من قال أنَّ الفكرة لا تموت! بل تموت! وتَمْتَحِّى من اعتبار مجمل الفكر الإنساني بقدر ما يمكن أن تخلد فيه أو تتسامى به! وذاك إذا لم تتطور صوب الأكمل، فالتاريخ يحكي لنا عن نماذج أفكار عديدة، تَطَّوَرَ البعض منها كفايةً لغاية أن غدا معتقدا ودينا كاملا، وضمر البعض الآخر واضمحل حتى لم يعد له ذكر إلاَّ من باب الحديث عن الأساطير في تاريخ الوعي الروحاني للبشر، ويكفي أن نقدم فكرة الوحدانية، وتعدد الآلهة كمثال، ثم نتساءل: من منا اليوم يؤمن بمعتقدات حضاراتٍ كحضارة المايا مثلا؟ 

نحن نطمح إلى إنشاء جيل يحرر الإنسان، ويتحرك به إلى إعمار الأرض وإيقاع القِيَّمِيَّة وإحقاق الحق، أبلغ من كوننا نودُّ بتحرير أرضٍ أو غزو أخرى، فأعظم من انتصارِ الإسلام بغزو إسرائيل مثلا، أن يَّتَحَتَمَ عليها استخدام النظرية الإسلامية في اقتصادها لينتعش أو ليبقى، أو الركون إلى التقنية العالمية التي أنتجتها العقلية الإسلامية، أو أن تُنْشِئَ أجيالها على علوم وفلسفات فارضة من إنتاج العقلية المسلمة، هي ذا طبيعة الانتصار الحق، والذي يَتَأَخَّذُ له من طبيعة الإسلام كدينٍ لا كشخوص. 


لكن على ما يبدو، العكس هو الذي يحدث الآن، التقنية الإسرائيلية تغزو العالم، والشعب الإسرائيلي أنتج عقولا ساهمت في تطوير العلوم والفكر والفلسفة بقدر ما أنتجنا نحن على مدى الخمسين السنة المَائِتَة من نخبة عاطفية شديدة الولاء لأيديولوجيتها وعَبِيئَةَ الحقد لنقيضها، وثم بطبيعة الحال علماء ودكاترة ومهندسين وفلاسفة ومفكرين أكفاء تَصَّطَلُوا بروح العلم لا بُفتاته لكنَ كَاثِرَهُم اِختطفته المؤسسات الغربية للأسف. 
نحن لا نطمح لصناعة جيل صلاح الدين، بل بالأصح، نتغمدُ أن نكرر ذات الأخطاء التي وقع فيها جيل صلاح الدين، فالانطلاق من اعتبار أنّ القضية الفلسطينية هي قضية عقائدية تستلزم الإيمان أو الكفر هو منطلق غير صائب فوق أنه لا يُؤتي أكلا في حل القضية، بل الصحيح أن ننطلق من اعتبارها قضية إنسانية تستوجب الوقوف رِفْدًا لها والتضامن معها من كل إنسان، فلا نطمح بذلك لمحاباة إسرائيل حتى إذا ما قررت يوما أن تُحَابِي هي الإسلام نفسه، كما يتبادى لنا أنه تسويغات علنية من قبل دولٍ عربية ولهة الشره رغبةً في التطبيع مع الكيان الصهيوني، فإسرائيل ككل الدول تزعم أنها متسامحة في كيانها القانوني والأخلاقي مع ديانات العالم كافة والإسلام ليس بالمستثنى، أو هكذا منطق تلك التسويغات. الحق أنه حتى لو أعلنت إسرائيل ذاتها دولةً تحكم بالشريعة الإسلامية، فسيبقى حق العودة مشروعا، لا أن تَتَخَوَّى القضية من معناها لو حدث، وهذا على سبيل الافتراض، فالمسألة تتعلق بتهجير وقتل وعنفوان ضد شعب واغتصاب أرضه بناءً على استحقاقات تاريخية مزعومة باطلة وفي أكمل تجلياتها لا ترتبط بالدين إلا ادعاءً واستغواءً.
وأمَّا الإسلام، فيتجاوز قضايا الأرض والعرق والمادة إلى البعيد عنها جدا، فهو نمط تفكير، وأُسُس تشييد، ومنطلق مسالك، وروح قيم، وماهية قانون وعلة نظم، لا يُتِّمُ صنعة الحضارة على الأرض ليُعَيِّنُ وُصَاةً عليها أو يُقرر مثاليةً لهم، وإنما ليقرر للإنسان السجود المبصر، أيًّا كان هو هذا الإنسان. وفي الإسلام، بناءُ دولة بقوة إسرائيل أوجب من تحرير القدس، بل ولا سبيل إلى هذا التحرير إلا بالتَّفَّلُتِ من أكبال العجز دونها إليها، وهذه الإحيائية لا تتم إلا بالإنسان.
وثم يا تُرى أين الإسلام من قضايا العلوم والفكر الإنساني اعتبارا إلى موضعه من قضايا الأرض والهوية المجتمعية؟ 
فلعلك تلحظ في العلوم الحديثة، أنَّ هناك أطروحات تناقش نشأة الكون وتَشَّكُل الأرض وتَحَوُلِهَا من عالم معدني ميت إلى عالم عضوي حي، وثم ظهور الحياة في أطوارها البدائية (الجزيئات ثم أشباه الفيروسات والفيروسات وصولا إلى الخلية الحية) , وتطور الكائنات الحية وصولا إلى تكامل التعقيد للدماغ البشري وبزوغ الوعي لدى البشر ونشأة اللغة وظهور الفن والثقافات والأديان والروحانيات ثم الحضارات والإمبراطوريات ثم الدول القائمة. وتُصَّوِغُ في الغالب لهذا كله، بآراء تزدري النظرة الدينية إلى هذه المسائل. وهذه القضايا هي في واقع الأمر قضايا محورية في مَفْرَزَةِ العلوم للفكر الإنساني المعاصر وجوهرية للغاية في تقرير المَصَابِ في أنّى المناهج المعرفية اعتمادا بالدقة الملزمة. هذا يعني بأنها تتدخل بآليات فاعلة للقطع في المحاور الثلاثة (الكون، الحياة، الإنسان) التي يُعنى بها القرآن ومن عَقْبِهِ الإسلام تَالٍ ما يتحتم من تسليمٍ بها في عقيدة المسلم..

