ترمي هذه الدراسة إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
أولا – أن يتذكر المسؤولون أن حجاب المرأة الجزائرية جزء من النضال الوطني وشريك في الحرب التحريرية ضد المحتل وأن المساس بحرمته أو التضييق بشأنه أو استصغار من تحمله وحرمانها من حقوقها بسببه في أي موقع في الدولة والمجتمع هو تفريط في جزء مهم من تاريخ وقدسية الكفاح ضد المحتل.
ثانيا – أن تدرك المرأة المحجبة قيمتها وقدرها وأنها سليلة الفدائية والمجاهدة الجزائرية الملتزمة بالحايك والملاية والملحفة والجلابة التي تحملّت عبئا عظيما طيلة عقود الاحتلال وكانت شريكة بحجابها ذلك في النضال والجهاد ضد المستعمر، فعلاوة على اعتزازها بإيمانها وطاعتها لربها يجب أن تعتز بالعمق الوطني لحجابها.
ثالثا – أن تدرك القوى المعادية للحجاب لأسباب دينية خفية، أو لأسباب أيديولوجية، أو لأسباب الغفلة والحسابات السياسية أن حساسيتهم تجاه الحجاب أو ما يقومون به للتضييق على من تحمله هو ذاته ما كانت عليه سلطات الاحتلال من أحقاد وسياسات وإجراءات ضد حجاب المرأة الجزائرية، فلا غرابة أن يوصف هؤلاء، بعد أكثر من ستين سنة بعد الاستقلال، أنهم من أذناب الاستعمار ولوبيات الدفاع عن الثقافة والمصالح الفرنسية.
لو تحدثتُ عن الحجاب من الناحية الدينية فإني أقول كما يقول المسلم العادي الذي لا يحب أن يصادم المعلوم من الدين بالضرورة والحريص على عقيدته ونجاته يوم الدين، ولو كان مقصرا في التزامه بأحكام الشرع هنا أو هناك، أن حجاب المرأة واجب شرعي انعقد عليه إجماع الأمة ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين من السلف أو الخلف، مع اختلافات متحملة في شكله وشروطه ومسألة النقاب، وحسب أعراف وعادات المجتمعات المسلمة. وكل محارب للحجاب أو مضيق على من تضعه على هذا الأساس هو محارب لله ورسوله.
ولو تحدثت عن الحجاب من الناحية المدنية وما يتعلق بالحقوق والحريات، فإن المرأة حرة في أن تلبس ما تريد، ما بقي لباسها في إطار الآداب العامة المتعارف عليها في المجتمعات السوية في مختلف الحضارات، فكل تضييق على لبس الحجاب والاحتفاء بلبسه، أو اشتراط نزعه لأخذ حقوق أخرى في الوظائف العامة، أو حتى في الوظائف الخاصة في المؤسسات السيادية، هو انتهاك للحقوق والحريات، والإمعان في ذلك دليل على أن الخلفية ثقافية أيديولوجية تعبر عن موقف معادي للديانة الإسلامية وحرية الاعتقاد بشرائعها. لا سيما أن دولا لا تدين بالإسلام تمكّن المرأة المحجبة من أي وظيفة إذا كانت أهلا لها ولو في المؤسسات السيادية.
ولكن لا أريد في هذه الدراسة أن أفصّل أكثر في البعدين الديني والمدني لمسألة الحجاب ولكن أود أن أعود إلى علاقة الحجاب ببعد آخر جامع لهذين البعدين المذكورين وهو البعد الوطني الذي تأسس أثناء مقاومة الاستعمار الفرنسي وخصوصا أثناء الثورة التحريرية النوفمبرية، لنؤكد بالوقائع التاريخية علاقة الحجاب (الذي تلتزم به أغلب النساء الجزائريات) بالتأسيس للفكرة الوطنية في مواجهة الفكرة الكولونيالية المتعلقة بالمرأة والأسرة (التي لا تزال أقلية نافذة في الدولة والمجتمع تتبعها وتشتغل على أساسها).
