ليس بدعا من القول أن أحداث غزة الأخيرة بعد السابع من أكتوبر قد أعادت التساؤل من جديد عن أسئلة مركزية اعتبرتها الحضارة الغربية المعاصرة علامة مسجلة لها مثل: الحقوق، الديمقراطية، العدالة، المواطنة، معاداة السامية، القانون الدولي، السلم والحرب وغيرها،  إلا أن إعادة طرح "سؤال الإنسان" هو السؤال الأكثر أهمية على الإطلاق، في عالم اختلت فيه الموازين وطغت فيه ازدواجية المعايير، أقول هذا؛  وأنا أفكر في عنوان اختاره "رضوان مرحوم" اسما جامعا لمقالات كتبها فقيه الفلاسفة المغربي "طه عبد الرحمن" صدرت بعنوان: "من الإنسان الأبتر إلى إنسان الكوثر".

وقيمة هذه الثنائية التي قررها لا تتوقف عند كونها صادرة من المعجمية القرآنية فحسب، بل إنها فوق ذلك تصدر من  معجمية أقصر سورة في القرآن الكريم، نستحضرها غالبا في مقام التخفيف والعجلة في صلواتنا، إنها سورة الكوثر؛ التي تقدم تقسيما ثنائيا للإنسان: إنسان الكوثر والإنسان الأبتر.

 حين قرأت كتاب طه بهذا العنوان"من الإنسان الكوثر إلى الإنسان الأبتر" كنت أظن أنه ينظر لواقع يستشرفه في المستقبل، وأن هذا المستقبل لا يزال بعيدا عنا بالنظر إلى حالة الوهن التي تعيشها الأمة رغم ما فيها من بوادر الوعي والخيرية المتأصلة فيها، بالإضافة إلى سيادة النموذج الغربي على مستوى الفهم والممارسة ، ولكن في خضم الصراع السائد في الأرض المباركة بدأت تتضح ملامح نوعين من الإنسان: إنسان الكوثر الذي يتمحض تجسده واقعيا اليوم في إنسان غزة، والإنسان الأبتر الذي استحال إلى مسخ من البشر مسخت روحه دون جسده ؛ تماما مثلما مسخ نسلهم الأول؛ خاصة إذا أخذنا في الحسبان قول إمام المفسرين "مجاهد بن جبر" في تفسيره لما وقع لأصحاب السبت بأنه مسخ أرواح لا مسخ أجساد.


1 – إنسان الكوثر:

 ليس الغرض من هذه المقدمة أن أقوّل "طه عبد الرحمن" ما لم يقل؛ بقدر ما يجعلني هذا المشهد أسقط هذين النموذجين على واقع الصراع الذي بلغ مداه مع طوفان الأقصى، في مشهد أراه تجسيدا لصراع بين نموذجين، إنسان غزة وهو الإنسان الذي يعيش في عالم الناس، يرى زينة الدنيا وزخرفها بفعل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي في الوقت الذي يُضيّق عليه في متطلبات الحياة الرئيسة، إنه إنسان الكوثر الذي يعيش للقيمة قبل اللُّقَيْمَة، بكبرياء أبهر العالم، وقد تجلت هذه الحقيقة للعيان من خلال مصداقية خطاب "أبي عبيدة" الذي صارت كلماته نبضا للأمة ولكل أحرار العالم بخلاف أي كلام آخر في السياسة، انتهاء بصورة الأقدام المغبرّة بالتراب في مشاهد الالتحام المباشر، إنه الإنسان مرتبط بأرضه يحفرها ليتمسك بها ويأوي إلى ركن شديد فيها، لكن عينه على عدوه يعد له عدة الخروج، ثم يخرج من هذا الخندق بسلاح صنعه بيده ليحمي هذه الأرض ويبذل في سبيل ذلك المهج والأرواح، فيمتزج دمه بأرضه.
 إلى جانب هذا المقاتل يقف المقاوم من نوع آخر، إنه المدني المسالم المحب للحياة ما استطاع إليها سبيلا، دون حرص زائد ولا يأس مفرط، يأنس بالجمال، يغمر أهله بالحب، ويبكيهم بكاء الرحمة والحنين لأيام الود والتراحم؛ في مسكن الذي كان يأوي العائلة الصغيرة والممتدة رغم قلة ذات اليد بعيدا عن النزعة الفردانية التي تعد سمة هذا العصر، إنها حياة مفعمة بالقيم كشفتها لنا قصص ما بعد الاستشهاد، وتلك الدمى والذكريات المتناثرة بين الركام، هذا الإنسان المدرك لقيمته في الصراع، والذي يعي أن صموده لا يقل شأنا عن صمود المقاوم بسلاحه، إذ يرضى أن تتطاير أشلاؤه على أرضه ولا يرضى أن يهجّر منها، وهو الأمر الذي إن حدث – لاسمح الله – سيكون الصورة الوحيدة للهزيمة.
 

إنه الإنسان الكوثر الذي استطاع أن يؤسس لمشروع تربوي عملي واقعي انطلاقا من القرآن الكريم حفظا وفهما وممارسة؛ جعلت العالم يقف منبهرا أمام هذا اليقين والرضا والتسليم، وهو ما أيقض فطر الكثير من باحثين عن سبب هذا الصبر والتجلد في وجه مجازر لم يشهد لها التاريخ الحديث نظيرا ولا مثيلا؛ في ظل العجز الدولي؛ وأمام ازدواجية المعايير التي تفرضها الإدارة الأمريكية على العالم بمنطق القهر والغلبة.

