مشكلة الطوفان الأساسية هي البيئة الإقليمية التي لم تكن في صالح الفلسطيني، وهذا ما صعّب المهمة، وفي المراجعة المجرّدة للأحداث يبدو هذا الوصف صحيحًا ودقيقًا، وكان الثمن طول أمد الحرب دون رادع وتفجّر أحلام اليمين المتطرف وصولًا ليس فقط إلى تنفيذ الإبادة بل وتحول أطماع التمدد الجغرافي خارج فلسطين المحتلة من الأحلام والفعل الصامت إلى التطبيق الفعلي والمتعجّل، حتى على اعتبار أن كفّة الظروف تميل لصالحهم، وأن كل الأضرار الجانبية الناجمة من وراء هذه الجرائم الكبرى مع فرط القوة والردع الحاسم والدعم الأمريكي المفتوح، سيكون من السهل ترميمها والتعامل معها.

لكن، قبل الخوض في أطماع اليمين المتطرف، علينا أن نجيب على سؤال أكثر أهمية: متى توفرت ظروف تخدم الموقف الفلسطيني وبيئة إقليمية مهيأة لاستثمار نضالاته وتحويلها إلى رصيد سياسي يقترب من تطلعات الشعب المتشظي بين الداخل والشتات؟!..

والإجابة في الغالب ستكون سلبية، حتى بعد 67 والمؤتمرات العربية الصقورية، لم تكن الدول مستقرة ولا جادّة في انتزاع إسرائيل من الوجود، وأعلى سقف كان اتفاق فض الاشتباك وحرب 6 أكتوبر التي أفضت إلى اتفاق سلام، وكانت الخسائر الاستراتيجية لمصر من ورائه أكبر بكثير من المكاسب المرجوة من تطبيع العلاقات مع الكيان، وكان سقف السادات حينها أقل من أقدام جنوده البواسل في الميدان.

من بعدها دخل المحيط العربي في حالة من التراجع، ظلّ فيها الضغط على الثورة الفلسطينية يتعاظم وصولًا إلى حصار بيروت الذي شعرت فيه القيادة الفلسطينية أنها يتيمة بلا سند أو ظهر، إلا قلّة من الرفاق اللبنانيين الذين قاتلوا معهم حتى آخر طلقة.

ومن بعدها تسارعت الانهيارات في هذه البيئة الإقليمية: من أوسلو ووادي عربة وتطبيع قطر 96، وصولًا إلى الاتفاقات الإبراهيمية التي كانت في ذروة غطرسة العدو وتماديه في ضم القدس والجولان وخطة سموتريتش لضم الضفة الغربية بالكامل، وتذويب القضية الفلسطينية على اعتبارها حجر عثرة في طريق التطبيع الاقتصادي للأنظمة العربية، وتحديدًا الخليجية. وهذا ما كشفته غزة من تعاظم حجم التبادل التجاري العربي مع الكيان، ودعم بعض الأنظمة لخطة تهجير غزة طمعًا في منافق اقتصادية.

هذه البيئة الإقليمية كانت في حالة انحدار وتهاوي متسارعة، وإن كانت لا تخدم الفلسطيني في تشرين 2023، فإنها لتكون أكثر بؤسًا وسوءًا وعدائية بعد عام أو اثنين أو أكثر!.

ولهذا، كنت أرى أننا متأخرون جدًا في تفجير الموقف، وكان الأولى أن نستثمر في انتفاضة الأقصى والحفاظ على نسقها حتى تحقيق الحد الأدنى من المكاسب الوطنية. ولكن حتى الوضع الفلسطيني تبدّل لصالح الموقف الإسرائيلي، وتحولت قيادة الثورة مع الوقت إلى ملف في أصغر درج في وزارة خارجية سلطة لم تحقق شرط الحكم الذاتي حتى!..

ما بدأ في تشرين 2023، هو محاولة لتصحيح المواقف الخاطئة الأخلاقية والوطنية، وحتى العملياتية والاستراتيجية، ليس فقط للفلسطيني، بل حتى للعمق العربي الذي يعيش أسوأ لحظات ضعفه وتبعيته وانتزاع إرادته الشعبية ومواقفه الاستراتيجية، التي تكبّلها الانجرار إلى وهم وسراب الفلك الأمريكي، الذي لن يمنح الدول العربية إلا المزيد من الخسائر واستنزاف الموارد، ومراكمة الأزمات والأعباء على كاهل الشعوب في لحظة انفجارها وأخذها لزمام الثورة والتغيير.

