"أصلاً لا يستطيعون الدخول بريا!" لست أعلم من صاحب التصريح الجاهل، وأكثر المتحمسين للمقـاومة المسلحة بقليل من المعرفة يدركون أن الأمر لا يتعلق بالقدرة على الفعل، بل بإقرار تحمّل الكلفة والخسائر.

ما يجري منذ بداية الحرب هو شيك مفتوح من النزف البشري والاقتصادي والدبلوماسي لأجل غاية واحدة: "النصر المطلق" وتحت هذا المسمى هناك الكثير من التأويلات المبهمة.

لم تكن نقاشاتنا قبل الحرب تتحدث عن: هل يستطيع أم لا؟ بل عن متى يتخذ المستوى السياسي القرار، وغالباً حين تملك المقـاومة تفوقاً نوعياً يجعل تكلفة نزعه واحتلال غزة أقل من كلفة التعايش مع وجوده، فحينها سيتخذ القرار وسيدفع لأجله كل قوة ممكنة.

والمتابع للأحداث والمناورات العسكرية منذ 2021 يدرك أن المنطقة كانت تتحضر لسلسلة من العمليات العسكرية المعقدة والمكثفة لإنهاء حالة المقـاومة وتفكيك المحور، واستكمالاً للتصور الاقتصادي والسياسي، والتعامل مع التحدي الديمغرافي الذي يشكل أكبر تهديد وجودي على الكيان.

لذلك، رغم كل مفاجآت الحرب، لم تكن شرارتها مفاجأة تماماً، بل كانت بالنسبة للمستقرأ للأحداث متوقعة، مع اختلاف شكل البداية ومساراتها التي حملت الكثير من التغيرات والأحداث المفاجئة حتماً.

مع كثرة الحديث عن خطة تطويق غزة وقرار الاحتلال الشامل، أعتقد أن هذا كله تضليل، والسؤال الأهم: ما الذي كان يفعله الجيش منذ 21 أكتوبر؟ أَوَلم يصل جنوده إلى كل مناطق القطاع؟

لكن هناك مساران مهمان للأحداث:

المسار الأول مرتبط بما يحذر منه الجانب المهني في المؤسسة العسكرية والمتقاعدين، وهو الفخ الاستراتيجي، عبر تورط الجيش في مهام ليست من مهامه، أولها كان ملف المساعدات وخطة عربات جدعون، والذي انتهى بكوارث إنسانية فجّرت موجة غضب كبيرة ضد الكيان، ومعها نزف طويل للجنود، وبلا نهاية قريبة متوقعة للخروج من هذا الوحل، الأمر الذي سيفجّر مزيداً من الأزمات لجيش يقاتل منذ 22 شهراً بلا توقف، أمام شعب بدأت ظاهرة التمرد تظهر عليه وقد كسر بالفعل حاجز الخوف والرهبة من آلة الموت.

المساعدات أبرزت ظاهرة خطيرة لدى الجيش، إذ أصبح المواطن يلتصق بالآليات والجنود والحدود الحمراء ومناطق الخطر، غير مبالٍ بالموت من حوله! هذه الحالة خليط بين اليأس والغضب لا يمكن التعامل معها حتى بفرط القوة التي استخدمها العدو منذ 22 شهراً. وكما يقال دائماً: "تجنب محاربة من ليس لديه شيء يخسره"، وهذا حال الفلسطيني في غزة اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ مثقل بالجوع والثأر، وبلا أفق أو مستقبل.

المسار الآخر مرتبط بعقلية بعض المرضى والمهووسين بالضم والتهجير والتطهير العرقي من مقرري السياسات، والذين يبصرون المخاطر التي تتعاظم جراء هذه السياسات المتطرفة، لكن العمى الأيدولوجي يدفعهم للهروب للأمام، والمزيد من التطرف في السلوك والأفكار. وهذه العقول لا يمكن أن تنتج استراتيجيات ناجحة، لأن كل الإنجازات الميدانية التي يحققونها تكلفهم في المقابل خسائر استراتيجية فادحة، تهدد كيانهم ومنظومتهم، وتزيد من حالة الغرق التي افتتحوها بشعارات **"نصر مطلق، تهجير الفلسطينيين، الاستيطان"** وغيرها، ومع الوقت تنفجر في وجوههم. ومع كل خسارة استراتيجية، يزيد العناد والتطرف ومواصلة المسار إلى آخره، حيث لا آخر إلا مزيد من التيه والغرق في أزمات يكون قد تأخر الوقت تماماً على معالجتها واستدراك الأخطاء الكارثية فيها، والعودة إلى المسار الصحيح من جديد.

من يقود الكيان اليوم هم نسخة كربونية من قيادة النازية الألمانية، بنرجسية زعيمه، وعقدة التفوق لدى مجتمعه، والمعادلات الصفرية، وأيدولوجيتهم العدمية. وغزة اليوم أشبه بـ"ستالينغراد"، يدفعون في وجهها كل ما يملكون من قوة بلا رحمة أو هوادة، وتقاتلهم ببسالة وإرادة، وتنزف من كل مقدار عقلة أصبع في جسدها، لكنها لا تملك ترف الاختيار، حتى الاستسلام لا يوقف نزفها ولا نوايا عدوها لاغتيالها شعباً قبل مقـاومة، ورميها في مهالك التيه وصحراء الفناء والعدم.

لست قلقاً على ما ينتظرنا في قادم الأيام، لكنني مع الوقت يتحول في أعماقي شعور الخوف إلى الكثير من الغضب، وتتجول في خاطري قائمة الثأر، وتقترب من مخيلتي صورة هزيمتهم، التي ستكون أبلج من فلق الصبح ولون السماء، أوضح من أن يُعاد تدويرها هذه المرة على هيئة صورة نصر مزعومة، هزيمة ستعجز كل مساحيق الدبلوماسية والسياسة والحلفاء وحتى الصهاينة العرب عن تجميلها.

القاعدة الأهم: أن شوكة الاحتلال لن ينزعها من جسد فلسطين إلا أبناؤها، وكل الصور المتخيلة حول فتح عربي بجيوش ممتدة ليست إلا مشهداً عبثياً في وقائع قلبت فيها الحياة، ستكون فيها غزة المحررة للعقل العربي المتجذر في ثقافة الهزيمة والعجز، وإرادته التي تملك كل مقومات النصر إذا ما نوت واتخذت القرار.