الانجرار خلف تأويلات على شاكلة: "تحقيق اختراق في الموقف الأمريكي من المقاومة"، أو "تحصيل اعتراف رسمي بالدولة الفلسطينية"، ليس إلا نوعًا من الهذيان، واستكمالًا للأخطاء التي ارتكبناها سابقًا في الرهان على تحقيق اختراق في العلاقة مع أي إدارة أمريكية، كانت ولا زالت هي من تقود هذه الحرب وتمولها.
وكل ما جرى لن يتعدى مناورة قصيرة الأجل، تهدف من خلالها المقاومة إلى تعقيد موقف نتنياهو، ومحاولة تحقيق اختراق في ملف إنهاء الحرب، وتخفيف الأزمة الإنسانية، وكسر سلاح الجوع بالأدوات المتاحة، وتحقيق نوع من الاعتراف بالأمر الواقع، استلهامًا لتجربة طـالبـان سابقًا، وقبلها فيتنام.
وعلى المقلب الآخر، مناورة من ملك الـShow ترمب، تحضيرًا لزيارته للمنطقة، وضمن جهده الذي يتطلع من خلاله لإطفاء الحروب، خدمةً لغاية شخصية، يدون فيها نفسه للتاريخ كصانع سلام.
الرهان طويل الأمد في فك الارتباط بين الكيان وأمريكا يتطلب نفسًا طويلًا، ولن يكون عبر تقديم تنازلات جوهرية لكسب الرضا، على العكس تمامًا، بل عبر رفع كلفة دعم الكيان، وتعزيز القناعات لدى الإدارة الأمريكية الحالية، وتدوين إنجاز لها يخدم اللوبي الحالي الذي يرفع شعار "أمريكا أولًا".
أمريكا لا تخوض الآن فقط حروبًا خارجية عبر جبهات متعددة للحفاظ على الهيمنة والسيطرة، بل تخوض حربًا داخلية في الظل، بين ما يسميه خبراء السياسة "لوبي الأمركة" بقيادة ترمب وفريقه، و"لوبي العولمة" أو لوبي الشركات.
ميزة ترمب وإدارته الحالية كونها قادمة من خارج أروقة السياسة، وتتصرف بتحرر شديد من تقاليدها، وخارج خطوطها الحمراء، وهذا -وفق التقديرات- يسرّع في وتيرة الكثير من الأحداث التي كانت تتطلب سنوات وعقودًا لتحقيقها، من حالة الانكفاء وتراجع الهيمنة، أو بشكل أدق، تقاسمها مع الأطراف الأخرى. وهذا واضح في التفاهم مع روسيا، والاتفاق الصيني الجديد، والبحث عن حلول ومقاربات أقل كلفة وأكثر نفعًا من إفراط القوة، كما يجري الآن مع إيران ومع أبطال اليمن.
هل يعني ذلك أن الفروق جوهرية في رؤية اللوبيين للكيان والحقوق الفلسطينية؟ دعونا نتذكر أن ترمب هو الذي اعترف بالقدس، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ويحمل مشروع "صفقة القرن" الذي يرى أن الحق الفلسطيني يُقدّر بمجموعة من الأثمان المادية! كأي تاجر عقار يرى الأرض والموارد عبارة عن عقود واستثمارات ومنافع اقتصادية.
التفاؤل نابع الآن من أن عهد الهيمنة الأمريكية في تراجع وانكماش، في مقابل بوادر تراجع مشروع تسييد إسرائيل للمنطقة كأقوى "دولة أقليات" في محيط يموج بالأقليات المتصارعة، لصالح منطقة أكثر توازنًا، وقوى وتحالفات أخرى تفقد فيها الدول الأخرى شهيتها اتجاه التطبيع مع الكيان، خاصةً مع رفض الكيان دفع ثمن هذا التطبيع، ومع ما يرشح من شروط صعبة على المجتمع الإسرائيلي للقبول بالتطبيع، على رأسها القبول بمسار حل الدولتين، والاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 67.
هل يمكن العودة لحل الدولتين؟
على أرض الواقع، حل الدولتين انتهى منذ تفجر انتفاضة الأقصى، وفرضت إسرائيل الآن وقائع على الأرض تتجاوز هذا الحل، يستحيل معها العودة إليه، أيًّا كان الضغط السياسي والدبلوماسي عليها.
نحن أقرب ما نكون إلى حل الدولة الواحدة، إما بسقوط نظام الفصل العنصري ويهودية الدولة، أو بانهيار الدولة بشكل كامل من خلال صدام كبير، أو استنزاف طويل المدى يفقد الكيان تدريجيًّا كل أدوات تماسكه وبقائه وصولًا إلى انهياره.
وما يجري –مهما خُدع الكثيرون– بالإبهار البصري الذي تقدمه عروض الـF35، وآلة القتل، والمسميات الخلّاقة: "حرب القيامة"، و"عربات جدعون"، و"فك شمشون"، وغيرها من المسميات التوراتية، لا يخرج عن ذات القطار الذي تسير به دولة الكيان بالنسبة لهم نحو المجهول، وبالنسبة لنا نحو الهاوية.