هل يمكن أن يظل الصوت حيًّا بعد أن يُوارى الجسدُ الثرى؟ وهل تتحول الكلمات إلى دم نابض حين يوقع صاحبها بآخر سطر من حياته شهادة خالدة؟ هذا ما نتأمله مع الشهيد سامر الباز أبو عمر، الذي انتُشل جثمانه يوم الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 من تحت أنقاض مسجد السلام بدير البلح، بعد أن ظلّ عامًا ونيفًا تحت الركام منذ قصفه الاحتلال يوم 19 أكتوبر 2023. أين وجدوا الجسد كما هو، والدم ما زال ينزف منه؛ وأي كرامة هي؟
 من هو سامر الباز الذي قال في أحد جلسات عمران: "كل شيء يهون من أجل الله تعالى ثم من أجل مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ ولماذا بقيت كلماته تتردّد بعد رحيله، وكأنها تُعِدّنا مسبقًا لوداعه الكبير؟

شركاءُ الأجر… من غزة العزّة إلى رجال الأمّة

في 20 مايو 2021، جلس سامر الباز أمام الكاميرا في ندوة مباشرة بعنوان: فلسطين بوصلة الأمة، والتي نظمتها مؤسسة عمران بالشراكة مع منتدى كوالالمبور. بدأ سامر حديثه بعبارات تمتلئ خشوعًا وشكرًا وتواضعًا وهو يواسي الدكتور البشير عصام المراكشي "جزاك الله عنا خيرا وأنت بإذن الله لست من القاعدين، على نيتكم الطيبة تأجرون بإذن الله، وعلى دعائكم الصادق تأجرون، وما باليد حيلة. وأذكرك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم" وفي رواية "إلا شاركوكم في الأجر".
تأمل وهو في عز القصف، يشدّ من أزر العلماء والمفكرين، كأنه يذكّر أن المعركة على جبهات الفكر والدعوة والدعاء لا غنًى عنها.

"لا تستهينوا بأفعالكم" خطاب من غزة إلى القدس والعالم

ما لبث أن التفت نحو المقدسيات، بخطاب يفيض تقديرًا:  "وكذلك أشكر أمنا المرابطة المقدسية هنادي الحلواني، وأقول لا تستهيني بأفعالك أنت وأخواتك المقدسيات، نحن هنا غزة وفي كل العالم نتعلم منكم الكثير من الصبر والصمود والعزيمة." أليس لافتًا أن الرجل المحاصر بين القصف والدمار يشدّد على أن الأفعال في القدس، ولو بدت بسيطة عند أصحابها، هي وقود لأمة كاملة؟
انتقل إلى صمود غزة في معركة سيف القدس والتي كانت لا تزال في بدايتها، وكان يتحدث بلغة الأرقام الصادمة ويُلبسها ثوبًا إيمانيًّا مُتعاليًّا على الألم: "صمود الشعب الغزي ليس حديثا بل قديم جدا، فقد سطروا للعالم بأسره هذا الصمود العظيم الذي لا مثيل له، خاضت غزة خلال اثني عشر سنة أربعة حروب، وصمود أهلنا في غزة إن دل على شيء يدل على عظمته ومكارمه عند الله عز وجل، لكن هذا الصمود غير الطبيعي، الصمود الذي هو فوق الاستطاعة كما نقول لابد أن له أسباب".
وهنا يتوقف القارئ: كيف يمكن لشعب يواجه هذا النزيف أن يواصل الحياة بل ويعطي العالم دروسًا في الثبات؟ 

أسرار الصمود الثلاثة

لم يترك الشهيد أبو عمر صمود غزة معلَّقًا على العاطفة، بل فصّله في ثلاثة أعمدة متينة، تسند بعضها بعضًا. وكأنها سلّم يرقى به الغزّيون من قسوة الواقع إلى رحابة المعنى.

السبب الأول: الإيمان بالله تعالى

"نحن في غزة كنا نرضع مع حليب أمهاتنا العقيدة وحب الله تعالى وحب الوطن ومكانة وقداسة المسجد الأقصى، وتربينا على القرآن الكريم، وتعلمنا آيات الجهاد، وتدارسنا في بيوتنا ومساجدنا أحاديث الصبر والشهادة والقتال، والذي يقاتل عن العقيدة دائما هو الأقوى، كل إنسان غزاوي في نفسه أنّ الله معنا".
من هنا تبدأ الحكاية: إيمانٌ يرضعه الطفل، فيكبر وهو يرى أن العقيدة زادٌ يُقوي الروح ساعة البلاء. 

السبب الثاني: نحن أصحاب الحق

"الصمود الذي تسألون عنه ونحن في هذه الظروف التي تحدث والقصف العشوائي والجنوني، وعائلات بالكامل قد مسحت من السجل المدني الفلسطيني، مرده أننا في فلسطين أصحاب قضية، وقضيتنا هذه قضية عادلة لا أحد يستطيع أن يشكك فيها، ونحن أصحاب الحق، وصاحب الحق دائما هو الأقوى".

السبب الثالث: نحن نشأنا في هذه البيئة المُقاومة

"كبرنا بين صوت المدافع والطائرات والقصف، ترعرعنا على حب الجهاد والمجاهدين وكل من يدعم هذه القضية من المسلمين، ومن هنا أوجه رسالة نيابة عن نفسي وعن أهل غزة العظماء إلى كل أحرار العالم، جزاكم الله عنا خيرا رأيناكم في كل العالم عندما خرجتم نصرة لفلسطين ولغزة، إخوتي وأخواتي في كل العالم لا تستهينوا أبدا بأفعالكم، فقد كانت لهذه المسيرات والحشودات والهتافات الأثر الكبير في نفوسنا، وقد زدتم من عزيمتنا وقد رفعتم من همتنا".
غزة تصمد بالإيمان وبقوة الحق، وبالتنشئة المُباركة، وتستمد من صرخات الأحرار حول العالم نفسًا جديدًا وعزمًا. 

