المعلوم أن القرآن يكاد يكون استراتيجية تربية وحكم يهدفان إلى تحرير إرادة الإنسان بترجيح حكمته لتخليصه من دين العجل ومن حب التأله. ويمكن ان نعد هذه الاستراتيجية هي عين ما يسميه القرآن بالأمر المعروف والنهي عن المنكر شرطي الإيمان الصادق والانتساب إلى الأمة الخيرة وذلك هو جوهر سياسة المعمورة التي ترد إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر.  
وقد خصصت لقوى الإنسان الثلاث التي تؤدي وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قواه الثلاث التي تحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرط الإيمان (آل عمران 104) والانتساب إلى خير أمة أخرجت للناس (آل عمران 110) بوصف ذلك من شروط العيش المشترك السليم في رعاية الجماعة لذاتها وحمايتها: 1 القلب 2 واللسان 3 واليد.
 فأضفت تعريف الرسول لمستوياتها التي تبدأ بأقواها وتنتهي بأضعفها: 1 اليد 2 واللسان 3 والقلب. وهو قد عرف هذه القوى المتعينة في كيان الإنسان العضوي والروحي من أعلاها إلى أدناها بمقتضى قوة الفاعلية لأنه كان يخاطب صحابته الذين رباهم وحكم دولتهم فجعلهم قادرين على تجاوز ما يمكن أن يكبتهم في استعمال قواهم لخدمة الأمة وتمثيل أخلاق الإسلام سلوكهم الفعلي حفاظا على قيم المصير باختيار راشد المسير. 
لذلك فقد أردت أن أضيف مرحلتين مضمرتين في القوى الثلاث لتصيح  المراحل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واصلتين بين التي ذكرها الرسول من أعلاها إلى أدناها وهما مضمرتان في خطابه بدليل التراتب الذي لم يعلله إلا بقوة الفاعلية. ذلك أن تفعيلها في حالة خمولها ينبغي أن يعكس الترتيب حتى بطابق ثمرة الترتيب الذي تحقق بفضل التربية والحكم. 

وإذن فلا بد من إضمار ما يزيح الحائل دون الفاعلية الموصلة إلى غاية القوة المؤثرة تمام التأثير. وقد صرنا بحاجة إليهما لفهم شروط إحيائهما حتى نسترجع عنفوان التربية الرسولية التي كان يطبقها في تكوين الإنسان وتموينه رعاية مادية ورحية في الأسرة والمدرسة والمعبد والمعمل والجماعة وفي تكوينه وتموينه حماية مادية وروحية بالحكم الذي يكون من جنس الأسرة والمدرسة والمعبد والمعمل والجماعة لأن الجماعة قيست في كلامه على الجسد الواحد. ويقتضي ذلك قلب الترتيب بدأ بأدنى قوة وختما بأعلاها لأن التكوين بخلاف الاستعمال يقتضي البدء بالأقل إلى الأكثر فاعلية من القوى في تحقيق الرعاية والحماية. 

وأول هذين العائقين المضمرين أو القوتين السالبتين لفاعلية الإنسان يتوسط بين اليد واللسان وثانيهما يتوسط بين اللسان والقلب فيبقى اللسان شاغلا قلب المعادلة دونه مرحلتان وفوقه مرحلتان. ذلك أن الأمة خلال مراحل الانحطاط أصابها بعض الخمول فسيطر العائقان أو القوتان السالبتان للإرادة الحرة والحكمة الراجحة فقلت رعاية الأمة لذاتها وحمايتها.
 ولا بد إذن من فهم علل ذلك وتقديم علاج لها يرجع ما كان لها من بأس فقدته بسبب التربية والحكم العنيفين اللذين أفقداها عنفوان قواها واستعادة ما يصلح فيهما حقيقة "معاني الإنسانية" ليكون المسلم "رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له" (ورد التعريف مرتين: ابن خلدون المقدمة الباب الثالث والباب السادس).
وبذلك يكون إصلاح معاني الإنسانية استرداد الترتيب السوي لهذه القوى بحسب درجات الإيمان بالشرطين لاستعادة عزة المسلمين حتى يكونوا أهلا للشهادة عل العالمين.  فتعود إلى الترتيب الذي ذكره الرسول إذا زال العائقان أو القوتان السلبيتان الحائلتان دونه فتكون متراتبة من الفاعلية الأقوى إلى الأضعف ولا ترتد إلى العكس بتردي تربيتها وحكمها حتى نتجنب ما يحدث للإنسان بمقتضى ما تتعرض له ذاته من "فساد معاني الإنسانية"  الممكن لأنه مكلف وقد لا يلتزم بشروط أهلية الاستخلاف (المقدمة الباب السادس فصل 40 التربية والحكم). 
لكن التراتب يبقى كما وصفت وليس كما يفهم من الترتيب الذي يبدو وكأن الرسول قد نصح به عند من لا يشترط الشروط التي نتجت عن تربيته. ذلك أنه لو صح أن القصد هو البدء باليد دون أن يسبقها ما أعد لدوره وقدرته على ذلك لكان ذلك مفضيا للهرج ولصار كل إنسان يصبح ممثلا لإرادة الجماعة بغير نظام. لذلك فقصد الرسول هو أن من يصبح مستعدا للمجاهدة النضالية في الجماعة يكون قد حصل على تربية تجعل قلبه يغضب فلا يقبل الظلم وله القدرة على الأمر بالمعروف بلسانه -بدليل القول الساكت على الحق شيطان اخرص-ثم يعضب باللسان وله القدرة على النهي عن المنكر فصبح أهلا للانتساب إلى مقاوميه فعليا في النظام الجماعي الذي له هذه الوظيفة ومنهم تختار الدولة ذات الشرعية شوكتها. 
لذلك فالشوكة -التي يمثلها الأمن في الداخل والدفاع في الخارج المأمرة بشرعية السلط الثلاث أي التنفيذ والتشريع والقضاء الممثلة للشرعية أي لإنيابة الجماعة ذات الإرادة الحرة والحكمة الراجحة -لا يمكن أن يكون أي منها خمستها من أراذل الجماعة بل من أفاضلها وتلك هي دلالة الآية 38 من الشورى: ليكون النظام السياسي طبيعته أمر الجماعة أي حكمها لنفسها أو جمهورية بأسلوب الشورى أي ديموقراطية لمنع ما يعد أهم علة في التناكر بدل التعارف معرفة ومعروفا أي حل مشكل الرزق بمقتضى الاستجابة للرب.

