهى فاخر على يد مالكه الجديد الذي لا يأبه كثيرًا بالكتب ولا باعتها غير جمع المزيد من المال وجلب المزيد من الصخب والفوضى الى مقهاه حيث لا شيء بلا مقابل.

كانت فيينا على عهد غلوك عروسا مثقفة تتوسط أوروبا وتتوسد سفوح الألب يعج صدرها بالفنّ والثقافة ويجر ظهرها قدما وثراء من التاريخ، كانت مدينة موزارت الحافلة بموسيقاه التي كلما غادرها افتقدها فعاد اكثر التصاقا بها ومدينة بتهوفن التي أشربته من عبقريتها ومدينة جوزيف هايدن وستيفان زفايغ ، التي قرأت العالم مبكرا في خشبة مسرحها الصغير.

لقد صور زفايغ استقرار المدينة ووداعتها قبل مجيء الحرب في هدوء العجوز ما نديل الذي يظل غارقا في عالمه غير آبهٍ ولا منتبه ٍلتوهج مصباح "اديسون" فوق رأسه والذي أعلن بداية نكبة المدينة الوادعة جدًا، الزاهية أبدا، والآهلة بالفن والفضيلة التي تزهد في كل شيء الا في فنها وثقافتها أو أن تكون برلين.

لم تكن فيينا برلين لكنها صارت كذلك، منذ أن سلمت أخر رسلها إلى المقصلة ومنذ توهج مصباح إديسون ومجيئ الحرب وسقوط جدار برلين، المدينة الصاخبة التي اكتشفت ثراء الفحم، ففتحت أحشاءها وامتطت ظهر التقدم الصناعي خلف جارتها لندن.. وأزعجها أن تظل جارتها الصغيرة مزهوة بفنها وثقافتها غير مبالية بصخب الميكانيكا والبخار الذي حل لاحقا فأخرص صوت بتهوفن وبدد رسائل التاريخ وأعدم رسله فجفّ تاريخ المدينة وجفـــَت روحها.

لقد توقف العرس الموسيقي بفوضى صاخبة لا تكترث له، فصارت المدينة عامرة بخراب المحرك الصناعي بعدما أصبحت برغيا راكزا في عجلته. لا تتأخر في قوائم التصنيف الحافلة بأرقام التكديس الصناعي في الآلات والصلب والصناعات المعدنية. وقد صنفت مؤخرا ضمن دول الاتحاد الأوروبي الأكثر اندماجا في السوق المشتركة.

ومثلها كثير من مدننا العابقة والأصيلة والمثقلة بالتاريخ التي سلمت زمامها لفرس التقدم العلمي والصناعي فلم يثن ركبتيه حتى أزرى بها، ولقد وقفت وصديقي مذهولان ونحن نتفرس وجه المدينة التاريخية التي كنا نجولها، فلقد اختل تناغم المدينة وأنطفأ نور التاريخ في وجهها وحلت المقاهي الفاخرة العارمة بالفوضى في كل زاوية، ودكاكين صغيرة تتوشح أسماء لماركات عالمية يتزاحم أمامها بشر من الناس تتقيأ لهم رأس كل سنة نسخة جديدة من ألواح رقمية تعدهم أنها النسخة الأتم التي تكتمل معها سعادتهم ثم تكتشف في نهاية العام أنها لم تكن كذلك، فتطور نسخا أخرى بمزيد من المال والشقاء على ظهر الجواد الذي وعد الناس بمدن كالفردوس بإله جديد يأتي على أنقاض التاريخ والرسل والأتقياء والرسالات، فهل يعبد إله بقتل الأنبياء، وهل يعمر فردوس بغير الأتقياء.