يُسمِم إعلام العار العربي وعي الجمهور بكثرة الحديث عمن يسميهم "المحتجزين"، أو "المخطوفين" من جنود العدو الصهيوني؛ وكأنهم كانوا في نزهة يوزعون الورود على الفلسطينيين قبل أن يقعوا في قبضة المقاومة الباسلة، ولا يذكرون ولو سهوًا عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال وسجونه، وكأنهم كمٌّ مهمل، وليسوا مجاهدين ومناضلين دفاعًا عن أرضهم وعرضهم وعن مقدسات الأمة وعن المسرى والأقصى.
هذا حال إعلام العار، فما بال حال دور الإفتاء الإسلامية صامتة ساكتة لا تكاد تبين رغم علمنا بوصول عشرات الاستفتاءات إليها من جمهور المسلمين وخاصتهم بشأن العدوان الصهيو-أمريكي على غزة؟ وما بال وزارات الأوقاف تغوص برؤوسها في الرمال وكأنها لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم، ولا توجه خطبة واحدة ولو مكتوبة تنير وعي الجمهور بحقوق الأسرى الفلسطينيين الذين يرزحون في سجون الاحتلال، وما واجب الحكومات والدول الإسلامية نحوهم؟
وإذا كانت ذاكرة علماء دور الإفتاء والأوقاف قاحلة ولا شيء لديهم يقولونه من باب إبراء الذمة نحو أسرى المقاومة والجهاد من أجل الأقصى والمسرى والأرض والعرض، فها نحن نذكرهم بما في بعض الكتب والأسفار التي يحملونها ويعرفونها حق المعرفة، وواجب الوقت يملي عليهم أن يذكروها ويذكّروا بها تعزيزًا معنويًا على الأقل للمقاومة في مفاوضاتها مع أعداء الحق والحرية والإنسانية:
ذهب جمهور العلماء إلى أن فداء أسرى المسلمين لدى الأعداء ثابت في الشرع وواجب على أولي الأمر بدليل الكتاب والسنة والإجماع. وإليك مزيدًا من البيان من اجتهادات الأئمة الأعلام من المذاهب الأربعة:
أولًا: المذهب الحنفي
جاء في كتاب المبسوط للإمام السرخسي الحنفي (مج30/ص251): "إن من وقع أسيرًا في يد أهل الحرب من المؤمنين، وقصدوا قتله يُفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك، وإلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين بحصول المقصود، ولا فرق بينهما في المعنى"، وإن حكمه حكم من يوشك على الهلاك جوعًا؛ فإن الجوع الذي هاج من طبعه عدو يخاف الهلاك منه بمنزلة العدو من المشركين".
وجاء في "اللباب في شرح الكتاب"، للعلامة عبد الغني الغنيمي (مج4/ص12 و124): قال: "(ولا يُفادون بالأسارى عند أبي حنيفة)، يعني أسرى العدو لدى المسلمين؛ لأن فيه معونة للكفرة... ولأن فيه تخليص المسلم، وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به".
ثانيًا: المذهب المالكي
جاء في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (مج2/ص50 و51): قال: "[مسألة: افتداء من أُسر]: مسألة وسُئل مالك، أواجب على المسلمين افتداء من أُسر منهم؟ قال: نعم، أليس واجبًا عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم؟ قال: بلى. قال: فكيف لا يفتدونهم بأموالهم؟".
وجاء في كتاب العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام (ص565، وص566): فصل: وأسرى المسلمين الذين ببلد أهل الكفر فداؤهم واجب، قال في «العتبية»: سئل مالك أواجب على المسلمين افتداء من أُسر منهم؟ فقال: نعم، أليس بواجبًا عليهم أن يقاتلوهم حتى يستنقذوهم؟ فقال: بلى، قال: فكيف لا يفدونهم بأموالهم؟ وقد قال عمر بن الخطاب: ما أحب أن أفتتح حصنًا من حصونهم بقتل رجل من المسلمين. قال ابن رشد: معنى قول مالك هذا أن ذلك واجب على الجملة؛ لقول النبي: "فكوا العاني"، لأنه أمر، فهذا يحمل على الوجوب بدليل ما احتج به في الروايات، فواجب على الإمام أن يفتك أسرى المسلمين من بيت مالهم، فما قصر عنه بيت المال تَعيَّن على جميع المسلمين في أموالهم على مقاديرها...
وجاء في كتاب التاج والإكليل لمختصر العلامة خليل للإمام المواق (مج4/605): قال ابن عرفة: فداء أسارى المسلمين فيه طرق، والأكثر على وجوبه... واستنقاذهم بالقتال واجب فكيف بالمال؟ زاد اللخمي في روايته مع رواية أشهب: ولو بجميع أموال المسلمين. قال ابن عرفة: ما لم يُخش استيلاء العدو بذلك، وفي المبدأ بالفداء منه طرق. قال ابن بشير: من بيت المال، فإن تعذر فعلى عموم المسلمين.
وجاء في تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن (مج5/279): قال عند تفسيره لقوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله): حض على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس. وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه، لقوله عليه السلام: "فكوا العاني".
وجاء في المنتقى شرح الموطأ (مج3/ص187): قال: "... ولعله سمى الفداء شراء، والأصل في ذلك أن فداء المسلمين وتخليصهم من أيدي المشركين واجب لازم، رواه أشهب عن مالك قال: ولو لم يقدروا أن يفتدوهم إلا بكل ما يملكون فذلك عليهم".
ثالثًا: المذهب الشافعي
جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص165، ص166): "عن ابن عباس، قال: الإسلام يعلو ولا يُعلى. قال أبو عبيد: فهذا ما جاء في أسارى المشركين، فأما المسلمون فإن ذراريهم ونساءهم مثل رجالهم في الفداء، يحق على الإمام والمسلمين فكاكهم واستنقاذهم من أيدي المشركين بكل وجه وجدوا إليه سبيلًا، إن كان ذلك برجال أو مال، وهو شرط رسول الله ﷺ على المهاجرين والأنصار".
وجاء في كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للإمام ابن حجر الهيتمي (مج9/ص236): قال: "ولو أسروا مسلمًا فالأصح وجوب النهوض إليهم فورًا على كل قادر... لخلاصه إن توقعناه".
رابعًا: المذهب الحنبلي
جاء في كتاب المغني للإمام ابن قدامة (مج13/ص135-136): قال: "فصل: ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن. وبهذا قال عمر بن عبد العزيز، ومالك، وإسحاق. ويروى عن ابن الزبير، أنه سأل الحسن بن علي: على مَن فكاك الأسير؟ قال: على الأرض التي يقاتل عليها".
وجاء في كتاب المبدع شرح المقنع لابن مفلح (مج4/ص580): قال: "ويجب فداء أسارى المسلمين مع الإمكان؛ لقوله: «وفك العاني». وكذا شراء أسرى أهل الذمة، وقاله الخرقي؛ لأنا قد التزمنا حفظهم بأخذ جزيتهم، فلزمنا الدفع من ورائهم".
قال تعالى في محكم آياته: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]. صدق الله العظيم.