والمعلوم أن التكليف يقتضي أن يكون الإنسان قادرا على النقيضين وهو المنطق الغالب على مسير الإنسان نحو مصيره لاتصافه بالغفلة والنسيان وعجلته؟ فقلّما يسلك الإنسان الطريق المستقيمة. فالقدرة على الفعلين المتناقضين هي الفسحة التي تجعله صاحب الخيار في المسير طريقا والمصير غاية يقدم عليهما دون ثبات إما لتردد دائم أو لكونه ليس من أولي العزم في خياراته الأداتية والغائية. ولهذه العلة احتاج البشر للشوكة الشرعية أي الدولة إذا كانت خاضعة لهذه الأخلاق التي وصفتها استراتيجية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطا في الإيمان والانتساب إلى خير أمة أخرجت للناس (آل عمران 104-110)

وهذان القدرتان هما جوهر الإرادة الناقلة من الترك إلى الفعل والحكمة الناقلة من الاستبعاد إلى الترجيح. وبذلك تكون أدوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خمسة: 1 القلب 2 والترجيح 3 واللسان 4 والإرادة 5 واليد أخيرا. نزولا من اليد إلى القلب وصعودا من القلب إلى اليد. وبعد أن حددنا السبيل التي تمكننا من معرفة قوى الإنسان الخمس وبيان تناظرها مع قوى الطبيعة الخمس فلنذكرها: القلب فكبته الحائل دون عمل اللسان وتلك هي القوة السالبة الأولى ثم اللسان فكتبه الحائل دون عمل اليد وهي القوة السالبة الثانية وأخيرا اليد ولا يوحد ما يحول دونها لأنها هييه غاية القوة الإنسانية في عمل النهي عن المنكر.
فالكبت الحائل دون النقلة من القلب إلى اللسان والكبت الحائل دون النقلة من اللسان إلى اليد كلاهما قوة سالبة ناتجة عن فساد معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم العنيفين. وإذن فالقوتان السالبتان تحصلان في كيان الإنسان الخلقي بما ترتب على عنف التربية والحكم اللذين يقضيان عن "البأس"  (المقدمة الباب الثاني الفصل السادس: البأس عند  الصحابة) فيحدثان كبت القلب وكبت اللسان كبتا يقضي على شجاعة القلب العاجز دون الكبت القلبي وهي الشجاعة المطلوبة في الأمر بالمعروف وعلى شجاعة اللسان العاجز دون الكبت اللساني وهي الشجاعة المطلوبة في النهي عن المنكر الذي لا يكون حقا إلا باليد لما يصبح عين أخلاق الجماعة التي فقدت فيها معاني الإنسانية. 
وإذن فلما نسترد الشجاعة التي نتغلب بها على الكبتين أو القوتين السلبيتين نصل إلى اليد وهي قوة النهي عن المنكر في الجماعة ذات الإرادة الحرة والحكمة الراجحة أي التي لا تترك الرعاية والحماية علامتي السيادة بيد تعلو عليها في خياراتها تربية وحكما. فيكون البدء بالأمر بالمعروف بالقلب الصامت ثم باللسان الناطق إلى أن يصبح القلب والنطق قادرين على النهي عن المنكر باليد. 
وبذلك نجد حلا للتكامل بين قوى الطبيعة المسخرة للإنسان وقوى الإنسان المسخرة للاستخلاف. فتتأسس الحضارات بوجودها لدى الأمة وتنهار بفقدان الأمة لها. فتكون هذه القوى إما مسخرة لتغليب فعل الخير أو لتغليب فعل الشر في حياة الإنسان. وكلا الفعلين ذوا انتظام لا يختلف عن فاعلية قوى الطبيعة الخمس التالية:
1. ما يناظر القلب عند الإنسان في الأمر بالمعروف هو الجاذبية التي تناظره في الطبيعة. القلب يجمع البشر بالخير أو مفرقهم بالشر. فيبدو مختلفا عن الجاذبية بجمعه بين الخير والشر في حين أن هذه محايدة قيميا. لكنها إذا كانت هي التي تجمع نظام الأجرام السماوية فهي كذلك تفرق وإلا لما وجد تواسع العالم. ويمكن إذن أن نقيس قوة جاذبية القلب جذبا ودفعا كما نقيس فاعلية جاذبية الأجرام السماوية جذبا في المحافظة على المسافة الفاصلة بينها أو دفعا بتوسيعها.
