في قلب غزة، تتقاطع الأزمات الإنسانية والخدمية لتشكّل لوحة من المعاناة اليومية، حيث لا يقف الأمر عند الجوع أو العطش، بل يمتد ليطال الصحة، والتعليم، والطاقة، والإعلام، وحتى فرص العمل. القصف المستمر والحصار الممتد منذ سنوات طويلة حوّلا مقومات الحياة الأساسية إلى تحديات وجودية، وجعلت من البحث عن حلول عملية ومستدامة ضرورة لا خيارًا. هذا المقال يرصد أبرز هذه الأزمات، ويستعرض أفكارًا ومشاريع قابلة للتطبيق يمكن أن تمنح السكان فسحة من الأمل وسط الركام.
أولا- أزمة الأمن الغذائي في غزة: جوع تحت القصف
في غزة، لا يُقاس الجوع بعدد الوجبات الفائتة فقط، بل يُقاس أيضًا بعدد الأسر التي تفقد أراضيها، وعدد الأطفال الذين ينامون على بطون خاوية في ملاجئ مؤقتة، وعدد المزارع التي تحولت إلى رماد بفعل القصف. مع استمرار العدوان على قطاع غزة، إلى جانب الحصار المستمر منذ أكثر من تسعة عشر عامًا، نشأ واقع غذائي كارثي تُهدد فيه المجاعة أجزاء واسعة من السكان، وتُقوض فيه أسس الاكتفاء الذاتي والكرامة الإنسانية.
يعد القصف المباشر للمنشآت الزراعية وتدمير آلاف الدونمات منها وإغلاق المعابر ومنع دخول السلع الأساسية وتوقف سلاسل الإمداد التجارية والمساعدات الغذائية الطارئة وانقطاع الكهرباء والوقود وما ينتج عنه من فساد الأغذية وتوقف أفران الخبز عن الإنتاج من أبرز التحديات التي يواجهها القطاع في سبيل تأمين الغذاء.
مثل هذه التحديات أدت وتؤدي إلى نتائج كارثية منها على سبيل المثال لا الحصر ارتفاع الأسعار بنسبة تفوق ثلاثمائة بالمئة لبعض المواد الغذائية، ونقص حاد في المواد الطازجة والمعلبة، وغياب الخضار والفواكه عن الأسواق، وانهيار الإنتاج المحلي من البيض واللبن واللحوم. تلك التحديات أثرت على الناس عمومًا وعلى الأطفال خصوصًا، مسببة سوء تغذية حاد وتهديدًا مباشرًا لحياة الرضع والمرضى، حيث يعد ذلك من أهم الأسباب التي تجبر الناس على النزوح.
حلول ومشاريع قابلة للتطبيق في ظل العدوان
- مزارع منزلية صغيرة للطوارئ: تشجيع الزراعة في الأواني والأسطح والساحات باستخدام تقنيات بسيطة، وتوزيع بذور سريعة النمو مثل الفجل والنعناع والخس والطماطم.
- مراكز تغذية مجتمعية متنقلة: مطابخ تطوعية تُدار من خلال مؤسسات محلية لتوزيع وجبات يومية، واستخدام التمويل الجماعي لتوفير المواد الخام الضرورية.
- إعادة تدوير النفايات العضوية لإنتاج السماد: تحويل مخلفات الطعام إلى سماد لدعم الزراعة في ظل شح المواد، مع حملات توعية مجتمعية لفرز النفايات وتحويلها لمورد إنتاجي.
- تمويل طارئ مباشر للمزارعين: تقديم دعم نقدي أو عيني عاجل لإعادة تشغيل مزارع البيض والخضروات، وتأمين بدائل محلية لأعلاف الحيوانات بعد توقف استيرادها.
في غزة، لا يكفي أن تصل المساعدات، بل يجب أن تُمنح العائلات القدرة على إنتاج غذائها بكرامة. العدوان قد يحطم البنية التحتية، لكن روح الصمود والإبداع في غزة قادرة على بناء نماذج غذائية بديلة ومستدامة إذا تم دعمها بجدية.
