أولًا لا بد من الاعتراف بأن هذا الشعار يُعد "ضربة معلّم". فـ"الخلافة" المقصودة هي الخلافة بالمعنى المعتاد، والخلافة بالمعنى الذي يعنيه معناها كما تم إنشاؤها لتدنيس اسمها الأول. فيكون القصد مضاعفًا:

الأول: هو المرحلة الأخيرة من صراع الغرب مع الإسلام، كما تَعيّن في الخلافة الأخيرة التي آل أمرها إلى إسقاطها، ومن ثم آخر رموزها الدال على صمود الأمة، ومنع إنهاء فاعلية الرمز إلى الخُمس الأول من القرن العشرين: أي حل "سايكس-بيكو" و"وعد بلفور" ونشأة "إسرائيل".

وهذا المعنى الأول يحقق هدفين قويين لصالح إسرائيل والغرب، وخاصة كل المحميات التي أنشأها الاستعمار الغربي، التي لا تقل عداوة لرمزية الخلافة، لأنها تُشكك في شرعيتهم، وتُفسد عليهم السعي لشرعية، إما بما قبل وحدتها أو بعد محاولة تشتيتها.

فيكون خوفهم على خسران ما حققه تفتيت الجغرافيا، ذلك أنه بقي معلّقًا إذا عجزوا فلم يستطيعوا تشتيت التاريخ بمنع عودة الرمز -الخلافة-، ولذلك فأعدى أعدائه هم قادة المحميات الغربية في البلاد العربية. ومن ثم فهم حلفاء الغرب وإسرائيل وإيران لمنع عودة الرمز.

وقد تضاعفت العداوة بعد فشل التشويه الذي حصل عن طريق "داعش". فشلوا في اتهام الاستئناف بالإرهاب المصطنع، لأن "داعش" هي صنيعة الغرب وإسرائيل وإيران والمحميات العربية. لكنها فشلت. وكما فشلت إيران، باتت تتلوها إسرائيل، والشاهدان على ذلك: "طوفان غزة" و"تحرير الشام".

لكن ما لن يستطيع نتنياهو تحقيقه حتمًا هو أن الغرب لم يَبقَ موحدًا كما كان، بمعنى الانقسام بين الغرب القديم أو الأدنى -أوروبا- الذي بدأ يشعر بأنه قد يصبح مثلنا بين فكي كماشة "فرخي الحرام" اللذين أنجبتهما أوروبا: إمبراطورية الولايات المتحدة الرأسمالية، وإمبراطورية روسيا الاشتراكية.

وكان -وليس صدفة- في نفس الوقت الذي بدأت فيه إمبراطوريات أوروبا التي تقاسمت دار الإسلام لحظة إسقاط آخر خلافة. فالإمبراطوريات التي تقاسمت دار الإسلام كانت غاية ما وصلت إليه إمبراطوريات أوروبا الثمانية في الاستحواذ عليها: إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، البرتغال، هولندا، بلجيكا، وروسيا قبل تفتيتها.

أما التوابع العرب، فإنهم بدلًا من مواصلة المقاومة، صاروا يرهبون الإسلام ورمزيته، أي وحدة الجغرافيا مكانًا، ووحدة التاريخ زمانًا، فمالوا إلى خيارات الفاشيات الأوروبية بين الحربين، بتكوين أحزاب فاشية تُحاكي أوروبا المنهارة، وأسسوا للحروب العرقية والطائفية الشعبوية.

ثم انقسموا فريقين: توابع السوفيات، وتوابع الأمريكان. في حرب أهلية شاملة ما زلنا نراها جارية، ورمزها ما يجري بين المغرب والجزائر، وقِس عليها الحرب بين كل جارين عربيين في الجامعة.

العرب اليوم يعيشون نوعين من الحروب الأهلية:

  • بين قبائلهم
  • بينهم وبين من يعمل على استئناف دور الأمة الكوني

وهذه معركتهم ضد ما يصفونه بـ"الإسلام السياسي" -وهو بليون اسم- لأن كلمة "إسلام" وحدها كافية، مثلها كلمة "سياسة" بمعنى رؤية لا تفصل بين السياسة وسعيها لتحقيق شروط السلام السياسي والاجتماعي. وهذه الحقيقة ليست خاصة بالإسلام، بل هي جوهر السياسة بصورة كونية.

فسياسة الغرب لم تفصل بين الديني والسياسي، بل حاولت توزيع العمل بين قوتين جعلت عملهما لا ينجح إلا بالحلف بين السياسي والديني. فمن أوهام الحمقى توهّم العلمانية في قطيعة مع الدين المسيحي.

فمؤسسها الأول هو بولس في رسائله إلى المسيحيين ليحقق صلحًا مع الوثنيين واندماجهم في إمبراطورية روما، عندما وصف هذا الفصل الذرائعي بين الدين والسياسة. فاعتبر الإنسان مؤلفًا من بدن وروح، وأتمّ كلام المسيح فترجم قوله: "أعطوا لقيصر ما لقيصر" مشيرًا إلى قوة المال للسيطرة على البدن، ونسبها إلى السياسة، فأضاف القوة الثانية للسيطرة على الروح ونسبها إلى الكنيسة.