إن لباس المرأة الحرة المتعففة الحجاب إنما هو سجية غائرة في الزمن تعبر عن حياء المرأة وغيرتها على مفاتنها من أن تكون سلبا يتمتع بها الرجال بلا ضابط يضمن حق ملكيتها الحصرية للجمال الأنثوي، ثم جاءت الأديان ترسخ ذلك، ويشرح الأمر العالم الفذ أبو القاسم سعد الله في ربط الصلة بين لباس الستر للمرأة المسلمة مع ما تلبسه المرأة في الديانات السماوية الأخرى فيقول [عن الحجاب]: “وله قرابة كبيرة بجلابيب الراهبات النصرانيات منذ ما قبل الإسلام كما بأزياء النساء العبريات منذ مملكتي يهوذا وإسرائيل، أما سبب هذه القرابة المثيرة فيرجع إلى اشتراك الأديان التوحيدية الثلاثة في مبدأ أخلاقي عالمي يتمثل في ستر مفاتن النساء”. غير أن العالَم المسيحي تعرّض إلى صراع نكد بين الديانة المسيحية المنحرفة والعلمانية المصادمة للفطرة فكانت المرأة ساحة أساسية في المعركة، وحين تغلبت العلمانية سعت إلى “تشييء” النساء وجعلهن بضاعة مشاعة يلتهمها الرجال كيفما يشاؤون فحُورب الحجاب شيئا فشيئا إلى أن أصبح العري وإباحة الأعراض في بلدانهم أمرا طبيعيا، بل صار المسخ يدخل الكنائس ذاتها، وسارت المرأة الغربية على هذا الانحراف بالفطرة كرد فعل غير متوازن على ما كانت تعانيه من دونية في المعتقدات الدينية المحرفة ثم من عسف شديد في حقوقها في ظل الدولة العلمانية والماكينة الرأسمالية، خلافا للتكريم الذي منحه الإسلام للمرأة.
لم تفلح مخططات الاستعمار والديانة العلمانية الوضعية الجديدة، في المحصلة، في تفتيت الأسرة المحمدية وابتذال النساء المسلمات كما وقع للعالم المسيحي بسبب حفظ الله تعالى للإسلام بحفظ كتابه العزيز مصداقا لقوله تعالى في سورة الحجر: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)))، وبقيت المرأة في العالم الإسلامي مركز الحفاظ على الهوية الإسلامية، وكانت الجزائر من أكثر الدول التي لعبت فيها المرأة هذا الدور المحوري قبل الاستعمار وأثناءه وإلى اليوم.
يصف المؤرخ الإسباني "دييغو دي هاييدو" ترسخ الحجاب في المجتمع الجزائري في كتابه “طوبوغرافيا الجزائر وتاريخها العام ” ( Topografía e historia general de Argel.) الذي نشر سنة 1612 وقد كتبه بين 1578 – 1581 أثناء وجوده في الجزائر العاصمة فيقول عن النساء: “كن يخرجن في الشوارع على درجة من السترة حتى إن أزواجهن يعجزون عن معرفة هوياتهن”. وحين حل الاستعمار ببلادنا قدِر على أذية الرجال ولكنه لم يجد حيلة في كيفية الوصول إلى النساء بسبب تحجبهن عن الأنظار وحجابهن الحامي لعفتهن، فتشكلت له هواجس نفسية مرضية تجاه الجزائريات أمْلت عليه السياسات الهمجية التي اتبعها ضد المرأة المحجبة بعدئذ.
كان لحجاب المرأة الجزائرية أسماء كثيرة منها الحايك والملاية والملحفة والعباية وغيرها، وأشكال وألوان عديدة منها الملاية السوداء في الشرق الجزائري، التي يقال أن سبب لونها الأسود الحزن على استشهاد صالح الباي زعيم المقاومة الشعبية في الشرق، ولكن قد يكون السبب بقايا الثقافة الشيعية منذ العهد الفاطمي، والأكثر انتشارا منه الحايك، في الوسط الجزائري وغربه وفي الوسط الشرقي، ويقال أن الجزائر العاصمة تسمى الجزائر البيضاء (Alger la blanche) بسبب اللون الأبيض المنتشر في الشوارع عن طريق الحايك في الفترة العثمانية، وهناك الملحفة التي تلبسها المرأة الصحراوية التي غالبا ما تكون سوداء أو بيضاء ثم دخلت عليها ألوان متعددة.
