شاركت في حصة تعدها قناة الجزيرة الوثائقية عن كتاب "شروط النهضة" للمفكر الكبير مالك بن نبي، دفعني ذلك إلى مراجعة الكتاب فأذهلني من جديد معاصرة أفكاره، من الزاوية الحضارية، للواقع الذي تعيشه الأمة حاليا. إن في الكتاب مواضيع كثيرة يُستفاد منها لبناء منهج كامل للاستنهاض الحضاري المنشود، من حيث التطورات الحضارية الدولية، ومن حيث الفرص المتاحة، ومن حيث الشروط الواجب توفيرها للنهضة ومن حيث الوقائع والسلوكيات السلبية المعيقة لها على مستوى الأفراد والمجتمعات.
قد يكتب الكاتب المبدع عدة كتب ولكن يشتهر ببعضها فقط، إذ الأفكار التجديدية المؤثرة في الحال أو في المستقبل تظهر في عدد قليل من كتب صاحبها، وقد يكرر الكاتب الأفكار المحورية في كثير من كتبه، بالشرح تارة، أو بالتفصيل تارة، أو بالاستدراك والتطوير تارة أخرى.
ولو راجعنا كتب الأستاذ مالك بن النبي ضمن سلسلة مشكلات الحضارة لوجدنا أن الكتاب الذي تميز به أكثر من غيره هو كتاب "شروط النهضة"، ولو حاولنا أن نعدد الأفكار الجوهرية التي تميز بها هذا الكتاب لوجدنا من أبرزها فكرة "المعامل الاستعماري والقابلية للاستعمار".
لم يكتب الأستاذ مالك عن الاستبداد والقابلية للاستبداد في ما أعلم، إذ كان همه الأكبر معالجة الظاهرة الاستعمارية في بلادنا وأثرها المدمر للإنسان الذي يُبتلى بها، لا سيما أثر الاستعمار الفرنسي في تطور الشخصية الجزائرية. غير أن العارف بطبائع الاستبداد وتأثيره في الأفراد والمجتمعات بإمكانه أن يؤكد بأنه يكفي أن تُستبدل في كتاب "شروط النهضة" كلمة "المعامل الاستعماري" بكلمة "المعامل الاستبدادي"، وكلمة "القابلية للاستعمار" بكلمة "القابلية للاستبداد" لنشعر وكأن بن نبي -رحمه الله- خاطب قرائه لتحذيرهم من الاستبداد ومن المخاطر الجسيمة لنشوء ظاهرة القابلية للاستبداد في البلدان التي يتسلط عليها حكام لا يشغلهم فيها شيء أكثر من تطوير وسائل وأدوات التحكم والسيطرة والتفرد بالحكم وقمع المخالفين واستغفال المواطنين وإلغاء دور القوانين والمؤسسات وتسخيرها للبقاء في الحكم بعيدا عن الإرادة الشعبية الحقيقية.
يؤكد مالك بن نبي في حديثه عن المعامل الاستعماري بأن للإنسان بصفته عاملا أوليا للحضارة قيمتين: الأولى منهما خامة والأخرى صناعية، أو الأولى طبيعية والأخرى اجتماعية. أما القيمة الأولى فهي موجودة في كل فرد من الأفراد في تكوينه البيولوجي، وتتمثل في استعداده الفطري لاستعمال عبقريته وترابه ووقته، وأن الإنسان الجزائري مزود من ذلك بأطيب زاد، وأن أحداث التاريخ تؤكد ذلك. وتماما كما هو ظن مالك بن نبي لم يبخل الزمن بإمداد البلد بعباقرة في مختلف المجالات في الأزمنة الغابرة وبعد الفتح الإسلامي وقبل الاستعمار وأثناءه، ولولا خوف الإطالة لزيّنت هذا المقال بنماذج ناصعة من هؤلاء. وقد بقيت الجزائر إلى الآن تزخر بالقادة والرموز والمتميزين في أنواع عديدة من المجالات والاختصاصات في داخل البلد رغم المحيط الصعب، ومنتشرين في كامل أنحاء الدنيا حيث يجدون فرص التطور والارتقاء.