 إنه مشروع تربوي يحدد العلاقة مع الله ابتداء قبل بقية العلاقات الأخرى مع بني البشر، والتي تصير بعد ذلك خاضعة لما يرضي الله عز وجل؛ بعيدا عن منطق المصلحة والمنفعة الضيقة، وقد تحسسها العالم بطريقة لافتة في مشاهد تسليم الأسرى وما رافقها من مظاهر الرفق والرأفة؛ والتي تتقابل مع صور التنكيل والتعذيب الذي يمارسه الإنسان الأبتر، في صورة حيرت العالم ودحضت كل المزاعم، ومارست حربا نفسية لا تقل وطأة عن الخسائر المادية التي ألحقها هذا الإنسان بعدوّه، والذي طفق يواري سوأته بالفيتو الأمريكي والتهريج السياسي في مجلس الأمن وغيرها من صور الدعاية الإعلامية التي صارت غير مقنعة للصديق قبل العدو، بل لم تعد مقنعة للشارع الإسرائيلي الذي يمثّل بؤرة الإنسان الأبتر ونسخته الأصلية.


2- الإنسان الأبتر:

في المقابل من ذلك نجد الإنسان الأبتر الذي يتهم إنسان الكوثر بأنه هو الأبتر بمنطق سخيف ومصطنع،  مستغلا مظلومية تاريخية تسبب فيها إنسان أبتر آخر في سياق زمني مختلف ثم صدّر أعباء هذه المظلومية  إلى العالم الإسلامي، وبذلك صار اليهودي يهوّل مظلوميته، ويهوّن من أي ظلم يمارسه ضد غيره، فإذا تعرّض للّوم أقام مأتما وعويلا ليحشد تعاطف جلّاده الغربي، ويعطي لنفسه حق العودة لأرض لم يأتي منها ابتداء، مستندا إلى "يهوديته التي لم يتم تعريفها" كما يقول المسيري، وراح يبحث عن كل ما قد يجعل له حقا فيها من معالم وآثار فيدنس المقدسات ويرتكب المجازر باسم الدفاع عن وجوده وكينونته، ورغم كل المحاولات التي راحت تلمّع صورة هذا الإنسان الأبتر لتعرضه في صورة الإنسان الأرقى الذي لا يقهر- بتعبير نيتشه- فإن هذا الصراع أبانه في صورة باهتة للإنسان الأخير التي عرضها القرآن الكريم بأحسن بيان "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ" بصيغة التنكير الدالة على أن تحصيل ذلك يكون بصرف النظر عن الوسيلة، وهو ما يقرره الواقع ويفسره لنا الزمان.
 

ففي غمرة الحياة المعاصرة وطول الأمد نسي هذا الإنسان الأبتر أنه يحارب إنسانا آخذا للكتاب بقوة،  ذلك الكتاب الذي يقدم تحليلا دقيقا للبنية النفسية والاجتماعية للمجتمع اليهودي بصورة منقطعة النظير، هذه الصورة التي لم تختلف كثيرا عما كان عليه هذا المجتمع في عصور سابقة إن لم يكن هذا اليهودي المتصهين هو النسخة الأسوأ منها في التاريخ البشري.


3- العالم بين الإنسانين: 

 أمام هذين المشروعين يقف أصناف من البشر، فمن الناس من يخدم مشروع "إنسان الكوثر" ومن الناس من ينخرط بوعي أو بغير وعي في خدمة مشروع الإنسان الأبتر، إذ يمثلان طرفي النقيض في المعادلة، أو بتعبير آخر إنهما يمثلان الجانب القاتم من التدرج اللوني؛ ليكون بعد ذلك بقية البشر تدرجات لونية أقل قتامة، وحتى في العالم الإسلامي يتضح جليا أن من البشر من اختار أن يكون أقرب إلى الإنسان الأبتر لينال عرضا من الحياة الدنيا بصور شتى من التطبيع والمداهنة،  رغم أن العصر أكبر شاهد على أن الإنسان الذي اختار هذا المسار لفي خسر، في حين لا تزال الشعوب تميل ميلا عاطفيا إلى إنسان الكوثر، ولكن ذلك الميل العاطفي لا يعني أنها لا تخدم مشروع الإنسان الأبتر، والنقطة الفارقة في ذلك هو الوعي الشامل بحقيقة الصراع الذي صار يتجاوز الجغرافيا ليشمل بعد ذلك عالم الأفكار والتصورات وميادين الثقافة والمجتمع والاقتصاد. 
   إن هذا الطوفان مهما كانت تداعياته فإنه محفز للأمة الإسلامية أن تعي حجمها بين الأمم، وأثرها في واقع الناس اليوم، وأن تخرج من إرادة التغيير إلى إدارة التغيير؛ حتى لا يستمر موقف الصغار والعجز أمام الفيتو الأمريكي الذي سلب كل إرادة دولية لوقف إطلاق النار، خاصة إن هذا الصراع قد عزز من مصداقية كل المواقف العالمية الشريفة؛ ونزهها من أن تلمز بتهمة المعاداة للسامية ونشر الكراهية، وأوقف مسارا تطبيعيا كان يسير في كيان الأمة، فكان هذا الطوفان عاملا من عوامل التعرية لجملة من الحقائق التي تسقط معها كل دعاوى التخذيل للمقاومة التي لخصها قوله تعالى في القرآن الكريم في وصف موقف المنافقين: "الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا"، فشتان بين آمن يعيش مخذّلا؛  ومبتلىً يستشهد ناصرا محتسبا.