خير رسل، لخير الضيوف

ما الذي يمكن أن يهوّن علينا فواجع الزمان، ومعاينة ويلات العصر، والكوارث الطبيعية بشكلٍ متتالٍ سوى الإيمان بالله ﷻ الذي يضع كل الأمور في نصابها، ويهدينا بصيرة تتجاوز أهوال ما تراه أبصارنا؟! كل مؤمنٍ بالله ﷻ، مصدقٍ لحديث رسوله ﷺ، يؤمن بأن الغريق شهيد، وبأن المتوفى تحت الهدم شهيد بإذن الله ﷻ. غادر الرفاق سريعًا بدون عناق، وكأنهم سئموا عالم الاختبار، والفتن وتاقت أنفسهم لظل الرحمن الذي اختارهم لجواره. فمن ينول شرف استقبال هؤلاء الشهداء من مرقدهم المؤقت، وتوديعهم إلى وجهتهم الطيبة، سوى رجالاً هم خير رجالٍ لهذه المهمة! فمن يستقبل الشهيد، ويوصله إلى وجهته، سوى خير الرسل؟ عن فرق الإنقاذ، والعمل الإغاثي أتحدث.

أنفس عملاقة حبيسة قنينة خانقة 

بعضهم في مقتبل العمر مازالوا يستقبلون الحياة، لكنهم تخطوا العقود نضجًا، وازدانوا بأعمارٍ فوق أعمارهم أكسبتهم الأهوال بصيرةً، وأضافت سنوات، وحِقب من الوعي إلى وجدانهم. أنهكهم ما استقبلته حواسهم، لكن اتقدت عزائمهم بالسير في طريقٍ وجدوا أنفسهم منساقين إليه بلا قيد سوى عاطفتهم… 

مجبورين عليه ذاتيًا بلا تردد…

متداعين بالسهر، والحمي لأعضاء جسدٍ مريضٍ متهالك… 

عالقين في حلم الإنسانية، وعالم المُثل…

مصدقين فيه بأنهم جزءٌ من أمّةٍ إذا تخلت عنهم، لا يتخلّون هم عنها!   

يقتربون من الأنقاض بحذرٍ مخلوطٍ بلهفة غوث المنكوب… يعتمل في قلوبهم أمل أن يجدوا أحياءً بين الركام، يعكّر التوجّسُ هذا الأمل خوفًا من الوصول بعد فوات الأوان! يتصارع الأمل، والخوف، واللهفة، والتوجس… فتتثاقل أقدامهم تارة، وتتسارع تارة أخرى… وتطيب أنفسهم، وتدمع أعينهم فرحًا، وامتنانًا لإنقاذ وليدٍ مرة، وتُخلع قلوبهم، ويذرفون الدمع عند استقبال الشهداء مرّات!

تقزّمت أمامهم الحياة، وتعملقت أنفسهم، فأصبح كل منهم كالتنين المجنّح حبيس القارورة المحدودة. فكيف لتلك الحياة أن تستوعب أمثالهم!

خرجوا من الكهف بلا رجعة

وما أرجوه من كتابة تلك الكلمات هو أن يعيدوا تخيّل المشهد الذي يجدون أنفسهم فيه على صعوبة ذلك، وثقله على النفس. لكنهم هم أهل الصعاب، وكفوء لها بإذن الله. فهم اختاروا، أو ساقتهم الأقدار لطريق لا رجعة فيه. فمن ترى نفسه ما وراء الحُجُب، لا يمكنه أن يعيش في تلك الحياة بضبابية. 

وهم أشبه بالخارجين من كهف أفلاطون، عندما شبّه الحواس الإنسانية والحياة المادية بكهفٍ مظلم يعيش فيه الناس مولين ظهورهم لباب الكهف، ووجوههم لجداره الداخلي وقد أوقدوا نارًا أضاءت لهم، وعكست على جدران الكهف ظلال ما يجري من أحداثٍ خلفهم وهم لا يرون تلك الأحداث، فتراهم مستغرقين في مراقبة الظلال مشدوهين بها، ومعتقدين أن هذا هو مبلغ العلم. ويظل هؤلاء كذلك إلى أن يقرر أحدهم أن يقف ويعطي وجهه لباب الكهف ويخرج فيكتشف عالمًا كاملاً (يرمز في فلسفة أفلاطون لعالم المُثل)، ممتلئًا بالألوان، والأحداث، والحقائق، والفاعلية. فيعود مسرعًا لأهل الكهف متلهفًا ليخبرهم بما رأى فيكذّبونه، ويسخرون منه و يستغرقون في معايشة الظلال. 

 

 

 

وهؤلاء النبلاء قد خرجوا من الكهف وعايشوا واقعًا غيّر رؤيتهم لعالم الكهف الضيق الذي ينغمس فيه أغلبنا، فرأوا الحياة جليّة بحقيقتها المؤقتة الزائلة، واختصروا سنوات من التجارب، والفهم في أوقاتٍ قياسية. وهؤلاء لا يستطيعون أن يعيشوا في الكهف مرةً أخرى. وخيارهم الآن هو أن يواجهوا عالمهم الجديد بشجاعة يكتبون فيها سطور قصتهم بدلاً من أن تكتبهم هي. 

فارتدوا أوسمتكم التي استحققتم كل واحدٍ منها عن جدارة مع كل ألم، وكل فاجعة، وكل صدمة، وكل خذلان! ارتدوها برضىً، وامتنانٍ لخروجكم من الكهف الضيّق إلى رحب الحقيقة. واحتضنوا تجربتكم الإنسانية الفريدة مستأنسين بتلك الرقة التي تجدونها في قلوبكم، ومتقدة عزائمكم لتذليل العقبات التي تجدونها في طريقكم تفرضها عليكم عبثية الغارقين في ظلال كهوفهم. فقد أقامكم الله ﷻ في أمر لم ينله سواكم. فامتنوا، فأنتم في نجدة الملهوف، وفي حضرة الشهداء! وهل يرسل الملك لاستقبال أكرم ضيوفه، سوى أكرم مندوبيه! أسأل الله ﷻ أن يتقبل منكم، ويكتب أجركم. 

فائزون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

من التحق بجوار ربه شهيدًا، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. لكن أحبتهم هم من تنفطر قلوبهم عليهم حزنًا. والله ﷻ قد أنعم علينا بالإيمان به سبحانه، وبأنه "الباعث". فنحن لا نفقد الأحبة، بل نفترق إلى لقاء بإذن الله. وإذا أحسنّا الإيمان، والعمل، فوعد ربنا ﷻ هو الجنة مع من نحب. ولا شيء يبعث في نفسي الأمل، والشغف أكثر من تخيل لقاء الأحبة في جنان الخلد بإذن الله بعد طول انتظار أرهق النفس، واستنفذ منها البريق! في الواقع، هناك لوحة ساحرة تخيل فيها الفنان ذلك اللقاء، وأسماها "اللحظات الأولى في الجنة". 

 

 

فقط أغمض عينيك، وتخيّل!

فنسأل الله ﷻ لأهلنا ممن فقدوا فلذات الأكباد، وأشقاء الأنفس، وشركاء الحياة، أن يلهمهم الصبر، والحمد، والاحتساب. وهنيئًا لهم قصور الحمد في الجنة، وإلى لقاء مع من نحب في جنان الخلد التي لا حزن فيها، ولا فراق بإذن الله.