بناءاً على ما سبق تناوله في المقالات السابقة من اختلافات في الرؤى في موضوع "الصلة بين الدين والعلم"، وأهمية نقد تلك الرؤى والخروج من التقليد إلى الإبداع، فإن طريق الإبداع في ذلك هو الرجوع إلى القرآن الكريم وإعادة الاعتبار له في صياغة المفاهيم والعلاقات بين الدين والعلم، لأن  القرآن - كما يقول الدكتور طه جابر العلواني - يقدّم بنائية مفاهيمية دقيقة، فكلّ مصطلح يدلّ على مفهوم محدّد، وكلّ مفهوم يدلّ على الرؤية الكلية للقرآن التي أسّست لمنظور جديد للحياة استكمل الجهد الذي قام به خطّ النبوّة عبر التاريخ، ووضع أسس هذه الرؤية على قاعدة العلم، وقراءة وتسخير نواميس الكون. 

    في هذا السياق فإن تحديد مفهوم الدين والعلم والصلة بينهما في الاستعمال القرآني من الأهمية بمكان؛ لأنه يستعيد للقرآن هيمنته المعرفية ومصدريته ومركزيته المنهجية. ولأننا نجد القرآن قد فسح لهما مساحة واسعة في آياته، ووفر لهما مادة معرفية مكثفة تنبئ عن أهميتهما وأهمية الصلة بينهما، لذلك نجد كلمة "الدين" وكلمة "العلم" من الألفاظ الأساسية والمفتاحية في القرآن الكريم وفي هذا السياق فإن الرجوع إلى القرآن أمر بالغ الأهمية، لأن القرآن هو الكتاب الإلهي الذي أحدث نقلة في الوعي الإنساني، وغيّر مجرى تاريخ الإنسان، باهتمامه بالعلم ووسيلته "القراءة" مفتاحا للعبادة و الاستخلاف وعمارة الأرض وتحقيق العمران والتحضّر، بكل ما تحمله "القراءة" من وسائل التعلّم ونقل المعرفة والعلم وتداوله وتطويره وتوظيفه واعتماد المنهج العلمي في البناءات الفكرية والثقافية والاجتماعية وفي شتى مجالات الحياة.

    ذلك أن القرآن الكريم نقل الوعي الإنساني من التمركز حول الأساطير والقبليات والعصبيات والأفكار الجزئية إلى الاعتماد على الكلمة والعلم والقراءة. 

    فالقرآن نصّ يحتوي حقائق لا يصل إليها الإنسان بطرق سحرية أو عشوائية وإنّما من خلال القراءة والتعلم.

    وأوّل ما نزل من القرآن قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1-5). وهذه إشارة مهمة إلى أولوية القراءة وأهمية العلم في بناء الدين والشرع، وإشارة إلى أن هذه المعجزة القرآنية و  السبيل إلى فهمها وإعمالها هو فعل القراءة وطريق العلم، وليس الطرق المعهودة من قبل.

    فالقرآن معجزة مقروءة انتقلت بالإنسان من معجزات الحسّ إلى معجزات الفكر والكلمة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: "ما من الأنبياء نبيّ، إلا أعطي من الآيات، ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيا، أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". 

    ومع القرآن حدث انتقال من معجزات مؤقتة إلى المعجزة الدائمة؛ القرآن ذاته، الكتاب المعجز المفتوح للقراءة والتلاوة والتدبر، وفي هذا إشارة إلى دوام فعل القراءة أي بمعنى أن المستقبل يبنى على القراءة؛ قراءة كتاب الله بمختلف أنواع القراءة وقراءة كتاب الوجود الذي يوجّه إليه القرآن الكريم.

    كما أن القرآن يفتح أمامنا كتاب الكلمة وكتاب الوجود، لندرك أن سنن الهداية توجهنا إلى إدراك سنن الآفاق والأنفس والتاريخ، وأن سنن الآفاق والأنفس والتاريخ تدلنا على أن سنن الهداية حقّ، يقول تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53].

يقول تعالى أيضا: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ: 6].

    إضافة إلى أن قصص القرآن يمثل استرجاعا لتجارب الأنبياء وتجارب البشرية، وعرض سنن قيام وسقوط وتغيير وثبات المجتمعات والأمم والأفكار… 

وفي القرآن أيضا حديث عن حركة الكائنات وجريانها وتغيرها واختلافها. 

    بل إن تلاوة القرآن وأوراده وتعهده بالقراءة والختم كلها طرق تجعل القراءة مركزية في حياتنا (عبادة وفهما وتدبرا وتذوقا وسياحة وعبرة ...).

    وبقراءة القرآن تتحقق لدينا المعرفة بأبعادها الثلاثة (الحق والخير والجمال) إذ يجد فيها القارئ عناصر الحقيقة،  ومبادئ الأخلاق، وذوق الجمال.

    كما أن قوله تعالى: (إقرأ وربّك الأكرم) تدلنا بالاستقراء التاريخي على أن القارئين في العالم تاريخياً وجغرافياً هم الأكرمون كما يقول الأستاذ جودت سعيد، وهم المتحقّقون بالسيادة الحضارية كما تدلّ الأمثلة الواقعية في تبوّء الأمم الأكثر قراءة سدّة الحضارة وريادتها كالمسلمين في زمان تفوّقهم الحضاري  واليابان اليوم وأمريكا وأوروبا الغربية.

    وما نختم به كلامنا هذا أنه مع بداية تنزّل القرآن اتجهت مشاعر العرب كما يقول الشيخ البوطي باديء ذي بدء، إلى جرسه الأخّاذ وبيانه الذي لا عهد لهم بمثله من قبل، ثمّ إنهم سبقوا من خلال ذلك إلى الوقوف عند مضامينه وتدبّر معانيه فكان في مقدّمة المعاني التي استوقفتهم ولفتت أنظارهم حديثه عن العلم وأهميته، وتقريره المتكرر بأن تعامل الإنسان مع الكون والحياة لا يتمّ على وجهه الصحيح إلا بالعلم، وبأنّ أيّ تحوّل من ضعف إلى قوّة ومن فقر إلى غنى ومن تدابر إلى ألفة لا يتمّ إلا بالعلم.

    فكان أن جذبهم إلى العلم والاهتمام به، جذبهم القرآن الذى هيمن على مشاعرهم ببلاغته، ثم سرت معانيه إلى عقولهم بمنطقه وعقلانيته، ثمّ اتّجهت منهم الأنشطة إلى تحصيله - أي العلم - بكل الوسائل والأسباب.

فكانت نقلة في الوعي، أدّت إلى نقلة حضارية بالغة التميز والثراء. ولا زال القرآن يتضمّن الإمكان نفسه، وينتظر المسلم ليحدث به نقلة جديدة تتجاوز سقف الوعي المعاصر، وتنقذ الإنسانية ممّا وقعت فيه من أوهام المادية، وانتكاس الفطرة، والنزاع المفتعل بين الدين والعلم.