فأين المسلم اليوم من هذا جُلِّهِ!، شغلته الآلة الإعلامية بواقعٍ آخر، فغدا يصارع الوهم بعاطفة صادقة، والناتج، -ويا الأسى- في المحصلة الإجمالية، أنّ أمتنا ضليعة في سفاسف الأمور ومنشغلة بها عن المعالي التي يُحبذها الإسلام ويرتضيها للمؤمن الغيور على دينه. 

لا أوقر هاهنا الانعزال عن عالم السياسة مثلا أو عدم الالمام بشؤون العامة معاذ الله فهناك درجة من الانشغال بذلك مبررة ومطلوبة، لكن عن توافه الانشغالات على الشبكات وأن يتحول هذا الانشغال إلى هوس وتعيين مصير، فهنا المبالغة!، وهي تُدْلِي بإسلام المرء إلى ما دون إسلامه بكثير، فهو يصنعُ شأنًا عاما ليس مرضيا له في بلاد الإسلام أن يَكون، فهناك الأولى والأجدى والأَرْبَى في المردود.
الذين يستشهدون بالغرب على طبيعية هذه الحالة، لا يُدركون بأنّ أمة الإسلام أجّل وأعظم، فإن كان من المعروف أنّ المجتمع الأمريكي مثلا يَعرف عن حياة ممثلي هوولود أكثر مِن ما يَعرف عن واقع اقتصاده ومَبْعَدَةَ ما وصلت إليه العلوم في قومه، فإن هكذا تَلَّهٍ وتسَّهٍ ليس بالمقبول لجمهور الأمة الإسلامية، وليس لها أن تُقلده في ذلك.
وثم، لمَّا احتكمنا إلى طبيعة الأمر الفارضة، ونَفَرَ من هذه الأمة جمعٌ ليقدم فيما يُقارب هذه الأطروحات طرحٌ مماثل أو متماثل، واجهته تحديات مَهُولَة، ترتبط إلى حد بعيد بمعتقداتٍ غاية في التوكيد من لدن المأثورات ولَيَكادُ الفرد من أهل التقليد أن ينتزعها بِإسلامه كله، وليس من السهل تجاوزها بحسم أو بحزم، وإن كابد البعض أن يفعل لحقته التهم والتوسيماتُ بالعمالة والزندقة والإلحاد والكفر، حتى تعّقد من نفسه وأحجم بعد إقدام.
والحقيقة المنغصة لمراح المؤمن، تكمن في كون النسبة الأكبر من الطرح الإيماني في قضايا العلوم اليوم، دافعها الأول والأخير هو الاستثارة الإلحادية وشُبُهَاتِهَا، فلولا الاعتراض الإلحادي القائل بأزلية الكون مثلا (لا بداية له ولا نهاية) لما تَوَّصَلْنَا إلى القول بحقيقة صيرورة الكون، التي تترجمها نظرية الانفجار العظيم، ولكَانَ الرأي القائم الآن في الأوساط الدينية يقوم على الاعتبار الكهنوتي المُتَوَاهِي الذي لا يُقدم أدلة حقيقية على كيفية النشأة! وإذ أنّ مدار المعركة في العصر الحديث مثلت المسيحية أدوار الإيمان فيه، وكأن الإسلام لا شَأْوَ له في ذلك يبلغه!  
