السبب الحقيقي لما أصاب الأمة من وهن وما يزال يتسبب في إخفاق مشروعات الإصلاح الحضاري فيما انتهى إليه علمي - والله أعلى وأعلم - من واقع بحوثي على مدى نصف قرن تقريبا، وسبب إخفاق كافة مشروعات الإصلاح في الأمة رغم صدق دعاتها دون استثناء على نحو ما تشهد به تضحياتهم؛ هو ما حدث في لحظة التألّق الحضاري الأولى في القرن الثالث الهجري من إحلال للجملة اليونانية محل الجملة القرآنية بمفاعيله المتتابعة طيلة القرون التالية حتى الآن. 

    مما جعل جلّ الفكر والحركة متبتلا في محراب الدولة، قالبا للموازين، بظنّ أن الدولة التي هي بطبيعتها نسق إنساني مصنوع، سِمته الرئيسة الموقوتية بديلا عن الأمّة الواحدة المجعولة المكلّفة بأن تكون خير أمة أخرجت للناس حتى تقوم الساعة، الأمّة التي يستحيل خلوّ الوجود منها حتى لو غدت ممثلة في شخص واحد تارة، وأداة لاستعادتها بالقهر تارة أخرى، وبهذا الخلل جعل القرآن عضين.

    وتفرّقت الأمة الواحدة شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، وحلّ الفقه الصوري محل الفقه الذي وراءه عمل، وغاب فقه الأنساق الأمتية، وتضخم الفقه الفردي الافتراضي الغثائي، وذهب كثيرون إلى أن ما أقامه النبي بالمدينة هو دولة وليس أمة، وكتب التاريخ على أنه تاريخ أسر حاكمة، وحلّ محلّ الأمة كوحدة تحليل مفهوم الدولة. 

    كما حلّ محلّ مبادىء: نفي الإكراه في الدين والتزام كلمة التقوى والدعوة إلى كلمة سواء للدخول في السلم كافّة، مفتريات من قبيل: نسخ مبدأ لا إكراه في الدين. ومن حينها وقع العطب والتلبيس في علوم الأمّة على نحو يستحيل معه ستر سوآتنا التي ظهرت وتجذّرت. ولا مخرج من ذلك إلا بتوبة أمتية قائمة على إصلاح أعطاب علومنا بميزان القرآن وحده، وإصلاح ذات بين العلوم بالجملة القرآنية. وعندها فقط ستستعيد أمتنا تبيّن الرشد من الغي، فيستقيم الفكر، وتستقيم الحركة، وييأس شياطين الإنس والجن من فتنتنا في ديننا، ويعودون مرّة أخرى إلى حالة عضّ الأنامل علينا من الغيظ، والاكتفاء بالتحريش بيننا. 

    ومن الأمانة العلمية القول بأن ما صنعناه بإرادتنا طيلة القرون الإثني عشر الأخيرة بالنسج على منوال الجملة اليونانية هو أشد ضراوة مما فعله الاستعمار القديم والجديد بأمتنا. فلولاه ما أمكنهم مطلقا اختراق حصوننا العقدية.

بل أقول ربما ما بلغت إصابة الغرب بالدهريّة حدّ ما بات عليه من ضلال لو كان اتصال المسلمين بالغربيين في الأندلس بالجملة القرآنية وليس بالجملة اليونانية.

    ولعلّ ما نتكبده الآن على يد اليمين الصهيو مسيحي المحافظ الجديد بكل رموزه هو بعض جزاء وفاق على فتنتنا بالجملة اليونانية، والتسبب في استعادتهم الوعي بها والانطلاق منها بعد أن كانوا قد نسوها، وفتنتهم بها من جديد.