كانت الملاية والحايك والملحفة تُستعمل عند الخروج من البيت وتكون اليدان مشغولتين بالمسك بأطراف ما يُتحجّب به، وكان الوجه يغطَّى بجزء من قماش اللباس الساتر لكي لا يظهر من وجه المرأة إلا عين واحدة (بوعوينه)، أو يُغطّى الوجه بالعجار وهو قطعة قماش مستقلة تتنقب بها المرأة فيظهر من وجهها عيناها، وحين أتيحت الفرصة للمرأة للتعلم والعمل بعد الاستقلال وجدت في شكل الحجاب الذي جاءت به الصحوة الإسلامية منذ نهاية السبعينات الشكل الأنسب لها لتكون يداها طليقتين لمزاولة ما عليها فعله في المدرسة أو في الوظيفة، ولذلك ترى أغلب النساء بأن الشكل الجديد للحجاب سمح لهن بنيل حقوقهن خارج البيت دون الاضطرار لمخالفة أحكام الدين وثقافتهن المجتمعية، ثم صار الحجاب ظاهرة اجتماعية منتشرة عابرة لكل المكونات الشعبية لا تحدها ولا تؤطرها جماعة دينية أو حزب سياسي أو تيار أيديولوجي.
لقد مثل هذا التطور في الالتزام بالحجاب هزيمة نكراء في الحرب الثقافية التي شنها الاستعمار الفرنسي ضد الأسرة والحجاب والذي لا يزال أذنابه يواصلونه بعد الاستقلال.
منذ أن وطئت أرجل الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر بدأ في محاربة الحجاب فصدر سنة 1830 في المجلة العسكرية ضمن القوانين التي تحدد سلطة الجيش الفرنسي حظر لبس الحجاب في الأماكن العامة وتم تنفيذ عقوبات ضد المرأة التي تخالف الحظر ولكن التدبير لم تنجح، كما قامت بمحاولات حثيثة لتحريف المرأة الجزائرية عن دينها وثقافتها من خلال السياسة التعليمية بمنع الفتيات المسلمات اللواتي أتيحت لهن فرصة التمدرس من لبس الحجاب بمختلف أشكاله في المدرسة.
لقد شعر الاستعمار منذ دخوله الجزائر بإن إخضاع الجزائريين غير ممكن ما بقوا يسيّرون أسرهم بقوانين الأحوال الشخصية التي حافظوا عليها على هامش قوانين الاستعمار بعد سقوط دولتهم. فمع حلول الجمهورية الفرنسية الثالثة في عام 1871 أصبح سكان الجزائر من المعمرين، شذّاذ الآفاق الذين جاؤوا من مختلف أنحاء أوروبا، فرنسيين يحق لهم انتخاب ممثليهم في مجلس النواب، ولكن الجزائريين المسلمين حرموا من ذلك بضغط من المعمرين وعساكرهم الذين اشترطوا على المسلمين التخلي عن قانون الأحوال الشخصية (المرتبط بالشريعة الإسلامية)، ورفعوا آنذاك شعارات فيها صور لنساء محجبات ومكتوب عليها: “سيكون بمقدوركم الانتخاب حين تخلع نساؤكم الحجاب”. وقد بيّن ذلك بالشواهد الكاتب والصحفي جان بيار سيريني (Jean pierre Sereni) رئيس التحرير السابق لمجلة الاكسبرس الفرنسية.
رغم التضييق المستمر والحرمان الممنهج جراء قانون الأهالي بقي الشعب الجزائري صامدا متمسكا بهويته وكان التجنس والاندماج في المجتمع الفرنسي إثما من الناحية الدينية وعارا في القواعد الاجتماعية، يتوافق عليه العلماء ونخب الحركة الوطنية والأغلبية الساحقة من الجماهير الجزائرية، وضمن هذه المقاومة الثقافية الشاملة بقيت المرأة الجزائرية متمسكة بحجابها ولم تندمج في الثقافة الفرنسية إلا عدد قليل من الجزائريات وصار الحجاب بكل أنواعه ( الحايك، الحايك، الملحفة ..) رمزا وطنيا للتميز عن المستعمر الظالم بله كونه حصنا دينيا لحماية الأسرة الجزائرية من التفسخ والتفكك.
