منذ أكثر من نصف قرن! بل يزيد كثيرًا! بل منذ قرون متطاولة! والتحديات التي تواجهها عربيتنا شاخصة حادة، وحَمَلَةُ لواء العداء حاقدون ماكرون متربصون، لا يتوقفون عن تسديد سهامهم، ولا يتورعون عن الطعن بعد سلِّ سيوفهم وشحذ خناجرهم المسمومة، ومستمرة تلك التحديات حتى يومنا هذا، بل زادت وتنوعت واشتدت حدتها، ومع كل ذلك التحشيد والتربص بقيت عربيتنا شامخة قيد الحياة، بقيت بسُموِّها وجمالها ورصانتها وحب أهلها المخلصين. 

قبل أكثر من نصف قرن كتب الرافعي في "وحي القلم" عن هوية الأمة في لغتها ودينها وثقافتها، وعن خطر هجر العربية والزهد فيها وأثر ذلك على هويتنا واستقلالنا، كَتَبَ تحت عنوان "اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات الاستقلال"، وهي مقالة أنشأها للمسابقة الأدبية العامة في عهد علي ماهر باشا سنة 1936م، فقال: "أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها... وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها... مكبرة شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها... وكونه سيد أمره... وأما إذا كان منه التراخي والإهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها... وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع... وما ذلَّت لغة شعب إلا ذلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة". انظر: ج3/ص28-29.

وها نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، وقد انقشع الاستعمار الذي تحدث عنه الرافعي وزال، ومات أعوانه وأنصاره ودعاته والمُطَبِّلون لثقافته وسطوته، ورُدَّت كثيرٌ من تلك السهام في صدور حامليها، بفضل الله أولًا، ثم بهمة المؤمنين المخلصين لدينهم ولغتهم وهويتهم، وبقيت عربيتنا قيد الحياة، بقيت شامخةً في نفسها، وعزًّا لأهلها وأنصارها وحماتها، وإن الباحثين وطلاب المعرفة والشغوفين بلغتهم يستمتعون كل يوم بجمال هذه اللغة، ويتشربون نظامها وروعتها. 

إنَّ "عربيتنا السيدة" حملت في أعماقها روح الحياة، وفي جوهرها سرَّ البقاء والخلود، وفي نظامها المتين وأسلوبها الساحر سلاح الإغراء والجذب والحيوية الدائمة، وعلاقتها بالدين والقرآن المعجز في مقدمة هذه الأسرار التي حباها الله بها، فأبقاها وبقيت، وأعلى شأنها فعَلَتْ وسَمَتْ وثَبَتَتْ، وبقيت سورًا منيعًا للثقافة والهوية والاستقلال، وحصنًا عتيدًا رغم أنوف الحاقدين.

وكتب رمضان عبدالتواب فصلًا في كتابه "بحوث ومقالات في اللغة" تحت عنوان "الفصحى وتحديات العصر" ذكر فيه أنَّ العربية في خطر! وأنها "قد منيت في العصر الحديث بخصوم حاقدين وأعداء ألداء، وليست تلك الهجمة الضاربة الشرسة على الفصحى، إلا جزءً من الهجوم على الدين الإسلامي الحنيف". انظر: ص 165.

وإني لأجد اليوم أكثر الذين يكتبون في دراسة العاميات واللهجات المحلية المحكية من العلماء والأساتذة الفضلاء وأساطين اللغة يعتذرون ابتداءً عن أن يكون هدفهم دراسة اللهجات التي تزاحم الفصحى، أو تقنينها أو إحلالها محل الفصحى، وإنما مقصدهم رصد الظواهر اللغوية فيها وتفسير انتسابها إلى الفصحى ووجوه الانحرافات الواقعة فيها، ومما دفعهم إلى هذا الاعتذار هي محاولات المتغربين وذيول المستشرقين -كما سمَّاهم الدكتور رمضان- المشبوهة حول تيسير العربية ومقترحاتهم المهتمة بالعامية والمزاحمة للفصحى، أمثال سلامة موسى وأنيس فريحة وعبدالعزيز فهمي وسعيد عقل وغيرهم.

يقول الدكتور إبراهيم السامرائي: "ليس كلامي على العامية ضربًا من التعصب لها والاهتمام بها، ولست أرى أنه وجه من وجوه الإعراب عن المعاني التي نُمتَحنُ بها في عصرنا هذا، ولكني أبحث فيها على أنها ظاهرة لغوية لا بد أن نقف عليها وقفة خاصة، ثم إنَّ فينا حاجة إلى أن نعود إليها لأنها تحمل الضيم على فصيحتنا التي نجتهد أن تكون لغة العصر ولغة الحضارة الجديدة، وأن نعيد لها شيئًا مما كان لها من المكانة والقوة والسعة طوال عصور مضت". انظر: العربية تاريخ وتطور للسامرائي: ص353. 

