دائرة الهداية:
هي دائرة الدعوة والتربية والإيمان والرسالة، وعدد من فيها سيبقى قليلا إلى يوم الدين يقول الله تعالى :((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين))يوسف103 ، بل إن أكثر المؤمنين فيهم دخن (( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون٠))يوسف 106.، وهذه الفئة ستبقى موجودة بإرادة الله ورعايته لكي تبقى الحياة، فما استمرار الدنيا إلا من أجلهم على قلتهم، وحينما يأتي ميعاد نهاية هذا العالم السفلي يأخذ الله آخر واحد منهم ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق عند الله)) حديث صحيح رواه الحاكم. ولا نطيل الحديث عن هذه الدائرة لأن الذين أكتب لهم هذا المقال يعرفونها جيدا، وقد اكتفيت بالإشارة إلى هذا المعنى المهم الذي لا يعرفه أكثرهم.
دائرة القيادة:
وهي دائرة السياسة، القائد فيها والمقود، فالسياسة هي التي تقود الدنيا، وهي التي تصنع التاريخ، فما تاريخ الدول إلا تاريخ ساستها ودولها ومؤسساتها ، وما الإنجازات الحضارية إلا منتوج إدارة الدول والمجتمعات، ودائرة القيادة يوجد فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، غير أن المؤمنين والصالحين فيها قلة، ولكن رغم قلتهم يستطيعون الظهور على غيرهم إذا ما فهموا أن لا غلبة فيها إلا باتباع السنن الإجتماعية والأخذ بأسباب القوة والنفوذ.
إذا أخذ الفجار بزمام المبادرة كانت الدنيا لهم وكانت عندئذ ظلما وفسادا مهما تراكمت منافعها المادية، وهو حال العالم اليوم، وإذا كان الصالحون أهلا للقيادة تمكنوا، فيسعد الناس حينئذ في الدنيا، ومن آمن منهم فاز في الآخرة. وعلى هذا الأساس إذا أعتقد المؤمنون والصالحون بأنهم يستطيعون قيادة الدنيا فقط لأنهم مؤمنون صالحون فهم مخطئون، وإن ارادوا استعمال الدين للتمكن في الحكم فهم مجانبون للصواب وللفهم الصحيح للإسلام ، ولا محال سيفشلون.
إنما تؤخذ الدنيا غلابا، بالإعداد وحسن السياسة والإدارة وأن يكون دهاء ومكر الصالحين أكبر من دهاء ومكر الكافرين والفاسدين والظالمين. وحين يقول الله تعالى:(( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ))الفتح 28
لا يعني هذا أن الناس جميعا يدخلون الإسلام، فهذا أمر مستحيل وإنما المقصود أن يكون الإسلام هو الغالب وهو الأقوى والأظهر لكي لا تفسد الدنيا فسادا مطلقا قبل الأوان الأخير ولكي تحفظ كرامة الناس، مسلمهم وغير مسلمهم. ستبقى المعركة في الحياة الدنيا بين قادة الخير وقادة الشر والناس بينهما تبع. وأكثر هؤلاء الناس يتبعون من يضمن مصالحهم وطموحاتهم، والولاء الذي يظهرونه في فترة من الفترات لهؤلاء القادة أو أولئك أغلبه كاذب. إنما هو تموقع وفق توقع المصالح، سوى قلة جاءت من دائرة الهداية بالتربية او بالفطرة تناصر قادة الحق لأنهم على الحق، و من كانت عصبته هؤلاء فقد أفلح ونجح.
لن يستطيع قادة السياسة الذين ينتمون إلى دائرة الهداية أن يفرضوا أنفسهم في دائرة القيادة إلا إذا أيقن أغلب الناس بأن مصالحهم الدنيوية في هؤلاء الصالحين، إما بخدمة الناس بصدق وتفان إذا كانوا في الحكم ، دون النظر إلى دينهم وانتمائهم وثقافتهم، أو بقناعة أولئك الناس في مصداقية هؤلاء الساسة القادة بأنهم قادرون على تخليصهم من ظلم وبؤس هم فيه، أو على تحسين وضعهم أفضل مما هم عليه. وفي مواجهة قادة الشر لا يجب على قادة الخير أن يتترسوا بالشعب فحسب فقد يجلبوا لهذا الشعب المهالك، بل هم أنفسهم سيشيطنون بعدما كانوا على الحق إن فعلوا ذلك في غير وقته وبلا كفاءة وحسن تدبير، وقد وقع هذا في القرن الأول من التاريخ الإسلامي وهو يتجدد في كل مرة، مثلما حدث في الجزائر في بداية التسعينيات وحدث في مصر مؤخرا. لا تكون المواجهة بجحافل الشعوب فقط، حتى وإن كانوا صادقين في مناصرة الحق في تلك اللحظة.
إن قوة الشعب هي ولا شك الأضمن والأبقى خصوصا إذا كان الشعب واعيا مؤمنا بقضيته وفقا لقوله تعالى: ((هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين))، صادقهم أو من كان مؤمنا ولكن في إيمانه دخن، ولأهمية الشعب في معادلة التدافع يتصارع قادة الخير والشر على كسبه في كل وقت، غير أن استعمال هذه القوة في غير وقتها دمار وفناء.
إن قوة الشعب ليست قوة كفاح من أجل التغيير ولكنه قوة حسم في لحظة التغيير حين يأتي أوانه.
فلا بد أن نتذكر بأن الناس لم يدخلوا في دين الله أفواجا إلا بعد فتح مكة. قبل لحظة الحسم على قادة الحق أن يكونوا في مستوى الإعداد، وأن تكون لهم القدرة على التضحية، ولو بأنفسهم ومصالحهم من أجل الحق، دون ربط انتصار الحق بزمن من الأزمنة وفرصة من الفرص، وبداية الإعداد توفر الفكرة الأصيلة النابعة من دائرة الهداية، والبرنامج المناسب الذي يخدم مصالح الناس، والرؤية الثاقبة التي تسدد السير، وأهم ما في الإعداد بعد ذلك تأهيل الموارد البشرية، خصوصا في الصف القيادي، ليكونوا في مستوى إدارة الصراع، بأخلاق الدين ولكن بأدوات الدنيا، لأن حسن إدارة الصراع هي التي تجعلك تنتصر ولو كان خصمك أقوى منك ألف مرة.