لم تكن مشاريع سلخ المرأة الجزائرية عن هويتها وتجريدها من حجابها عمليات عسكرية اندفاعية فحسب بل كانت تخضع لدراسات اجتماعية ونفسية، فهذا الجنرال “أوجان دوما” (Eugène Daumas, 1803-1871 ) الذي أتقن اللغة العربية وصار خبيرا بالمجتمع الجزائري وعين قنصلا لدى الأمير عبد القادر أثناء قيام دولته ثم مرافقا له عدة مرات في أماكن سجنه بعد إنهاء مقاومته، كتب عدة كتب عن الجزائر أهمها دراسته “المرأة العربية” من أربعة عشر فصلا، وتوصل – بعد معرفة عميقة بدور المرأة المسلمة في تحصين المجتمع من الاختراق الاستعماري – إلى أنه لا يمكن لفرنسا أن تتحكم في المجتمع المحلي في الجزائر دون تمزيق الحجاب الذي يلف جسم المرأة. وهذه الكاتبة والصحفية الفرنسية النسَوية هوبرتين أوكليرك (Hubertine Auclert 1848-1914) توصلت هي الأخرى بعد مكوث أربع سنوات في الجزائر بين 1888- 1892 في كتابها “النساء العربيات في الجزائر” إلى أن الإسلام هو الذي يمنع المرأة الجزائرية أن تكون فرنسية، ورغم اتهامها السلطات الفرنسية بمنع حقوق الأهالي فقد دعت جيش الاحتلال إلى فرنسة المرأة الجزائرية وتخليصها من حجابها، وسار على دربها كثير من النَسويات أثناء الفترة الأولى للاستعمار منهن مجموعة من النساء كتبن كتبا بعنوان واحد “أخواتنا المسلمات” لاستيعاب المرأة الجزائرية المسلمة ضمن الثقافة الفرنسية، ومن هؤلاء الناشطة المشهورة ماري بوجيجا ( Marie Beaugéja) تلميذة أوكليرك وصاحبة كتاب بنفس العنوان صدر سنة 1921.
ثم تكثف اهتمام السلطات الفرنسية بمسألة حجاب المرأة الجزائرية بين 1930-1935 ، وفق ما ذكره الطبيب الفرنسي فرانس فانون الذي اندمج في النضال الجزائري ضد الاستعمار في مساهمة طويلة له نشرها يوم 16 ماي 1957 في جريدة ” المقاومة الجزائرية” تحت عنوان “الجزائر تخلع الحجاب” يبين فيها الاستراتيجية الاستعمارية لهزيمة الثورة الجزائرية من خلال محاربة الحجاب فيقول: ”لقد بات المجتمع الاستعماري يتصرف، بكل قيمه وركائز قوته وتنوع فلسفته، بشكل موحد تجاه خمار المرأة، وقبل اندلاع الثورة التحريرية أطلقت السلطات الفرنسية المعركة الفاصلة لتدمير أصالة الشعب الجزائري، واستعمال كل السلطات لتفكيك أي شكل من أشكال التعبير، من قريب أو من بعيد، عن وجود حقيقة وطنية جزائرية، وتم توجيه أغلب الجهود إلى ضرب لباس الخمار” باعتبار “أن الحجاب هو المظهر الوحيد المعبر عن الانتماء الوطني الذي لا يمكن إخفاؤه في المجتمع الجزائري المسلم تحت الاحتلال”.
