يقول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
ليس من شأن الله سبحانه، وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنّته أن يدَع الصفَّ المسلم مختلطاً غير مميز؛ يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورًا كونيًا كبيرًا، ولتحمل منهجًا إلهيًا عظيمًا، ولتنشئ في الأرض واقعًا فريدًا ونظامًا جديدًا. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل ولا في بنائه دَخَل؛ وبعبارة مختصرة: يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدّره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدّها الله لها في الآخرة.
يقول الله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾
فليس كالمحنة محكٌّ يكشف ما في الصدور، ويصهر ما في القلوب، فينفي عنها الزيف والرياء، ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء. فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ليظهر على حقيقته، وهو التطهير والتصفية للقلوب فلا يبقى فيها دَخَل ولا زيف، وهو التصحيح والتجلية للتصوّر فلا يبقى فيه غبش ولا خلل.
يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾
أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ويعتدون على أهلها. فالباطل متبجّح، لا يكفّ ولا يقف عن العدوان إلا أن يُدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول. ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بد من القوة تحميه وتدفع عنه. وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾
وفي الآية يتجلى عدل الله، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف. فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه، ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف، وهو يعلم ضعفه وما ركّب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان، فيعفو عن كثير رحمةً منه وسماحة.
يقول الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾
والابتلاء بالأساس ينقسم إلى خير وشر. فالابتلاء بالشر مفهوم أمره؛ ليتكشف مدى احتمال المبتلى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته بربه ورجائه في رحمته. أما الابتلاء بالخير فهو أشد وطأة، وإن خُيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشر. فكثيرون يصبرون على المرض والضعف، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الصحة والقدرة ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم. وكثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان وما يغريان به من متاع وشهوات وأطماع. لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء. فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان.
يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾
أحسب الأبرار والأخيار والصالحون والعلماء والدعاة أن الإسلام ادعاء، وأن "لا إله إلا الله" كلمة تقال فقط؟! إذاً كان يدعيها المدّعي، ويفتري بها المفترى، ولا يُميز بين المؤمن والمنافق والصادق والكاذب. ولكن أبى الله إلا أن يميز بين الصنفين:
يقول تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ﴾
الله هو الذي يقذف بالحق على باطل الشائعات والمفتريات والأطروحات، وباطل الكلمات الكاذبات، فيدمغه فإذا هو زاهق. ويقول تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
وقال جل اسمه: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ۗ أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾
وقال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾
إن هذا الدين صعب المراس، لا يؤتى لكل أحد إلا بابتلاء. ومن أسرار خلوده أن يستقر مع المبتلين في الأرض؛ فيظهر الله صدقهم ونصحهم ووضوحهم، ويعلم الله ثباتهم.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قِيلَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾
يقول ابن القيم رحمه الله: "يا ضعيف العزم! الطريق شاق طويل؛ ناح فيه نوح، وذُبح يحيى، واغتيل زكريا، وطُعن عمر، وضُرج عثمان بدمائه، وقُتل علي، وجُلدت ظهور الأئمة وحُبسوا. لماذا؟ ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ ولكن من الحق؟ من القوي؟ هو الله جلّ في علاه."