ثانيا- أزمة المياه النظيفة في غزة: بين العطش والبحث عن الأمل
في قطاع غزة، لا تنبع أزمة المياه من ندرة المصدر فقط، بل من تعقيدات سياسية وبيئية واقتصادية متشابكة. فالوصول إلى مياه نظيفة صالحة للاستخدام البشري لم يعد أمرًا بديهيًا، بل أصبح حلمًا يوميًا يراود أكثر من مليوني إنسان يعيشون في واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا وفقرًا في العالم.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من خمسة وتسعين بالمئة من المياه الجوفية في غزة غير صالحة للشرب. المصدر الأساسي للمياه الجوفية، وهو الحوض الساحلي، تعرض لاستنزاف مفرط واختلاط مزمن بمياه البحر والمياه العادمة نتيجة تسربات الشبكة الهشة، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في نسبة الملوحة والمواد الكيميائية الضارة.
السببان الرئيسيان لهذه الأزمة ينبعان أولًا من انهيار البنية التحتية جراء الحرب، حيث تعرضت منشآت المياه والصرف الصحي في غزة خلال الحروب المتكررة إلى دمار واسع، مما أدى إلى تآكل الشبكات، وانهيار أنظمة الضخ، وتلف محطات المعالجة. البنية التحتية التي كانت بالكاد تعمل قبل العدوان، أصبحت في حالة عجز تام بعده، وبدون إمكانيات حقيقية لإعادة البناء.
السبب الآخر المباشر لهذه الأزمة يتمثل بالاحتلال وحصاره لمصادر الحياة في غزة، حيث يعد ذلك الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من خمسة عشر عامًا أحد أهم العوائق لما له من دور غير أخلاقي في فرض قيود صارمة على دخول المواد والمعدات الحيوية اللازمة لإصلاح وتطوير شبكات المياه وإيجاد موارد مياه بديلة تسد حاجة القطاع الملحة في توفير مياه نظيفة ومستدامة.
التأثيرات الصحية والبيئية لأزمة المياه لا تنتهي عند حدود العطش فقط، بل تؤدي إلى تفشي أمراض مثل الإسهال والتيفوئيد والكوليرا، خصوصًا بين الأطفال، كما تؤدي أيضًا إلى تدهور صحة الأراضي الزراعية بسبب ملوحة المياه، إضافة إلى زيادة الاعتماد على مياه باهظة الثمن تُشترى من الصهاريج دون ضمان جودتها.
فرص حقيقية لمشاريع مؤثرة
- وحدات تحلية منزلية صغيرة تعتمد على الطاقة الشمسية: تكنولوجيا منخفضة التكلفة وسهلة التركيب، مثالية للأسر التي تعاني من انقطاع الكهرباء ونقص المياه الصالحة.
- خزانات لجمع مياه الأمطار فوق أسطح المباني: تخزين آمن ونظيف لمياه الشتاء، يخفف الضغط عن الشبكات المركزية ويوفر مصدرًا شبه مجاني للمياه.
- دعم ورش صيانة شبكات المياه المتهالكة: تحسين كفاءة النقل والتوزيع وتقليل الهدر، مع تدريب فرق محلية لضمان الاستدامة.
- حملات توعية مجتمعية شاملة: تعليم الأطفال والعائلات سبل ترشيد استهلاك المياه، ونشر ثقافة المعالجة البسيطة للنفايات السائلة داخل المنازل والمؤسسات.
غزة تحتاج إلى حلول تعزز مناعتها الذاتية وتعيد للفرد سيطرته على قوته وكرامته.
ثالثا: أزمة الرعاية الصحية في غزة تحت القصف والحصار
الرعاية الصحية في القطاع باتت على حافة الانهيار، مع محدودية الموارد، ونقص الأدوية، واستهداف المنشآت الطبية. مع استمرار عدوان الاحتلال وقيود الحصار الطويل، تحولت المنظومة الصحية إلى مشهد مأساوي، حيث تختلط أصوات الجرحى بصدى العجز، وتنهار أسس الرعاية في وجه التحديات اليومية.
يأتي على رأس جملة الأسباب التي أدت إلى انهيار المنظومة الصحية في غزة عدوان الاحتلال المباشر على المنشآت الصحية، حيث يتعمد الاحتلال تدمير المستشفيات والمراكز الطبية واستهداف سيارات الإسعاف والأطقم الطبية. ولزيادة الوضع سوءًا، ينتهج الاحتلال سياسة التجويع المتعمد عن طريق الحصار الخانق ومنع دخول الإمدادات الحيوية كالأدوية والمستلزمات الطبية، ومنع توريد قطع الغيار والأجهزة اللازمة لتشغيل المعدات الطبية. أضف إلى ذلك عامل الكهرباء والوقود اللذين يعتبران الشريان الأساسي لعمل المستشفيات ومراكز العناية المركزة، وبانقطاعهما تنهار المنظومة الصحية.