وإذا كان بولس قد حقق ذلك بتنصير اليهودية، فإن العمل المتمم لفعله هو ما فعله "لوثر" الذي عاد بالمسيحية إلى اليهودية، فصارت المسيحية صهيونية، وذلك بإضفاء الشرعية على نوعي الربا: ربا الأموال وربا الأقوال

وهذا: تحليل لتحويل العملة إلى سلطان على المتبادلين بدلًا من كونها أداة تبادل عادل وتحليل لتحويل الكلمة إلى سلطان الخداع بين المتواصلين بدلًا من كونها أداة تواصل صادق فصار ما يحكم العالم هو "دين العجل": فمعدنه هو رمز العملة، وخُواره هو رمز الكلمة بهذين المعنيين.

ولذلك فسلطان الصهيونية المسيحية، ومثلها الصفوية الشيعية، كلتاهما تعتمدان هذين التحولين الدالّين على دولتهما العميقة، التي تمثل دين العجل. وترجمتها السياسية هي نظام "الأبيسيوقراطية" المتدرّقة بشكلين مجتمعين لِصِفتين لدولتهما الظاهرة المُخفية للباطنة:

  • أساس ديني: "الثيوقراطية" (دولة الله)
  • أساس سياسي: "الأنثروبوقراطية" (دولة العجل)

فالظاهر هو دين يُنسبونه إلى رب يجعلهم "شعب الله المختار" (أساس اليهودية)، أو "الأسرة المختارة" (أساس الباطنية)، وهما الصهيونية التي ابتلعت المسيحية، والصفوية التي ابتلعت الشيعة.
والصامد الوحيد هم أهل السنّة.

والباطن هو دين العجل، الذي يحكم الحمقى من البشر الذين يعبدون الشيطان ولا يدرون، لأن ربهم ظالم لا يُطبق الآية (1) من النساء، ولا خاصة الآية (13) من الحجرات، بل يجعل قِلّة سادة، وبقية البشر عبيدًا لهم.

وذلك هو المشترك بين الصهيونية والصفوية.

ولذلك فكل العرب المحاربين لاستئناف الأمة لدورها المُحرر للإنسانية من عبادة العباد بعبادة رب العباد، كل العباد، لأن تنوعهم وتعددهم هو للتعارف معرفة ومعروفًا، ولا يتفاضلون إلا بالتقوى. لكن الأهم من ذلك كله هو حمق العلمانيين العرب الذين يتصورون الفصل بين الدين والسياسة ليس حيلة، تُخفي الحلف الدائم بين المسيحية واليهودية لتمرير استراتيجية بولس ولوثر.

لم يسألوا أنفسهم عن عِلّة الوحدة بين الديني والسياسي في الحضور الدائم بين التبشير الكنسي والاستعمار المحتل.

وأخيرًا، فإن دهاء نتنياهو لا ينبغي أن يُفهم بوصفه تخويف العرب بالتذكير بمعنى الخلافة، لما كانت سعيًا لتحرير الإنسانية من العبودية، التي هي أساس حضارتهم بالمعنيين الفلسفي والديني. ففي الإسلام، "تحرير الرقاب" من أكبر الكفارات، ولم تُحفَظ الأديان إلا في عصرهم وفي أرضهم.

وفي الغرب، التحرير وهم، لأنه يعني التبعية للقول بتميّزهم، أي إن قيمهم لا تنطبق على من ليس منهم، وهم يعتبرون استعباد الغير ترقية له، ليكون مثلهم في عاداته وعباداته، إن لم يكن صراحة فبتحايل نوعي الربا، اللذين هما جوهر الاستعباد الكوني.

لذلك، الغرب بنى حضارته على استعباد الجميع بحِيَل نوعي الربا، أي سيطرة ربا الأموال وربا الأقوال. وكل ما يقولونه عن القيم ينبغي فهمه بعكس قولهم: فهي قيم يعتبرونها حكرًا عليهم، ولا تشمل غيرهم، لأن غيرهم ليسوا بشرًا أحرارًا، بل عبيدًا لهم كما في حالتي الصهيونية والصفوية.

ويوم يفهم الحداثيون ذلك، سيعلمون أنهم ليسوا حداثيين، بل عبيدٌ جاهلون لتحايلين هما:

  • استراتيجية بولس: الذي "مسّح اليهودية" فأنتج خدعة العلمانية، لأن شرطها هو الحلف الخفي بين الكنيسة والدولة، فصار حداثيو العرب يهودًا متنصرين.
  • استراتيجية لوثر: الذي "هوّد المسيحية" فأنتج خدعة إضفاء الشرعية على نوعي الربا: ربا الأموال وربا الأقوال، أي سلطان المال الربوي وسلطان الإعلام المخادع.

وأخيرًا، اسألوا "ماكس فيبر" كيف يعلل سلطان الرأسمالية ويسميه "أخلاق البروتستانت"، وهو معنى الأخلاق المقلوبة: فالحرابة المافياوية في المال، والسفه السياسي في الأقوال، صارت "أخلاقًا". لكن نحمد الله أن غزة والشام أثبتتا هذه الحقائق عيانًا، فأثبتتا أن الحق لا يُعلى عليه: انتهى عهد الخداع لمن له وعي بحقائق التاريخ.