شعرت الحركة الوطنية بعد الحرب العالمية بأهمية المرأة في المعركة الثقافية ضد الاستعمار فبدأت منظماتها تشكل الجمعيات النسوية فبرزت جمعيات انطلى عليها النهج الاستعماري المخادع ومنها اتحاد النساء الجزائريات التابع للحزب الشيوعي الجزائري المرتبط عضويا بالحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان همه النضال من أجل حق الانتخاب للمرأة الجزائرية لكي تندمج في الحركة البروليتارية العالمية العلمانية دون اكتراث بالأبعاد الوطنية والدينية، وكان على رأس هذه المنظمة النسوية الجزائرية فرنسية شيوعية اسمها “أليس سبورتيس” عاشت وتوفيت في فرنسا بعد الاستقلال، واتجهت النخبة الاندماجية في الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من جهتها إلى منحى تحرري للمرأة الجزائرية بالاندماج في المجتمع الفرنسي على نهج قريب من دعوات قاسم أمين في مصر منذ 1899 لتتخلّى المرأة عن الحجاب، ودعوات تحرير المرأة على النمط الغربي في سوريا والعراق وتونس، غير أن الغالبية الكاسحة للنساء الجزائريات فضّلن أخذ حقوقهن وتحسين ظروفهن في إطار الشريعة الإسلامية، وكانت أكبر حركة لتحسين ظروف المرأة هي ما قامت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من خلال تعليم المرأة وتأسيس مدارس الفتيات في مختلف أنحاء الوطن والعمل على إرسال بعضهن إلى كليات خارج البلاد وقد تحدث عن ذلك بإسهاب دكتور عمار طالبي لوكالة الأنباء الجزائرية بمناسبة عيد العلم في 16 أفريل لهذه السنة.
كما قام حزب الشعب بتأسيس فرعه النسوي “اتحاد النساء المسلمات الجزائريات” بالتأكيد على الهوية الإسلامية وكان التقارب كبيرا بين جهود جمعية العلماء المسلمين وحزب الشعب في المسألة النسائية من ناحية التوجه الثقافي الوطني المشترك بينهما، بل إن بعض الكتاب الفرنسيين ومنهم سيريني ذكروا أن من كان يشرف على الفرع النسائي لحزب الشعب من خريجي جمعية العلماء بتدبير من مصالي الحاج نفسه.
لقد صُممت المعركة ضد الحجاب وأصالة المرأة الجزائرية على أسس علمية انثروبولوجية، نفسية واجتماعية منذ البداية، وحين عُيّن جاك سوستال (jacques Soustelle) ليكون الحاكم العام للجزائر سنة 1956 بعد اندلاع الثورة التحريرية كان أساس اختياره كونه شخصية علمية انثروبولوجية، بمعنى أنه كان متخصصا في علم الأعراق والشعوب، علاوة على أنه كان مقتنعا بضرورة إدماج الجزائريين في الأمة الفرنسية كشخصية سياسية. حاول سوستال تعميق المنحى العلمي في سياسة الإدماج فحل كل الجمعيات النسوية الجزائرية لكي لا يتم تحرير المرأة إلا عن طريق الإرادة الفرنسية المنكرة للأحوال الشخصية الجزائرية، وأحاط نفسه بالباحثين الاجتماعيين من جهة وبضباط شباب تدربوا على الحرب النفسية في الحرب الهند الصينية (التي خسرتها فرنسا)، لم يطل حكمه أكثر من سنة ولكن اسمه بقي مرتبطا بالقضية الجزائرية كمدافع شرس عن فكرة الجزائر الفرنسية ومحو أي ملمح للهوية الجزائرية، خصوصا ما يتعلق بالمرأة والأسرة.
أكدت الدراسات الاستعمارية أن وراء المجتمع الأبوي الجزائري (société patrimoniale) الظاهري يوجد هيكل أسري قوي جوهره وأساسه المرأة الجدة والأم والخالة والعمة ذوات النفوذ الكبير الذي يحفظ القيم الإسلامية الوطنية الجزائرية، وأن البنات يتأثرن بسلطة هؤلاء النساء الأقوياء أكثر من تأثرهن بسلطة أبائهن وأشقائهن. فكانت الاستراتيجية هي الضغط على الرجال لإخراج أزواجهم من هذه السلطة الرجالية والنسائية التقليدية وبإحراج العمال الجزائريين بدعوة أزواجهم معهم إلى الحفلات التي يقيمها أرباب العمل والمدراء الفرنسيين، وخصوصا الاستثمار في الفتيات وجعلهن يتمردن على الرجال وعلى الجدة والأم والعمة والخالة، من خلال المدرسة التي بات فيها التحريش ضد العائلة ممنهجا والدعاية الإعلامية التي تصور الحجاب بكل أنواعه تخلفا ورمزا للقهر والدونية لدى المرأة، فتضع في خلفية الملصقات الدعائية صورة امرأة محجبة بائسة وأمامها صور لنساء سافرات جميلات مبتسمات وتكتب عبارات مثل ” ألست جميلة؟ اكشفي نفسك!” ” كوني كغيرك من النساء!” وغير ذلك من الحملات المبرمجة في الأرياف على شكل حملات طبية وفي أماكن العمل وفي المدارس والطرقات حيث توزع المنشورات على السكان، و تهدف كل تلك البرامج – كما يقول فانون – إلى تجريم السلطة الرجالية للمسلمين وتصويره عدوا للمرأة وإظهار دور فرنسا في إنقاذ المرأة الجزائرية ودعمها للوصول إلى التقدم والمدنية بزعمهم.