إن التأثيرات الناتجة عن التحديات أعلاه أدت إلى شح في الأسرة الطبية نظرًا لوجود آلاف الجرحى، ووفاة العديد من حديثي الولادة ومرضى السرطان والفشل الكلوي، ووفاة العديد من الأطفال الذين يعانون من أمراض يمكن علاجها بسهولة، إضافة إلى توقف تطعيم الأطفال وتعطل برامج الوقاية من الأمراض المزمنة والمعدية، وفوق كل ذلك انتشار الأمراض النفسية نتيجة الصدمات المتكررة، دون توفر دعم نفسي كافٍ.
فرص حقيقية لمشاريع مؤثرة
- عيادات متنقلة للطوارئ: وحدات طبية ميدانية مزودة بالأدوات الأساسية، يمكنها تقديم إسعافات أولية ورعاية أولية مؤقتة في المناطق المنكوبة.
- مراكز إنتاج محلية للمستلزمات الأساسية: إنتاج كمامات، مطهرات، وأدوات جراحية بسيطة محليًا لتقليل الاعتماد على الواردات.
- منصات رقمية للتطبيب عن بعد: ربط الأطباء المحليين بطواقم دولية لتقديم استشارات عاجلة، خاصة في تخصصات نادرة مثل الأعصاب والأورام.
- برامج دعم الصحة النفسية المجتمعية: تدريب متطوعين لتقديم إسعافات نفسية أولية للأطفال والنساء، وإنتاج محتوى توعوي إذاعي وتلفزيوني للتعامل مع الصدمة والقلق.
الرعاية الصحية ليست امتيازًا، بل حق أصيل كفله القانون الدولي والضمير الإنساني. وما يحدث في غزة اختبار صارخ للإنسانية جمعاء: هل يمكن أن نصمت بينما تُجرى العمليات الجراحية بلا تخدير؟ هل يُعقل أن تُترك أمٌّ تنزف دون طبيب، أو طفل يصارع السرطان دون دواء؟
رابعا- أزمة الطاقة في غزة: واقع مظلم وحلول مستدامة
تواجه غزة أزمة حادة في قطاع الطاقة تُعد من بين أبرز التحديات الخدمية والإنسانية التي تؤثر على حياة السكان اليومية، حيث لا يتم تزويد السكان بالكهرباء بشكل مستقر، مما أثر ويؤثر سلبًا على مختلف مناحي الحياة، بما في ذلك الصحة والتعليم والاقتصاد والبنية التحتية. تحولت أزمة الكهرباء من مجرد خلل في الخدمات إلى أزمة مزمنة تؤثر على جودة الحياة، وتضاعف من معاناة سكان القطاع في ظل الحرب والحصار المفروض منذ أكثر من تسعة عشر عامًا، وفي ظل الانتهاكات المستمرة للبنية التحتية الحيوية من قبل الاحتلال.
أدت أزمة انقطاع التيار الكهربائي المزمنة في غزة إلى آثار مباشرة وخطيرة تمس مختلف جوانب الحياة اليومية، وتشكل تهديدًا حقيقيًا للاستقرار الإنساني والخدمات الأساسية، حيث تعاني المستشفيات من نقص حاد في إمدادات الكهرباء، مما يهدد بشكل مباشر حياة المرضى في غرف العمليات والعناية المركزة وحضانات الأطفال، ويجبر الطواقم الطبية على الاعتماد على مولدات طوارئ غير مستقرة. كما أثرت الأزمة بشكل كبير على قطاع التعليم، حيث يضطر الطلاب إلى الدراسة في ظروف غير ملائمة، غالبًا تحت ضوء الشموع، بينما يُحرم البعض من استكمال دراستهم لعدم توفر التيار الكهربائي في المساء.
ويُعد القطاع الاقتصادي من أبرز القطاعات المتضررة، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاج وزيادة معدلات البطالة. وفي المنازل، تعيش الأسر تحت ضغط مستمر نتيجة غياب الكهرباء، إذ تفتقر إلى وسائل التبريد في الصيف والتدفئة في الشتاء، مع انعدام القدرة على تسخين المياه أو تشغيل الأجهزة الأساسية، بما في ذلك شحن الهواتف أو تشغيل مضخات المياه، ما يجعل الحياة اليومية مرهقة وغير مستقرة.
فرص حقيقية لمشاريع مؤثرة
- أنظمة الطاقة الشمسية المنزلية: تركيب ألواح شمسية على أسطح المنازل، توفر طاقة بديلة وتخفف الضغط عن الشبكة العامة.