وها نحن اليوم وبعد طول أمد نتغنى بالعربية، وقد طُمست أنوار أولئك "المتثاقفين"، ودرست أفكارهم، وراحت دعواتهم أدراج الرياح، ومن قبلهم الشعوبيون والحاقدون على الدين والإسلام والعربية، زالوا ورحلوا وبقي صرح العربية أنيقًا، وحصنها مصانًا، وسورها عاليًا مهابًا.

إنَّ هذه اللغة تهيأت لها كل أسباب الحياة، الغيبية والمحسوسة، حفظها الله بحفظ كتابه، فهيأ لها أسباب الصمود والغلبة رغم كثرة ما يزاحمها وسطوة من يلاحقها طعنًا وتشويهًا، حملت أسرار الجمال التي يعجز الأدباء عن وصفها، وسادت -وما زالت- على رقعة جغرافية هائلة من هذه المعمورة، وتَصَدَّرَ مُحتسبًا –في كل زمان ومكان- مَن يدافع عنها ويناضل لأجل عينها، من أبنائها ومن غير أبنائها، بإخلاص وتفانٍ منقطع النظير.

ومع ذلك كله فنحن أبناء هذا الجيل الجديد، شباب القرن الواحد والعشرين، علينا يقع واجب حماية هذا الصرح مرةً أخرى، لنتشرف ونشارك في حمل هذه الراية، وإلا فقد حماها الله بنا أو بغيرنا. والسؤال الجوهري هنا! كيف نحميها؟ وما الذي يمكن أن نقدمه لها؟

1. نحميها بتعلمها أولًا، ثم تعليمها أجيالنا الجديدة، فنبذل الجهد والوقت والمال في التعلم والتعليم، وذلك خير سلاح نحمله ضد أعداء العربية، واجبنا كما يقول محمود شاكر السعي إلى "الإحاطة بأسرار اللغة وأساليبها الظاهرة والباطنة، وعجائب تصاريفها التي تجمعت وتشابكت على مر القرون البعيدة، فصارت ألفاظها وتراكيبها الموروثة والمستحدثة تحمل من كل زمان مضى وكل جيل سبق، نفحةً من نفحات البيان الإنساني بخصائصه المعقدة والمكتَّمة، أو خصائصه السمحة والمستعلنة". انظر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص27.

2. نحميها باستعمالها وإحيائها عمليًّا على الألسن، في محاوراتنا ونقاشاتنا ومختلف خطاباتنا، في البيت والشارع والعمل، في المدرسة والجامع والجامعة، ونقاوم ما يزاحمها من اللغات والعاميات التي ذلَّت بها ألسنتنا؛ لنترجم هذا الحب واقعًا، ونرفع روح الانتماء عاليًا، ونُشعِر العالمين بأننا منها ولها.

3. نحميها بالدفع عنها ضد الطاعنين المتربصين، الذين يتوارثون فكرة العداء، ويتواصون بتكرار النقمة ضد هذه العربية الشريفة، فنكتب بأقلامنا دفاعًا عنها، ونلهج بألسنتنا ذَبًّا عن حوزتها، ونَرُدَّ ما استطعنا الشبهات التي تُثارُ حولها، ونكافح دومًا في محاضرات وندوات ومؤتمرات وخطابات عامة، حراسةً لشأنها وصيانةً لمقامها. 

4. نحميها بانتمائنا الحقيقي لها، وترويجها، واستغلال كل مخترعات العصر لخدمتها، فذلك الانتماء والولاء والنداء يورثنا شرفًا وعزًا بها، ويقذف رعبًا في قلوب أعدائها، وهكذا تتوارث الأجيال مسيرة الدفاع والانتفاع.

5. نحميها بإشاعة روح جمالها ورقيها وبريقها، بالتعريف بخصائصها وسماتها وفرائدها النيرة، فنجعل ذلك التعريف رسالة لنا في مجتمعاتنا، باختيار نفائس هذه الخصائص، وبثها في كل ميدان تصله أقلامنا وأصواتنا.

6. نحميها بتيسيرها للناطقين بغيرها، فهي لغة الدين والحياة، وعدد المتشوقون لها حُبًا أو تَديُّنًا أو تَكسبًا كثيرٌ جدًّا، وهو في تزايد ولله الحمد، لكثرة المنتمين إلى هذا الدين من غير أبناء العربية، وللموارد والخيرات الهائلة التي تتمتع بها بلاد العرب، تجعل –تلك الثروات والخيرات- العالم شرقًا وغربًا في تنافس دائم نحوها.

7. نحميها بالمحافظة عليها في الإعلام والسياسة والاقتصاد والقانون والمجتمع، وسَنّ القوانين التي تحميها، وتدعمها، وترفع من شأنها، وتُكرِّم المحتفين بها المساندين لفرض سلطانها.

8. نحميها بتعميق البحث العلمي الجاد فيها ولها وحولها، والاستفادة من كل منابر المعرفة ومنصات البحث العلمي والدراسات لخدمتها.

"إنّ الّذي ملأ اللّغات محاسنًا *** جعل الجمال وسرّه في الضّاد"