عرفت سياسات الحرب على الحجاب تصعيدا شديدا مع تطور أحداث الثورة التحريرية النوفمبرية، ضمن قناعة عميقة لدى جنرالات فرنسا بأن الحرب ضد الثورة الجزائرية يجب أن تُكسب من داخل المجتمع الجزائري وأن الباب الذي يجب كسره لدخول الحصن هو حجاب المرأة، فاتجه هؤلاء الجنرالات بتصميم مخطط شامل لتحفيز المرأة الجزائرية وحملها على ترك حجابها، واستعانوا في ذلك ب “المكتب الخامس” التابع للجيش المكلف بالحرب النفسية وباختراق المجتمع الجزائري وفق قاعدة ” السمكة في الماء”، وقد تمثل المخطط بفبركة حفلات في العديد من المدن الجزائرية لنزع جزائريات حجابهن (الحايك) علانية بحضور وسائل الإعلام وحشود شعبية، وإقامة مسيرات لنساء ينزعن الحايك ويحرقنه في الطرقات مع حرب إعلامية دعائية كبيرة.
كانت أول وأكبر عملية حرق الحجاب في الجزائر العاصمة، شاركت فيها زوجة الجنرال راؤول ماسو (jacques massu) قائد المظليين ذو الشعبية الكبيرة لدى المعمرين، وأشرفت عليها زوجة الجنرال صالان ( Raoul Salon) كبير القادة العسكريين الاستعماريين، وجيئ فيها باثنتي عشرة امرأة جزائرية تم تهديدهن بالطرد من عملهن في بيوت المعمرين، وبعضهن مفرنسات لم يكن يعبأن بالحجاب أصلا، وبعضهن مومسات وفق ما ذكره بعض الصحفيين الفرنسيين، لكي يقفن على المنصة وينزعن الحجاب وحرقه تحت تصفيقات الحشد وأضواء الكاميرات، ثم تكررت العملية في العديد من المدن برعاية ضباط “المكتب الخامس” . ومن القصص المثيرة في هذا الشأن التي كتب عنها كثير من الصحفيين والمؤلفين الفرنسيين والغربيين قصة فتاة في قسنطينة لم تكن محجبة أصلا اسمها مونيك أمزيان، من أب جزائري وأم فرنسية، هُددت بأن أخاها، المسجون لدى الجيش الفرنسي، سيقتل إن لم تلبس الحجاب في الحفل ثم تنزعه وتقرأ بعد ذلك البيان الذي كتبه لها الضباط الفرنسيون. وقد قام الصحفي الفرنسي – الذي كشف حقيقة مجازر 17 أكتوبر في باريس – جون لوك يونيدي ( jean Luc Eeinaudi) تحقيقا في الموضوع فكشف القصة كاملة بأن السجين مولود أمزيان طرد أخته غير الشقيقة مونيكا حين جاءت تبشره بإطلاق سراحه وهي تلبس فستانا عليه ألوان العلم الفرنسي وأن “البشاغا” الذي كان وسيطا بين الفتاة والجيش الفرنسي قررت جبهة التحرير قتله على خيانته تلك. وقد دون الكاتب البريطاني نيل ماكماستر (Neil MacMaster) تلك العمليات الاستخباراتية المتعلقة بحرق الحجاب التي نظمتها السلطات الاستعمارية في كتابه “حرق الحجاب” Burning the veil: The Algerian war and “the Emancipation of” muslim women,1954-1962.