- مشاريع تعاونية للطاقة البديلة: مبادرات مجتمعية لتركيب محطات طاقة شمسية صغيرة في المدارس والمستشفيات أو المساجد.
- شبكات ذكية لتوزيع الأحمال: تحسين إدارة توزيع الطاقة بما يضمن عدالة التوصيل وتقليل الفاقد الكهربائي.
- إعادة استخدام الطاقة من النفايات العضوية: استثمار المخلفات المنزلية والزراعية لإنتاج الغاز الحيوي كوقود بديل.
- صناديق تمويل دولية للطاقة الخضراء: دعم الشباب والشركات الناشئة لتطوير حلول تكنولوجية محلية تخدم المجتمع وتولد فرص عمل.
خامسا- أزمة الإعلام والتوعية: حين يُحاصر الصوت قبل الصورة
يواجه قطاع الإعلام في غزة تحديات متفاقمة نتيجة الحصار المستمر والقيود المفروضة على تدفق المعلومات والمعدات التقنية. إذ يعاني الصحفيون ووسائل الإعلام المحلية من نقص حاد في الموارد، بما في ذلك الكاميرات وأجهزة البث ومعدات الاتصال الحديثة، مما يقيد قدرتهم على تغطية الأحداث ونقل الواقع الميداني كما هو. كما يتعرض الإعلام في غزة لتهميش دولي، حيث لا تصل الكثير من القصص الإنسانية والحقائق اليومية إلى المنصات العالمية بسبب ضعف الإمكانات وغياب الدعم المؤسساتي. إضافة إلى ذلك، يواجه الصحفيون مخاطر يومية في مناطق النزاع دون توفر حماية كافية أو تدريب مهني متخصص.
تعود أزمة الإعلام في غزة إلى مجموعة من الأسباب المتراكمة التي حولت الصحافة إلى ضحية أخرى من ضحايا الحصار. فالحصار المزدوج يمنع دخول المعدات الأساسية مثل الكاميرات وأجهزة البث والطائرات بدون طيار وحتى أبسط الأدوات، مما يضطر الصحفيين للعمل بتجهيزات قديمة لا تواكب التطور التكنولوجي. إلى جانب ذلك، يعاني الصحفيون من الضغط السياسي والأمني، حيث يواجهون القيود من أكثر من جهة، ويكونون عرضة للاعتقال أو الاستهداف المباشر، خصوصًا أثناء التغطيات الميدانية. كما أن تضييق منصات التواصل الاجتماعي مثل ميتا وجوجل على المحتوى الفلسطيني وتبنيها سردية الاحتلال يشكل ضربة قوية للضمير الحي ويدفع لتكميم الأفواه وحجب الحقيقة بشكل غير أخلاقي.
وزاد الأمر سوءًا الرقابة والحرمان من المنصات الدولية، حيث يتم استبعاد الصوت الغزي من دوائر الإعلام العالمي، إما بسبب التحيز أو ضعف أدوات الوصول، ما ساهم في تعميق التهميش الإعلامي للقضية الفلسطينية. نتيجة لذلك، يحدث تعتيم خطير على جرائم وانتهاكات الاحتلال، إذ لا توثق كثير من الاعتداءات على الغزيين، مما يُفلت مرتكبوها من المساءلة. كما تصاب الكفاءات الإعلامية الشابة بالإحباط، حيث تعجز عن تطوير مهاراتها أو إبراز إبداعها بسبب نقص المعدات وقلة الفرص. ويتفاقم الوضع أكثر بفقدان الثقة الجماهيرية بالإعلام، وخصوصًا المنصات الخارجية التي تعمل بعضها وفق أجندات مشوهة لا تعكس الواقع كما هو، مما يضاعف عزلة غزة الإعلامية ويقصي صوتها عن العالم.
فرص حقيقية لمشاريع مؤثرة
- مراكز تدريب إعلامي متنقلة: وحدات تعليمية صغيرة تتنقل بين الجامعات والمراكز المجتمعية لتدريب الشباب على الصحافة الرقمية والتصوير والتحرير باستخدام أدوات بسيطة أو حتى الهواتف الذكية.
- صندوق دعم للمبادرات الإعلامية المحلية: تمويل صغير للمشاريع الصحفية المستقلة التي تركز على القصص الإنسانية والابتكار الإعلامي والقصص البصرية.
- منصات رقمية بديلة: بناء مواقع ومنصات ناطقة باسم غزة تُدار محليًا وتنشر باللغات الأجنبية لكسر الحصار الرقمي وإيصال الرواية الفلسطينية إلى العالم.