القضية الفلسطينية اليوم في أفضل أحوالها، وعلى النقيض يعيش الكيان رغم كل الإنجازات المادية أسوأ أيامه، وقد تآكلت ليس فقط شرعية حربه، بل حتى شرعية وجوده، وفي أكثر العواصم الداعمة له. هذا الموقف لن يمحوه بعض حركات العلاقات العامة التي كان يجيدها نتنياهو حين شغل منصب ممثل الكيان في الأمم المتحدة، ولن يستطيع التعافي منه، وقد بدأ بالتحوّل بالفعل إلى عبء على داعميه، ودخل في حالة من العمى الاستراتيجي والتطرف، تزيد من عزلته والخوف من خطر استمراره على البيئة المجاورة، وعلى النظام الدولي الذي يتهدده انفجار المزيد من الأيديولوجيات المتطرفة، في حال استمر هذا الكيان بهذه العقلية وهذا السلوك.

هل هذا يعني أننا نكسب؟

لا يمكن تجاهل الخسائر التي تحمّلناها والتضحيات العظيمة، وعلى رأسها غزة التي لم تتضح بعد ملامح مستقبلها، حتى مع بوادر هدنة قريبة. ولكن طول أمد الحرب الذي كلّف غزة آلاف الشهداء والجرحى والدمار وقتل الحياة فيها، قد أعاد للقضية الفلسطينية الحياة من جديد، وبسقوف أعلى بكثير من أي وقت مضى، ونداءات تطالب بإسقاط دولة الاحتلال وشعارات "من النهر إلى البحر".

وهذا ليس كافيًا، ولكن يمكن وصفه بمرتدّة قوية في مرمى المشروع الصهيوني في المنطقة، وخطوة في الاتجاه الصحيح وأرضية يمكن البناء عليها لتحقيق المزيد من الإنجازات الوطنية. وبمجرّد أن تهدأ الحرب في غزة، غالبًا ستبدأ ارتدادات صمود أهلها وبسالتهم في الظهور في عمق الكيان وفي البيئة المحيطة، التي ستتغير لغير صالح الكيان ومشروعه، ولغير صالح الأنظمة الهشّة والفاسدة بطبيعة الحال، أو أن تغيّر الأنظمة سياستها تدريجيًا لصالح أمنها القومي، الذي يصطدم تمامًا مع حلم إسرائيل الكبرى في المنطقة.

هل هذا سيحدث يقينًا؟ لا شيء يقيني على الإطلاق.

والسؤال: هل الرهان على ارتداد 7 أكتوبر كان يستحق كل هذه التضحيات؟

في الحقيقة، لم أجد ثورة تتعامل مع تضحياتها بمنطق التجار وأصحاب الاستثمارات، متى تراجع الربح أو تعاظمت الخسائر يتوقف المشروع. وما التضحيات العظيمة إلا انعكاس لوحشية العدو وغريزته القبلية والانتقامية وتطرفه، وهذا لم يكن مجرد فعل، بل إن المتتبع لجرائم العدو يدرك حجم إجرامه ووحشيته المزروعة في جيناته منذ أول قدم وطأت هذه الأرض.

يكفي أن نستحضر غزو لبنان 1982. خلال 80 يومًا فقط ارتكب العدو كل الموبقات والجرائم: من قصف الملاجئ والتجويع والتدمير والإبادة. تجاوز عدد الشهداء خلالها الثلاثين ألفًا، دون الخوض في جرائم ما بعد انسحاب المقاومة الفلسطينية وسنوات من الإجرام في جنوب لبنان، حتى انسحب منها صاغرًا دون قيد أو شرط.

لا أبشركم بالنصر، رغم أني أراه مع كل ما يجري أقرب من أي وقت مضى، والحرب لم تنتهِ بعد، ولا يزال مسارها طويلًا ومفاجآتها أكبر. وما نقوم به محاولة قراءة الأحداث بتروٍّ واستعراض الصورة الأوسع من مأساة غزة ومحرقتها اليومية.