حاولت السلطات الاستعمارية فرض قوانينها المدنية لتنظيم الأسرة الجزائرية بغرض إخراج المرأة من الحصن العائلي فسنت عبر سنوات وجودها العديد من القوانين والمراسيم والأوامر، منها قانون مارسيل موران سنة 1916 ومرسوم 19 ماي 1931 المتعلق بالحالة القانونية للمرأة الجزائرية فبقيت كلها حبرا على الورق لم يتعامل معها الشعب الجزائري، ثم حاولت من خلال الأمر الصادر في 23 نوفمبر 1944 تنظيم القضاء الإسلامي فلم تفلح. وفي أجواء الحملة الكبيرة التي شنها جنرالات الجزائر الفرنسية بقيادة صالون أصدرت السلطات الفرنسية المرسوم الصادر في 19 سبتمبر 1959 المتعلق بتنظيم الزواج والطلاق بعيدا عن الشريعة الإسلامية لفرضه على الجزائريين، غير أن أصحابه وقعوا في صراع مع الرئيس الفرنسي ديغول على إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي قاموا بها ضده فأبعدوا، ولم يلتفت أحد إلى ذلك التشريع في ظل زخم الثورة التحريرية ثم المفاوضات من أجل الاستقلال.
لم تفلح السياسات الاستعمارية في هزيمة الثورة التحريرية من خلال محاربة الحجاب بل ساهمت المرأة الجزائرية المحجوبة في بيتها والمحجبة خارجه في احتضان الثورة في كل الأحياء النائية في المدن وفي القرى والمداشر بإيواء الفدائيين والمجاهدين وإطعامهم وعلاجهم وغسل أثوابهم، ثم أصبحت المرأة المحجبة تؤدي أدوارا فدائية واستخبارية واستطلاعية وفي نقل الرسائل المكتوبة والشفاهية ونقل الأموال، ونقل السلاح تحت الحايك والملاية وتسليمه للفدائي في موقع العملية، بل كان بعض الفدائيين الرجال يلبسون الحايك للتنقل بسهولة، ومع مرور الزمن أصبح الحايك عدوا لدودا للمعمرين والعساكر فصارت المرأة المحجبة تُفتّش تلقائيا في الحواجز الأمنية والعسكرية.
أدى التضييق على الحايك في نقاط التفتيش إلى اعتماد نهج جديد لدى بعض قادة الثورة خصوصا في الجزائر العاصمة، باستعمال التمويه حيث تخرج المجاهدة والمناضلة بالزي الأوروبي تحمل في حقيبتها السلاح والمتفجرات حتى لا ينتبه إليها العساكر، وقد صور هذه الملحمة بإبداع فيلم “معركة الجزائر” الذي أخرجه المخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو. وبما أن الفيلم كان قريبا من فترة الاستقلال، إذ صور سنة 1966، كانت روح الثورة نقية فيه فقد أبرز بتلقائية ودون حسابات سياسية وأيديولوجية دور الحايك في الكفاح ضد المستعمر، بل صوّر الأسف الكبير الذي بدأ على وجه الممثلة التي أدت دور تلك الفدائية وهي تقص ظفائرها لتكون على هيئة أوربية. ويعتبر الأستاذ في جامعة صالح بوبنيدر بقسنطينة، سليم بوشنافة إنّ نزع المناضلة للحايك كان تنازلا كجزء من تضحية قدّمتها المرأة في سبيل الاستقلال وإنجاح العمل الثوري فيقول أنّ “هذا التنازل كان يرمي إلى تنفيذ العديد من العمليات الفدائية بعيداً عن شكوك المحتل بهدف الانعتاق من نير المستعمر”.