- مشروع "كاميرا لكل صحفي": حملة دولية لتوفير معدات بسيطة وفعالة لكل شاب أو شابة يرغب في توثيق الحياة في غزة، فالكاميرا هنا ليست مجرد أداة بل وسيلة مقاومة.
- تحالف إعلامي شبابي: شبكة تجمع الصحفيين والمبدعين لتبادل الخبرات وتنظيم حملات توعوية والتعاون على مشاريع إعلامية مشتركة تعكس نبض الشارع.
في غزة، لا يُطلب من الإعلام أن يكون حياديًا أمام المعاناة، بل أن يكون إنسانيًا وصادقًا وجريئًا. غزة ليست فقط مشهدًا على شاشة، بل روح تبحث عن عدسة حرة. فإن أردنا أن نصنع التغيير، فعلينا أن نكسر الصمت، ونطلق العنان للكاميرا، ونعيد لغزة صوتها بكل ما فيه من وجع وكرامة وأمل.
سادسا- أزمة التعليم بدون إنترنت: حين يُحرم جيل من نافذة العالم
قطاع التعليم في غزة يواجه تحديات كبيرة في ظل الحرب والحصار، تجعل الطالب مرغمًا على الدخول في معركة يومية مع انقطاع الكهرباء، وضعف الشبكة، وأحيانًا غياب الإنترنت بالكامل، في عالم أصبح فيه التعليم عن بُعد ضرورة لا رفاهية. وبذلك يقف طلاب غزة عند عتبة العصر الرقمي وهم محرومون من مفاتيحه، حيث تتفتح أعينهم على عالم يُدار بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، لكن أياديهم ما زالت تمتد نحو كتب ممزقة، وأجهزتهم اللوحية – إن وجدت – تنتظر اتصالًا لن يأتي.
تعود أزمة التعليم الرقمي في غزة إلى مجموعة من الأسباب المعقدة التي ترتبط بظروف قاهرة مفروضة بقوة. فالقيود الشديدة على دخول الأجهزة التقنية من حواسيب وأجهزة راوتر ومعدات البنية التحتية تقطع الأمل قبل الأسلاك، وتفشل أي محاولة لبناء نظام تعليم إلكتروني حديث وفعال. كما أن ضعف البنية التحتية الناتج عن الانقطاع المستمر للكهرباء ورداءة الشبكة المحلية يجعل من الاتصال بالإنترنت مهمة شبه مستحيلة، لا سيما في المخيمات والمناطق الطرفية.
ويضاف إلى ذلك التفاوت الاقتصادي الكبير، حيث تعجز آلاف الأسر عن توفير جهاز واحد لكل طفل أو تحمل تكاليف الاشتراك الشهري، أو حتى شحن الأجهزة عند انقطاع التيار، ما يجعل الفجوة الرقمية أكثر اتساعًا بين غزة والعالم. ونتيجة لذلك، أصبح مستقبل جيل كامل مهددًا بالتجهيل، فبينما ينطلق أقران ذلك الجيل حول العالم في سباق المعرفة عبر المنصات الذكية والدورات الرقمية المفتوحة، يقف طلاب غزة خارج هذا المضمار، لا يعرفون من الإنترنت سوى اسمه.
في غياب التعليم التفاعلي، تغيب الفيديوهات التعليمية والتطبيقات الذكية والنقاشات الإلكترونية، ما يجعل التجربة التعليمية تقليدية ومملة وأقل فاعلية. ويُرهق المعلمون والطلاب معًا، حيث يضطر المعلم لطباعة الأوراق وتوزيعها يدويًا، بينما يسعى الطالب من بيت إلى بيت بحثًا عن شبكة واهنة، لتتحول العملية التعليمية إلى معاناة يومية. والأسوأ أن طلاب الجامعات يُحرمون من فرص التطوير الذاتي، فلا يستطيعون الوصول إلى الدورات العالمية أو المشاركة في المؤتمرات عبر الإنترنت، مما يحد من قدرتهم على المنافسة الأكاديمية والمهنية في عالم يتسارع نحو الرقمنة.
فرص حقيقية لمشاريع مؤثرة
- إنشاء نقاط تعليم رقمي مجانية: تجهيز مراكز مجتمعية صغيرة بخدمة إنترنت تعمل بالطاقة الشمسية وتوفير أجهزة بسيطة لتكون مراكز تعليم رقمي مجانية للأطفال.
