كل شيء كان يدل على أنه هو المختار ليكون هو النبي الخاتم، ولكن هو لم يكن يعلم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولم يكن يتطلّع للأمر، ولم يهيئ نفسه أبدا ليتحمل ذلك الحمل العظيم الذي ألقِي عليه في الأربعين من عمره.
كل ما له و ما فيه وما حوله كان يؤشّر على أن لهذا المحمود المبرور شأنا عظيما في ما يستقبل من عمره، ولكن ذلك لم يكن همّه، كان همه أن يتجه إلى نفسه فينقّي دواخله، ويقيّم محيطه قبل أن يوحى إليه فيتجنب مفاسده. كل البركات تجلّت فيه وفي حياته فلم يزده ذلك إلا تواضعا وبصيرة.
اختاره الله من أشرف الأنساب، وحملته أمه حملا ميسورا مباركا، وكان مولده نورا أضاء مشارق الأرض والمغارب. توفي والده عبد الله بن عبد المطلب قبل ولادته وتوفيت أمه آمنه بنت وهب في السادسة من عمره وتوفي كفيله جده عبد المطلب وهو في الثامنة فتكفل الله بتربيته، فأحاطه بالبركة حيثما حل، أحبته مرضعته حليمة السعدية حبا جما، جرى الحليب في صدرها من أجله، وزاد الكلأ لأغنامها والبركة في موضع عيشها ما بقي النبي عندها، وكانت حاضنته أم أيمن بعد وفاة أمه أسعد الناس به وأكثر النساء يمنا و هناء في عيشها ما كان معها.
وسخر الله له جده عبد المطلب فكان أقرب أحفاده إلى قلبه ينافس أعمامه في المكانة في مجلسه.
ومع البركة التي أحاطه الله بها سبحانه في أي موقع يكون فيه حفظه من لهو الأطفال وعبثهم، ولم يتأثر في شبابه بأي شيء من بيئة الجاهلية، بل كان ينكر أقذارها وأرجاسها، كالشرك وعبادة الأصنام وأكل ما لم يذكر اسم الله عليه، والأزلام والأنصاب، واللهو والفحش والزنا والتفاخر بالأنساب وحمية الجاهلية والربا وأكل أموال الناس بالباطل. فكانت عصمته عليه الصلاة والسلام تامة قبل بعثته.
عهد به جده قبل وفاته إلى عمه شقيق والده أبي طالب ليعتني به، وكان كثير العيال فقير الحال فناله ما نال العم وأهله من الفقر والعوز، فتعلم عليه الصلاة والسلام الاتكال على نفسه صغيرا إذ عمل في رعي الأغنام ثم في التجارة شابا، فكان نعم الراعي ونعم التاجر خلقا وأمانة ومهارة. وفي تجارته عرفته نعمة الله عليه الغالية خديجة بن خويلد فاختارته لنفسها، توفيقا من الله لها إذ كانت أعظم امرأة تليق به، وإكراما له بها منه سبحانه إذ هي المختارة من الله للمختار.
ولما اقترب الأمد اشتد على رسول الله ضيق صدره بالجاهلية، لصفاء النفس التي جعله الله عليها فلجأ إلى غار حراء ينقطع فيه للتبتل، وهو لا يدري أنه سيكون النبي المختار، لم يرشح نفسه لشيء عظيم كالذي جاءه، لم يكن يحدّث نفسه بأنه سينقذ العالم، كان يريد أن ينقذ نفسه فقط من ضيق الجاهلية وأخلاقها وأرجاسها، فتجلت من رياضته لنفسه أخلاقه التي عرف بها قبل بعثته، التي بنت سمعته ومكانته، حتى قيل إنه "الصادق الأمين"، يقولها العبد والسيد، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والضعيف والطاغية المتجبر، لِما عُرف عنه من ابتعادٍ عما يفسد الخلق والمروءة، وما شاع عنه مما قالته له خديجة لتهدئة روعه حين أوحي له: ((كلا والله ما يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق)).