حين يهون كل شيء

ثم ينقلنا سامر إلى الحافز المعنويّ:  "لقد كان للمقاومة والإعداد الأثر الكبير في نفوس الأهالي، فعندما نرى صواريخنا التي صنعت بالدماء ورفعت بالأشلاء وضربت بالدعاء تصل إلى أراضينا المحتلة من شمالها إلى جنوبها من شرقها إلى غربها، يهون علينا كل شيء، من استشهد أبيه ومن فقد ابنه وفقد بيته وفقد زوجه، عندما يرى هذه الصواريخ وهذا التطور لا شك أنه يهون عليه كل شيء، كل شيء يهون عليك عندما نرى هذه العزة، كل شيء يهون من أجل الله تعالى ثم من أجل مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم". هذه الكلمات أصدق تفسير لسرّ التماسك، حيث يتحول الألم إلى الشعور بالعزة.

الوجهة واحدة! 

وعن معركة سيف القدس، يقول الشهيد بملء اليقين:
"نعم لا شك هذه المعركة التي تجري والأحداث في القدس نقطة تحول عجيبة ونقطة تحول مباركة بإذن الله تعالى، هذه المرة في غزة وأهلنا في الضفة هبوا جميعا من أجل نداء الله تعالى ومن أجل نصرة المسجد الأقصى والدفاع عن أهلنا في حي الشيخ جراح، فهذه لم يكن لها سابقة منذ زمن طويل أن يجمع أهل غزة والضفة في نفس الوقت وفي نفس المواجهات."
في هذا التصوير يضع الشهيد إصبعه على لحظة نادرة في تاريخ فلسطين المعاصر: لحظة التقاء غزة والضفة على كلمة سواء. وهي إشارة إلى أن جذوة القدس قادرة على توحيد ما فرقته السياسات وما مزقته الجغرافيا.

"هذه المعركة هبت من أجل الله تعالى ثم من أجل القدس دفاعا عن أهلنا هناك، ثم إنّ هذه المعركة استثنائية إذ أن كتائبنا المظفرة هي التي حددت بدء المعركة عند الساعة السادسة، وهي التي حددت الوجهة وهي القدس، وهي التي تحكمت في المعركة، عندما أصدر أبو خالد الضيف قائد الأركان مهلة ساعتين لأبناء القردة والخنازير قبل أن يدك معاقلهم."
يبلغ الخطاب ذروته من وضوح البوصلة ووحدة الصف ومركزية القدس وبشارة التحرير. فإذا اجتمعت وُلد وعي جديد يخرج الأمة من دائرة الاستنزاف إلى أفق التحرير. وفي هذا الإدراك يكمن سرّ نبرة اليقين التي ختم بها الشهيد حديثه، وكأنه كان يستشرف بما رأى من عزيمة شعبه ملامح الغد الذي وعد الله به عباده الصابرين.

"وهذه المعركة استثنائية لأن البوصلة كما ذكرنا واضحة في الداخل وفي الخارج، كل الشعوب وكل الفصائل توحدت من أجل الله ثم من أجل القدس، ويرى أكثر أهل غزة بأنّ هذه المعركة هي بداية التحرير الذي وعدنا به بإذن الله تعالى، وأنا سمعتها من كثير من أبناء شعبنا في الفترة الماضية."
ما قاله سامر لم يمرّ مرورًا عابرًا، بل تردّد صداه على لسان المرابطة المقدسية هنادي الحلواني التي أيّدت كلماته وأثنت عليه قائلة:
 "وأيضا كما قال الأخ سامر، الوقفات والمسيرات والتظاهرات إنها والله توصل إلينا رسائلًا عظيمة جداً، فلا تستهينوا بها، إنها توصل الرسائل للمحتل الذي يراقبها ويترقبها، ويخاف ويقلق منها لأنه يعلم حقاً أن القدس ليست للمقدسيين، وفلسطين ليست لمن يعيش بمدينة القدس، إن أبنائها في كل مكان في العالم هبوا لنصرتها، وأيضا تعطي الرسائل بأننا لسنا وحدنا في مدينة القدس، وأن الاحتلال لن يستفرد بنا، كما يظن أنه قد قسمنا وشرذمنا وقام بتقسيم فلسطين إلى غزة والضفة، وإلى داخل فلسطين وأهل القدس…".

من سيف القدس إلى طوفان الأقصى

حين نقرأ كلمات الشهيد اليوم، لا يمكننا فصلها عن طوفان الأقصى، فقد تحققت بعض معالم ما استشرفه: المبادأة كانت بيد المقاومة، والوجهة كانت القدس، والبوصلة لم تعد غائمة كما كانت من قبل.
ومع ذلك، فإن ما تمناه من وحدة الصف الداخلي والتفاف الشعوب والأمة لم يكتمل؛ فغزة التي تُواجه لوحدها أبشع آلة حرب، وتخلّى عنها كثير ممن كان يؤمَّل في نصرتهم. بينما المعركة طويلة، والتحرير يمرّ بمراحل، والبوصلة يجب أن تبقى في كل حال ثابتة على القدس، حتى لو تفرق الناس وخذل القريب قبل البعيد.