أشرنا فيما سبق إلى هيمنة النموذج المعرفي الغربي على صناعة المعرفة والفكر في العالم المعاصر، وإشعَاع الحضارة الغربية الذي مما تسبب في انتشار مفاهيمها وتصوراتها وأنماط عيشها ونظمها على العالم أجمع، بفعل الحركة الاستعمارية الحديثة، والتطور التكنولوجي، ثم موجة العولمة و"الحداثة السائلة"، وهذا جلب للعالم وليس على المسلمين فحسب مشكلات في الفكر والعلم والعمل والحياة والاجتماع.
ومن بين آثار هذا الاشعاع الغربي أن سرى مفهومه لدين بعينه على بقية الأديان، وتم تعميم النموذج المسيحي على بقية الأديان، واختزاله في أحوال إيمانية سلبية وانحصر الدين في الشأن الوجداني الخاص ولم يعد له دور في الشأن العام وصياغة الحياة وتوجيهها، بل أنك تجد الإنسان المعاصر ينتسب إلى دين معين يمارس بعض طقوسه ويشعر بانتماء وجداني له ولكن لا علاقة للدين بصياغة وعيه وفكره وعلمه وعمله ونظم حياته وبناءَاته الثقافية والحضارية إلا قليلا.
وبالرغم من أن الفلاسفة المعاصرين ودارسي الأديان والحضارات في الغرب بخاصة، تباينت تعريفاتهم للدين وتحديداتهم له لكن غالبها الأعم اتخذت من المسيحية نموذجا للحديث، سواء أجاءت في صورة مدح للدين أم في صورة انتقاص من شأنه ، لذلك لا تعدو أن تكون ضمن المعنى المسيحي للدين، ولهذا لا يجد ماكسيم رودنسون حرجا من الاعتراف بذلك في قوله بأن الغربيين ميّالون بطبعهم إلى الحكم على جميع الأديان بحسب النموذج الذي اعتادوا على استعماله، وهو النموذج المسيحي. (1)
ولهذا، فإنه كما لا يمكن اختزال ثراء وسعة العلم في العلوم الطبيعية، بل هو أوسع منها موضوعا ومنهجا- كما أشرنا في مقالنا السابق فإنه لا يمكن اختزال الدين في أحوال الإيمان، وذلك كما يقول طه عبد الرحمن لوجود مبدأين يمنعان هذا الاختزال:
مبدأ تعدد شعب الحياة:
وبيانه أن السؤال الذي يجيب عنه الدين هو بالذات "كيف أحيا؟" فيكون الأصل في الدين هو الحياة الطيبة، غير أن الحياة الطيبة ليست شعبة واحدة وإنما شعب متعددة ، وقد نجمع هذه الشعب في ثلاث شعب كبرى، وهي "شعبة الإيمان"، وتدخل فيها كل الاعتقادات ثم "شعبة العلم"، وتدخل فيها كل المعارف و أخيرا "شعبة العمل"، وتدخل فيها كل الأفعال ، ولا حياة طيبة إلا بتكامل هذه الشعب الثلاث فيما بينها، فالفرد لا يحيا بشعبة واحدة منها، إن إيمانا وحده أو علما وحده أو عملا وحده ولا بشعبتين منها، إن إيمانا وعلما معا أو إيمانا وعملا معا أو علما وعملا معا، وإنما يحيا بها جميعا على قدر نصيبه من كل شعبة منها وهكذا، فالدين أوسع من أن تستوعبه حال الإيمان وحدها.(2)
فالدين جاء منهاجا للحياة كلها لتحقيق الحياة الطيبة، كما جاء ليجيب عن أسئلة الإنسان الوجودية الكبرى عن الخالق والكون والحياة والمصير وليس هذا فحسب، بل جاء الدين منهاجا ليعلم الإنسان ويفتح ذهنه للتدبر والنظر في ما خلق الله في هذا الوجود والتعرف عليه، وليُقيم حياته وفق سنن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتاريخ عملا بتلك السنن، وتسخيِرا لها وتحقيق إنسانية الإنسان، وأداء للأمانة التي حملها الإنسان ولم تستطع السموات والأرض والجبال حملها واشفقن منها.
فالدين ليس أحوالا إيمانية جذبية قاصرة، بل إن الدين يغطي كل جوانب الحياة على تعدد مناشطها وجوانبها ويصوغها كلها في وحدة تكاملية ، فلا يعيش الإنسان التمزق بين أبعاد حياته المختلفة ولا يعيش التناقض بين ما يعتقد ويتصور وبين ما يعلم ويعرف وبين ما يعمق وينجز
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل الآية: 97]، وقوله تعالى أيضا (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [سورة الأنعام الآية: 162]. فليس هناك اختزال، وليس هناك شأن خاص دون العام، وليس هناك انفراد الدين ببعد واحد في الحياة وانعزاله بها، وابتعاده عن الأبعاد الأخرى، بل إن الدين يستغرق حياة الإنسان كلها بتشَعباتها وثرَائها وتنوعها.
المبدأ الثاني فهو "مبدأ استكمال الشعبة":
وفي هذه يرى طه عبد الرحمن أن الأصل في كل شعبة من شعب الحياة الطيبة أن تطلب كمالَها، ولا تُحَصِّل هذا الكمال إلا بالتداخل مع الشعبتين الأخريين، ذلك أن كل شعبة تكون بها حاجات ولها تعلُّقات، ولا يمكن أن تُلبي هذه الحاجات وتُرضي هذه التعلقات إلا هذه أو تلك من الشعبتين الأخريين أو هما معا؛ فلا بد إذن لكل شعبة من أن تظل موصولة بغيرها من شعب الحياة؛ وهكذا، فالشُعبة الواحدة لا تبلغ غاياتها وتكتمل حقا إلا بباقي الشعب.(3).
إن هذا التكامل والتراتبية والاستمرارية وارتباط كل جانب من الحياة بالجوانب الأخرى يجعل مفهوم الدين أوسع مما يتم تسويقه في نموذجه الغربي أو في النماذج الأخرى المشوهة والمحرفة والقاصرة، بل يجعل لجانب الاعتقاد في الدين أثرا بالغا في بناء بقية الجوانب، ذلك أن الاعتقادات تبني التصور وتُؤسس نظرة الإنسان للحياة والوجود والغيب، وعليها تبنى أعمال قلوبنا وأنفسنا وجوارحنا
ولكن كِلا البعدين يبنيان على شعبة العلْم التي تتسع لتشمل كل جوانب العلم طبيعة وشرعا وإنسانيا واجتماعيا، أو بعبارة أخرى فإن العلم في موضوعه يشمل علوم الشرع والطبيعة والإنسان والمجتمع، وفي مصْدريته يتجاوز مجرد عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وفي منهجه لا يقف عند التجريب، بل يستند على إعمال العقل والنقل، ويعتمد الفهم والتأويل كما يعتمد التجريب، ويسعى كله في تحقيق اعتقاد صحيح وعمل صالح.