نعم لقد خاف حين نزل عليه الوحي وذعر وارتعدت فرائصه إذ لم يكن يتوقعه، وذهب إلى تلك السيدة الكريمة زوجته مسرعا يرتعش لا يدري ما الذي أصابه "دثروني، دثروني!" "زملوني، زملوني!"، فلما أيقن عليه الصلاة والسلام، بعد الروع، بالرسالة وعلم أنها وجبت عليه، إذ قال الله له سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين)) [المائدة 67] لم يتخلف عن حملها وأدى الذي عليه حتى أنقذ العالم وكان (( رحمة للعالمين)) إذ ترك أسس إنقاذه كلما فسد بعده بالرجوع إلى كتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأشهد الناس على نفسه في حجة الوداع: (( ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟)) وفي كل مرة أجابوه: (( ألا نعم، ألا نعم، ألا نعم)). بل قبل وفاته بقليل شهد الله له بذلك بقوله سبحانه: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دينا)) [ المائدة 3]، فلا نبي بعده، بل دعاة على نهجه يعملون بعمله وفق قوله سبحانه: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:107].
والأصلح في هؤلاء الأتباع والأقرب إلى سبيله هم من هيأهم الله ليحملوا رسالة نبيهم، من أشراف القوم، من أهل المصداقية والقدوة، من أهل الصلاح الذي يعرفه الله سبحانه في داخل أنفسهم، من أبعد الناس عن الرذائل والمهالك والشبهات المفسدة للسمعة.
ممن اعتمدوا على أنفسهم فعملوا ولم يتأففوا من مشاق الحياة، ممن جاؤوا للدين ليصلحوا به أنفسهم ابتداء، لا لينقذوا به العالم أولا، جاؤوا إلى الإسلام ملتجئين إليه من فساد أحوال العالم ذاته. وحين التزموا بالإسلام وامتثلوا هديه ودرسوا ما فيه أدركوا أن الله هو الذي أمرهم بإنقاذ العالم، بتثمين ما فيه من صلاح وخير، ومحاربة وتغيير ما يشمله من الشر والأذى، بل والانتظام من أجل ذلك وفق قوله سبحانه: ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [ آل عمران 104].
من كان على هذا النهج كان نهجه نهج المصطفى عليه الصلاة والسلام، يعمل - بقدر استطاعه - من أجل الخير، كل أنواع الخير، ويأمر بالمعروف، كل أنواع المعروف، وينهى عن المنكر، كل أنواع المنكر على بصيرة وهداية. فإن فعل هذا المتّبع ذلك فقد أدى الذي عليه، ولا يهمه هل أنقذ العالم أم لا.
وإنما يكون قد أهل نفسه لإنقاذ العالم وسعى لذلك وهو لا يريد في حقيقة الأمر سوى إنقاذ نفسه.
فإن أنقذ العالم بما فعله وأمثاله، في العاجل أو الآجل، فما ذلك إلا تسخير من الله و فضل منه عز في علاه، وإن لم ينقذ العالم فلا حساب عليه في ذلك إذا أدى الذي عليه. ولا شك أن العالم سيُنقَذ يوما ما وسيكون له في ذلك، إن عمل، أجر والثواب، وإن لم يباشر الأمر في حينه.
وإنما الشقي من جاء للدين لينقذ العالم، وهو لم ينقذ نفسه، وما جيئته للدين إلا ليرفع به شأنه، تماما كذلك الذي جاء للوطن يدعي إنقاذه، وهو لم ينقذ نفسه من الرذائل والمفاسد ظاهرها وباطنها، ذلك الذي إن لم يتحقق مقصده الخفي ويئس من ذلك يأسا مبينا كفر بالوطن، أو ربما كفر بالدين أصلا.
وهي قصة تتكرر، معاكسة لقصة النبي عليه الصلاة والسلام، قصة تتكرر كقصة أمية بن أبي الصلت، الذي كان مثل رسول الله عليه الصلاة والسلام يعتزل أعمال الجاهلية ويؤمن بالله الواحد الأحد، ولكنه كان ينتظِر أن يكون هو النبي المنتظَر، فلما يئس من ذلك باختيار الله محمدا كفر ومات كافرا. اللهم إنا نسألك العافية.