2. ما يناظر العقل أو الحكمة هو القوة الذرية الضعيفة التي تحقق الترابط بين بعض الظاهرات في الطبيعة وفي سلامة البدن الإنساني بما لها من مزايا علاجية لبعض الأمراض.
3. ما يناظر اللسان هو القوة الكهرومغناطيسية التي لها في الطبيعة دور الإضاءة والنور واللسان يؤدي مثل هذه الوظيفة لأنه هو الذي يجمع ويمنع في المغناطيس وينير مثل الكهرباء ومن دون لسان لا يكون الإنسان قادرا على الجمع بالإقناع وحتى المنع به والمعلوم أن السلم والحرب ينتجان أساسا على دور اللسان الذي هو جوهر الدبلوماسية المقربة أو المنفرة بالخطاب البليغ.
4. أما يناظر فاعلية الإرادة الحرة عند الإنسان فهو فاعلية الردع أداة طبيعية والردع أداة إنسانية هو الذي تكون الذرة مجردة قسم من الردع التام  الذي يعرفه القرآن بإرهاب العدو ليس بالذرة فحسب لكونها أحد أسلحته بل بالقوة عامة روحية (الشجاعة والتمييز بين العدو والصديق) ثم هي مادية أي الثروة والديموغرافيا والخبرة الحربية والسلاح (ركوب الخيل كناية عن كل سلاح) وهي السلام ورمزه ركوب الخيل ومادية وبركوب الخليل  نقيض فاعلية القوة الذرية القوية إذ وجودها لن يستطع تفجير العالم حتى لو تصورناه قادرا على تفجير الأرض.
5. وهو الفرق بين النظامين الإلهي والإنساني أي بين المستخلف والخليفة. فما يناظر نظام العالم الطبيعي في علاقته بإرادة الله مطلق القوة والنظام لأنه هو الخالق والناظم للعالم كله. ولما كان الإنسان دون ذلك بإطلاق فهو خاضع لنظام العالم وحتى لنظام بدنه فلا يستطيع الخروج عن نظامه. وإذا حاول التحرر بمرض حب التأله القدرة المطلقة كان الطاغوت الذي لا يكون الإنسان مؤمنا بالله إلا إذا كفر به وهو تبين الرشد من الغي.
وحب التأله هو الشرك المطلق وهو على نوعين: إنه حب التأله الإنساني إما بسلطان وهم القوة السياسية أو بسلطان وهم القوة التقنية. وذلك هو الشرك الأكبر أو أبق العبد الذي هو أي الخليفة الآبق. وتلك هي علة فساد كل أدوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعني التوحش السياسي والتقني (الرحمن وخرق السماوات): فالقرآن يصف الإنسان بكونه خصيم الله المبين.

وعندئذ تنقلب معادلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى عكسها فتصبح أمرا بالمنكر ونهيا عن المعروف: وهذا هو عين سلوك من فسدت فيهم معاني الإنسانية في كل الحضرات وبه يعلل  ابن خلدون الحاجة الى الدولة الشرعية ذات الشوكة ويعلل فساد نظرية المدينة الفاضلة الفلسفية التي لو كانت ممكنة لاستغنينا عن الدولة.

لكن هذا الانقلاب يتخفى إما تقية ونفاقا أو مرضا هو جوهر استراتيجية من لم يرب تربية ولم يحكم بأخلاق الأحرار ففسدت فيه معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون (المقدمة الباب السادس فصل 40). والكلام على دور التعليم والسياسة في إيصال الإنسان إلى فقدان هذه المعاني التي بفضلها يكون الإنسان "رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له" أهم ثورة عرفتها فلسفة التربية وفلسفة الحكم الذي يمكن حينها أن يكون بمنطق الآية 38 من الشورى (ابن خلدون المقدمة الباب الثاني فصل 24).