عند النظر إلى الجدالات التي قامت منذ القدم ولا زالت قائمة بين الفلاسفة والمفكرين ممن تكلموا عن مصادر المعرفة، فإننا نجد مذاهب شتى في هذا الأمر ، فإذا كانوا اتفقوا على الانسان هو الذات المدركة العارفة وهو الذي يحصل المعرفة ويسعى إليها، فإنهم اختلفوا في أي المصادر هي الأولى والمعتمدة مرجعا؟!

فهناك من ذهب إلى أن الحس هو مصدر المعرفة وأن إدراك الأشياء لا يكون إلا بالحواس وما عمل العقل إلا تابع للحواس في ذلك. 

هناك من ذهب أيضا إلى أن العقل هو مصدر المعرفة الوحيد وهو الذي يقدر على تحصيل الحقيقة وهناك من ذهب إلى أنّ الحقيقة لا يمكن تحصيلها لا بالعقل ولا بالحواس وإنما بطريق الباطن أو الإشراق والرياضة الروحية. 

بين هذه الاتجاهات الثلاثة نجد اتجاهات كثيرة أخذت بنصيب من هذا ونصيبا من ذاك ولذلك نجد هذه الاتجاهات الثلاثة الأساس منذ بدايات النظر الفلسفي في مسألة الحقيقة ومصادر المعرفة وطرق الإدراك.

فهل في الإسلام إجابة عن هذا الجدل؟ وهل يوجد رؤية أخرى وطرحا آخر يخرجنا من هذا التشظي والجدال بين هذه المصادر؟!

وماذا يقول لنا القرآن في هذا الأمر؟!
 
1/القرآن منبع التصورات والمفاهيم:

لقد جاء القرآن ليؤسس رؤية توحيدية لشؤون الحياة وشؤون الآخرة ويجعل حياة الانسان متكاملة غير متنافرة، قائمة على سنن ناظمة في كل مجالات حياته، تتكامل فيها شخصيته وتتحقق فيها سعادته ويحقق بها الخير فيعمر الأرض ويحقق الاستخلاف.

ومن أجل هذا جاء لتحقيق مصالح الإنسان في العاجل والآجل، ومن أهم ما يميز الإسلام (والقرآن مصدره) أنه وجه الإنسان إلى أن حياته وما فيها ينبغي أن تقوم على العلم والمعرفة، فكانت "إقرأ" الكلمة التي أسست الوعي بضرورة العلم للدين والدنيا واساسا للحياة الدنيا والآخرة.

ولهذا، فإن القرآن دون أن ننسى السنة طبعا فهو يمثل للإنسان مصدرا تشكيل التصورات والمفاهيم والقيم كليها وجزئيها، ومنبعا في بناء مفاهيمه ومناهجه في الدين والعلم والحياة، ولهذا فإنه يمثل منبع استمداد لا ينضب لدراسة مختلف الظواهر والقضايا والأفكار والأحداث. فمنه نستمد الرؤية والمنهج، والمقاصد التي يتناولها القرآن ومختلف العلوم التي تستمد من القرآن إما بطريق مباشر أي ما يتعلق منها بسنن الهداية او بطريق غير مباشر وفي ما معناه سنن الآفاق والأنفس والتاريخ.

 إنها رؤية تجعل القرآن مركز اهتمام شامل ومتعدد الجوانب. 

لأن القرآن كما يقول ابن عاشور "جامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسِّره". وهو كتاب الله الجامع لخيري الدنيا والآخرة، ومنبع الحق والهداية، ومصدر العلوم على تنوعها، ومستمد الكليات في التشريع وفي العلم والأخلاق .

بعد النظر في القرآن وتدبره ممكن أن نستخرج منه نماذج معرفية ومنهجية وعملية. وهو ليس كتابا دينيا بالمفهوم الضيق للدين، وإنما هو كتاب هداية ورحمة وتبيان لكل شيء ، ذلك أنه منبع للمعاني والمفاهيم والتصورات والقيم والآداب والأحكام والقصص ومقاصد شاملة لمختلف جوانب الفكر والعمل مبثوثة في كل آياته.

وينبغي أن يأخذ القرآن مركز الاهتمام والاشتغال في تشكيل التصورات وتحديد الرؤية وبناء المناهج والمفاهيم وفي مباشرة عملية التجديد الفكري والعلمي والإصلاح التربوي والاجتماعي بغية "التوصل إلى الوعي الحضاري العمراني بالقرآن" كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.

 لأن القرآن منبع الهداية ومصدر الصواب لهذه الأمة فمنه يتكون الإنسان السوي والمجتمع السوي في كل زمان ومكان. 

وعندما يتعامل الإنسان مع القرآن والسنة تعاملاً حسناً، فإنه يصل إلى فهم حسن للقضايا الكبرى التي تشغل بال الإنسان في كل مكان كقضية الخالق سبحانه والخلق والكون والحياة والهدف منها، ودور الإنسان في هذه الحياة ومصيره بعدها ويصل أيضا إلى فهم حسن للمشكلات الحياتية والحضارية التي يعاني منها العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر وتعاني منها الحضارة الإنسانية كلها (إسماعيل، 1987، ص 81).

ولعل من أهم القضايا التي ينبغي الرجوع فيها إلى القرآن قضية المعرفة ومصادرها، والجدل المثار بين مختلف المدارس لنعرف ما يزودنا به القرآن في هذا الموضوع.

 
2/القرآن ينبهنا إلى تكامل مصادر المعرفة:

إن الرؤية التوحيدية التي أشرنا إليها في مقال سابق، وقلنا أنها توحد المعرفة، هي التي تؤسس للتكامل بين المصادر الممكنة للمعرفة، وتجعلنا ننظر إلى الحس والعقل والباطن بأنها متكاملة، وهذا بفضل توجيه الوحي (القرآن والسنة). 

فالمعرفة لا تقوم على مصدر واحد، بل تتكامل فيها الإدراكات الحسية والادراكات العقلية والوحي ولكل واحد منها مجاله الذي يغطيه وشرطة الذي يجعله مصدرا للحقيقة والمعرفة.

وإذا كان الوحي هو المصدر الأعلى للحقيقة فإنه تضمن حقائق الغيب، كما تضمن توجيها كليا لحقائق عالم الشهادة أو تفصيلا في بعضها، ليتجه الإنسان إلى إدراكها حسا وعقلا.

ففي الحس نجد في القرآن عناية كبيرة جدا به وآيات كثيرة تأمر باستعمال الحواس للوصول إلى الحقائق ولعل منها قوله تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" (الإسراء: 36). 

لكن آيات الحس كلها يعقبها تنبيه القرآن على النظر والتأمل والتعقل أي دعوة إلى استعمال الإدراك العقلي في هذا الادراك الحسي فالاثنان مترابطان ولهذا نجد معظم الآيات التي تأمر باستعمال الحواس لمعرفة الحقائق تختتم بأمر التعقل والتفقّه والتأمل والتدبر والإيمان ومنها قوله تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج: 46).

إنه تكامل ينطلق من رؤية توحيدية، ويقوم على تصور توحيدي تتكامل فيه حياة الانسان، وتتكامل وقواه الادراكية على معرفة الحقيقة، بتوجيه القرآن الكريم.