وباعتبار أن الحايك كان انتماءً ثقافيًا وهوية عامة عند العديد من النساء الجزائريات أثناء الاستعمار ولم يكن لدى هؤلاء الثقافة الشرعية الكافية لينظرن إليه على أساس أنه واجب ديني سهُل على بعضهن عدم الالتزام به مع المحافظة على الاعتزاز بالهوية الإسلامية الجزائرية والتميّز الأخلاقي عن الفرنسيات، علاوة على أن حالة الجهل والتخلف الذي كان يغرق فيه العالم الإسلامي عموما تحت الاحتلال الأجنبي المتطور، وفي الجزائر خصوصا – في ظل قانون الأهالي العنصري المدمر للشخصية الجزائرية – وكذا حملات التغريب التي قامت بها السلطات الفرنسية في المدرسة والإعلام، علاوة على التوجهات العلمانية الاندماجية لدى بعض التيارات الجزائرية – على مستوى النخبة والمشايخ الموالين لفرنسا والشيوعيين – أثرت في نقل الثقافة التغريبية للعديد من الجزائريات المناضلات اللواتي، رغم عدم التزامهن بالحجاب أظهرن اعتزازا كبيرا بانتمائهن الإسلامي وكان بعضهن بحق من الأبطال التاريخيين في الثورة التحريرية يتمتعن عندنا جميعا بقدر عال من التقدير والاحترام. غير أن حالة المرأة المناضلة والمجاهدة غير المحجبة كانت استثناء من الناحية العددية إذا قورن بعدد النساء اللواتي انخرطن كلية في ملحمة الثورة التحريرية في مختلف الأحياء والقرى والأرياف على طول الجزائر وعرضها.
لقد اعتبرت الحركة الوطنية والثورة التحريرية قضية الأحوال الشخصية الجزائرية وحجاب المرأة الجزائرية قضية دينية ووطنية في نفس الوقت، ولذلك لم تُلزم السلطات الجزائرية بعد الاستقلال الشعب الجزائري بتشريع 1959 الموروث عن الاستعمار وبقيت الأسرة الجزائرية تنظم وفق أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. عملت دولة الاستقلال على التكيف مع الوضع الأصلي في المجتمع بمبادرات تشريعية جزئية طيلة الستينات إلى أن تم إلغاء القوانين الفرنسية في 5 جويلية 1973. وبعد العديد من المحاولات التشريعية تم الفصل نهائيا في هذا الأمر الجلل وصدر قانون 9 جوان 1984 على أساس الشريعة الإسلامية التي تحصنت بها الأسرة والمرأة الجزائرية ضد الكيد الاستعماري عبر عقود طويلة من الزمن، وانتهى الاستعمار بفشل ذريع في جانب مهم في المعركة الثقافية والحضارية حسمتها المرأة الجزائرية ضده. ولهذا السبب اعتبر المجاهدون الذي كانوا في المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية في دولة الاستقلال في عهد الحزب الواحد أن ما قاموا به إنما هو حسم نهائي في تلك المعركة الطويلة ضد الاستعمار وضد أذنابه، ولذلك واجه أحد المجاهدين من جبهة التحرير الوطني في ذلك الوقت امرأة من أولئك الأذناب حين احتجت على قانون الأسرة قائلا لها غاضبا: “أنت ابنة ماسو وصالان” في إشارة منه إلى تلك المسرحية المحبوكة منهما لحرق حايك المرأة الجزائرية في الساحات العمومية.
ولكن هل المواجهة انتهت؟ لا لم تنته بعد، لأن أذناب الاستعمار لا زالوا لم ييأسوا من الجزائر ووراءهم دولة فرنسا تسندهم وكل القوى الغربية الامبريالية، ولكن القوى الوطنية والإسلامية في الجزائر، من جيل أبناء الشهداء والمجاهدين، لهم بالمرصاد كذلك – ومعهم أبناؤهم وأحفادهم في الشعب الجزائري الأبي، ومعهم المرأة الجزائرية الحرة المعتزة بانتمائها – سواء كانت محجبة أو غير محجبة، ولا يمكن أن يخسر الوطنيون الأصلاء في هذه المعركة الحضارية – في إطار ديمقراطي وضمن حرية الاختيار المكفولة للجميع – لأن الله سبحانه وتعالى معهم والشعب الجزائري معهم و الوطنيون الصادقون في الدولة حيثما كانوا معهم ولله الحمد والمنة.