الشكوك الإلحادية هي ما حركت المياه الراكدة حول المسألة، لتجعل الطرح الديني أمام اختبار جاد لتقديم تفسير مستساغ علميا وأكاديميا، فكانت النتيجة بعد نصف قرن من اشتداد حمى وطيس المعركة بين فكرة أزلية الكون التي تُروج لها النخبة الإلحادية آنذاك ويَسْتَمْرِءُ القول بها معظم علماء الفلك والفيزياء النظرية-  لدرجة أنّ ألبرت اينشتاين لَمَّا توصل إلى النسبية، خَلُصَ إلى حقيقة أنّ المعادلات تقول بتمدد الكون لا باستكانته (أي أزليته) فقام بخلق عامل حسابي وهمي سماه بالثابت الكوني لتنسجم نتائجه مع نموذج استكانة الكون هذا- وبين فكرة أنّ الكون له بداية بقيادة قس دنمركي دارس للفيزياء النظرية يُدعى جورج لوموتور، حيث استنتج حقيقة أنّ معادلات النسبية تؤكد تمدد الكون من ما يعني أنه كان يوما كتلة واحدة. وفي نهاية المطاف حسمت ملاحظة إدوين هابل المسألة برصده لعدة مجرات في الكون، تتباعد عن بعض، مما يعني أنّ الكون يتمدد بالفعل، وسُمي هذا العامل الجديد بثابت هابل. اعترف أينشتاين حينها بأنّ اختلاقه الثابت الكوني كان لغرض إِسْجَامِ نتائجه مع نموذج الاستقرار، وأنّ قوله بثبات الكون (أزليته) كانت أعظم حماقة في حياته!

تُرى هل كان هذا القس سيقنع العالم بأن الكون مُحْدَث، دون انجراره لاعتماد وسائل علمية يافعة تنطلق من الزعم الإلحادي العلمي ذاته السائد عن الكون آنذاك لإثبات الحقيقة!، والأهم!، هل الإسلام من منظور كهذا يمتلك تقرير حقيقة علمية وهو ليس نموذجا معرفيا مستقل باستدلالاته عن الشخوص والآراء التاريخية كمرجع؟ 


الدعوة إلى الله لن تكون بيئتها الرحبة منابر المساجد دون الأروقة الأكاديمية أو المعمعات العلمية أو المؤتمرات العالمية، بل ستشمل الدراسات والبحوث البالغة الكلفة والتعقيد والنفع للبشرية كافة، بقدر ما هي تعليمات ربانية تُتْلى على مذاعن العاكفين في المساجد أو القابعين في المحاريب. والبحث العلمي، دعوة إلى الله أبصر ومن ثم أصحى لعقل الإنسان من التذكير بنعمائه ونغمائه، أو من الترغيب في مثوبته والترويع من عقوبته. وهو بمقام الجهاد، وكما قال شيخنا الإمام الغزالي: بناء المصانع في أمة الإسلام، تعدل بناء المساجد، فكذلك بلا شك تشييد المعامل. 
في الختام، تحرير عقلية المسلم أولا قبل كل شيء، ثم بناء أمة حضارية يُنبذ فيها الجهل، حينها فقط سيدين لنا الكوكب كله، لأنّ الإسلام غدا نموذج معرفي شامل شأنه شأن الفلسفة والعلوم، فهو ينظم شأن الإنسان كما تنظم قوانين الطبيعة الكون، فلا يرفضه أحد إلاّ وقبله رغما عنه ولو باسمٍ مستعار، هكذا يسود الإسلام.