ثم ينتقل بن نبي في الكتاب إلى الحديث عن القيمة الثانية المتعلقة بكيفية صناعة الإنسان من خلال محيطه، أو الحالة الاجتماعية التي يصير إليها في البيئة التي ينشأ فيها، فيؤكد أن تدخل المعامل الاستعماري يؤثر في الفرد سلبيا منذ طفولته بما يمنعه من التطور، فلم يكن للجزائري تحت الاستعمار "من سبيل ليقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يقدره الاستعمار له، فهو يعيش كأن يدا خفية وتارة مرئية، تشتت معالم طريقه، وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، فلا يدركه أبدا".
وهكذا هو الاستبداد يتدخل في شؤون كل فرد في المجتمع بقدر تمدده وتحكمه، جيلا بعد جيل بقدر استمراره وبقائه، حتى ليصبحن عائقا للفرد فلا يتطور أبدا، وذلك بمنعه المنافسة الحرة وتغيير معالمها وقواعدها حسب هواه وما يضمن بقاء كرسيّه وتسلطه، فلا رجل الأعمال يعرف الطريق الموصل لنجاح مؤسسته، ولا طالب العلم يتأكد بأن جهده يضمن نيله مراتب العلماء، ولا السياسي يأمل بأن نضاله يمنحه السلطة لتطبيق برنامجه وخدمة وطنه، ولا الفنان يزدهر إبداعه بما يملك من مواهب، ولا الرياضي يرتقي منصات الفوز بمجرد مؤهلاته واجتهاده، ولا المنظمات المجتمعية ولا الأحزاب ولا المؤسسات الرسمية تتضح لها قواعد المنافسة وشروط النجاح، ويتأكد مع الزمن لدى كل ذي طموح بأن لا طموح يُصنع بلا إذعان للحاكم، ولا إنجازا ذا بال يتأكد في المجتمع سوى بما يمنحه المستبد ويسمح به، فلا قيمة للإنسان تحت الاستبداد بالخامة المتميزة التي منحها الله له ولا بالقدرات الطبيعية التي رُزِقها في أهله ومجتمعه، ولا بالمجهودات الجبارة التي يبذلها انطلاقا من قناعاته وإيمانه ليُحسِن استعمال المواد (التراب) والفرص المتاحة وليستثمر الوقت - الذي لا يتوقف - من أجل الارتقاء بذاته وصناعة الحضارة لأمته، وإنما قيمة الإنسان عند المستبدين بمدى قابليته للخضوع للاستبداد ليكون "كائنا مغلوبا على أمره" وفق توصيف بن نبي.
وبعد أن بيّن بن نبي "كيف يؤثر المعامل الاستعماري لتضييق نشاط الحياة في البلاد المستعمرة"، حتى "تكون مصبوبة في قالب ضيق، يهيئه الاستعمار في كل جزئية من جزئياته، خوفا من أن تتيح الحياة المطلقة لمواهب الإنسان مجراها الطبيعي إلى النبوغ والعبقرية" -كما يفعل الاستبداد تماما في البلاد التي يحكمها- ينتقل للحديث عن المعامل الآخر (القابلية للاستعمار) الذي "ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته"، وهو لعمري توصيف متطابق مع أوصاف أولئك الذين يقبلون الاستبداد فيرضون العيش في المساحات المخنوقة التي حددها، بل يضيّقون على أنفسهم بأقل من حمى حماه، ويحاولون فهم ما يريد قبل أن يفصح عنه، فينطقون به إرضاء له دون أن يدعوهم لذلك، ويحرّمون على أنفسهم محرمات من القول والفعل والعلائق لمجرد الظن من أن اتيانها ربما يغضبه، فتصبح حركاتهم وأفكارهم وحياتهم مشروطة بمنهج المستبد.