- توزيع أجهزة تعليمية مجددة: عبر شراكات مع مؤسسات دولية أو مغتربين يمكن جمع أجهزة لابتوب أو تابلت مجددة وتوزيعها على الطلاب الأكثر حاجة.
- منصات تعليمية محلية غير متصلة بالإنترنت: تطوير تطبيقات أو سيرفرات محلية محملة بمحتوى تعليمي غني يمكن الوصول إليها من داخل المدارس بدون الحاجة لإنترنت خارجي.
- حملات دعم مجتمعية: إشراك القطاع الخاص والمبادرات الشبابية في تمويل باقات الإنترنت للعائلات الفقيرة أو توفير دعم تقني تطوعي للمعلمين.
سابعا- أزمة التمويل المالي: حين يُخنق الطموح في مهده
يعد ضعف تمويل المشاريع أحد العوائق الأساسية أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، حيث يعاني رواد الأعمال والمبادرون الشباب من صعوبة الحصول على التمويل اللازم لتحويل أفكارهم إلى مشاريع واقعية. تتسبب القيود المفروضة على التحويلات المالية، والحصار الاقتصادي، وانخفاض مساهمات المستثمرين، في تقييد فرص إطلاق مشاريع إنتاجية مستدامة. كما تفتقر البيئة المحلية إلى مؤسسات تمويل صغيرة فعالة أو برامج دعم متخصصة قادرة على احتضان المبادرات الناشئة، مما يؤدي إلى ضياع العديد من الفرص الابتكارية، ويحبط الطاقات الشابة رغم توفر الأفكار والحلول.
سبب تلك الأزمة ليس ناتجًا عن كسل أو غياب مبادرات، بل عن جدار من التحديات المالية والإدارية والسياسية. القيود على التحويلات البنكية والمساعدات الدولية تعني أن المال، مهما كان متاحًا، لا يصل بسهولة. الحصار المستمر يخنق الاستثمار، ويجعل من أي فكرة مشروع مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومع غياب مؤسسات تمويل صغيرة فعالة أو برامج احتضان مبتكرة، تُترك المبادرات الناشئة لمصيرها بلا أدوات أو إرشاد أو حتى تشجيع. أما المانحون الدوليون، فرغم أهميتهم، غالبًا ما يرتبط دعمهم بشروط سياسية أو بمواسم متقلبة، مما يجعل الاستدامة حلمًا صعب المنال.
نتيجة لذلك، لم يولد ذلك الواقع المرير اقتصادًا هشًا فقط، بل زرع الإحباط في قلوب الأذكياء والمبادرين الذين يسعون إلى إيجاد حلول لأسرهم ومجتمعاتهم في ظل الوضع المأساوي في غزة. وبذلك تُترك المشاريع الصغيرة عرضة للتوقف في منتصف الطريق، أو تُوأد وهي لا تزال في طور التخطيط. أما المجتمع، فيخسر فرص عمل ومنتجات محلية، ويخسر قبل ذلك كله فرصة إعادة ترميم واقع دمرته سنون الحروب والحصار.
فرص حقيقية لمشاريع مؤثرة
- تأسيس صناديق تمويل جماعي محلية تعتمد على مساهمات من المجتمع ورجال الأعمال المغتربين لتمويل المشاريع الواعدة بشفافية.
- إطلاق حاضنات أعمال ومسرعات متخصصة تستهدف القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا والزراعة والتعليم، وتربط رواد الأعمال بمرشدين وخبراء عالميين.
- تطوير منصات إلكترونية للتمويل التشاركي تربط أصحاب المشاريع بممولين في الخارج يتفهمون طبيعة السوق المحلي.
- إقامة شراكات مع الجامعات والمراكز البحثية لتحويل الأفكار البحثية إلى مشاريع قابلة للتطبيق التجاري.
- تشجيع التمويل الإسلامي غير الربحي مثل القرض الحسن والصكوك والوقف كوسيلة أخلاقية وآمنة لتمكين الشباب دون إثقالهم بالديون.
في غزة، لا ينقص الذكاء ولا تنعدم المبادرة لكن ما ينقص هو الجسر الذي يحمل هذه الإمكانات من ضيق الحلم إلى فسحة الإنجاز. ويعتبر تمويل المشاريع حق إنساني في الإنتاج والإبداع والبقاء. وإن كانت السماء هناك مثقلة بالدخان، فثمة عقول تحلم بنوافذ جديدة للنور تحتاج فقط إلى من يفتح لها الباب.