ثم يذهب بن نبي في ذكر نماذج من التصرفات التي تمليها القابلية للاستعمار وفق المقياس الذي تقيسنا به الإدارة الاستعمارية، كالقابلية للقعود لأن الاستعمار يريدنا أن نكون بطالين بلا همة ولا نشاط ليستعملنا كيد عاملة رخيصة، أو القابلية لمحاربة أي جهد إصلاحي لتعليم الناس لأن الاستعمار يريدنا جهلة يستغلنا كيفما يشاء، أو القابلية لمحاربة الفضيلة ومحاربة من ينشرها ويدعو إليها لأن الاستعمار يريد منا انحطاط الأخلاق، أو القابلية للتشتت بسبب السياسات الانتخابية لأن الاستعمار يريدنا فاشلين اجتماعيا وأدبيا بأثر الفرقة والخلاف، أو القابلية للحياة المليئة بالأوساخ وغياب الذوق لأن الاستعمار يريدنا كذلك.
وإنه والله لذلك الذي يريده المستبدون وذاك الذي يساعده عليه من فيهم القابلية للاستبداد. يريد الاستبداد أن يكون المجتمع خاملا بلا حيوية ولا نشاط فلا نتحرك إلا بإشارته فيساعده على ذلك الحاقدون على العاملين الناشطين المجدين، ويريد الاستبداد أن نكون غافلين ساذجين غير واعين بحقائق الأمور ولا دارسين ولا مثقفين فتساعده القابلية للاستبداد بكره الفكر والعلم، والتضييق على العلماء والمفكرين الذين يُعلمون الناس وينشرون الفهم والوعي وربما يحاربونهم نيابة عن المستبد.
ويريد الاستبداد أن تشيع التفاهة بين الناس وأن ينشغل الشباب باللهو والمجون وبكل ما يخدر فكرهم ووجدانهم، حتى لا ينشغلوا بالسياسة وشؤون الحكم، فتجد في المجتمع من يعمق القابلية للاستبداد بالدفاع عن الرذيلة ومحاربة من يدعو إلى الفضيلة والأخلاق الحميدة.
ويريد الاستبداد أن تنحط أذواقنا وأن نغرق في الأوساخ الحسية والنفسية حتى لا تسمو أرواحنا للمعالي ولتكون الرفعة الاجتماعية لأراذل الناس ولأقلهم ذوقا في مكنوناتهم ومظاهرهم وتصرفاتهم، وليحدث انقلاب في سلم القيم في المجتمع حتى يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، فيأمن المستبد من أن ينكر أحد منكراته، ويكون للأسف في الناس -ممن ابتلوا بداء القابلية للاستبداد- من يتفنن في شهادة الزور والتغطية على رداءة الحاكم وفساده، بل ثمة من يخدم منظومة الفساد ويلوم ويحارب من يحاربها نيابة عن الحاكم.
ويريد المستبد أن لا يبقى في المجتمع رجال يتمتعون بالحد الأدنى من الشجاعة والمروءة والإباء، فيكون فينا قابلون للاستبداد وخادمون له من أنواع شتى، من نوع ضعاف النفوس الذين يتجنبون أولئك الرجال ويخذلونهم، خوفا من الحاكم أو تزلفا له، إلى نوع المخبرين والخائنين الذين يساعدون على تدمير كل مقاوم للمستبد ولو في إطار القوانين التي يضعها هذا الأخير بنفسه.
وكم هي فقرة الخلاصة معبرة تلك التي ختم بها مفكرنا الكبير فصل المعامل الاستعماري والقابلية للاستعمار في كتابه "شروط النهضة" حين قال: "إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف، فسخّرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حدّ يحتال لكي يجعل منا أبواقا يتحدث فيها، وأقلاما يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له بعلمه وجهلنا".
يكفي أن نغير "إن الاستعمار..." في بداية هذه الفقرة بعبارة "إن الاستبداد ..." لكي يظهر التشابه الكبير بين الاستعمار والاستبداد في التأثير على بناء الأفراد والمجتمعات.