في عالمٍ متسارعٍ، تُعتبر فيه المعلومات هي الأكثر رواجًا وتداولًا وتضاربًا في ذات الوقت، ذلك أنّ الواقع اليوم فرض إيقاعًا مُختلفًا ما بين الصراعات غير المُتكافئة إلى التحالفات والتكتُلات، وقد لعبت المعلومات الدور الأكبر كوسيلةٍ ناعمةٍ تستغلها القوى العالميّة  في فرض رُؤاها على باقي الدُول المُستضعفة لإبقائها في ربقة العبوديّة، وكوسيلةٍ تستغلُها لبسطِ نفوذها وتوسعتِه.

مع هذا التجاذب العالميّ، تعتبر المعلومات من عواملِ الذكاءِ الإستراتيجي التي تُحقق للأمُم تموقُعًا مُتقدمًا في خارطة الصراع، حيثُ تُمكّنُها من استيعاب واقعِها، ومواكبة التغيّرات التي تزدادُ ترنحًا ما بين السيئ والأسوأ، بل لا تكاد تعرف ثباتًا من فينةٍ إلى أخرى.

إنّنا لا نكادُ نُعْدَم وفرةً للمعلومات، وقد نُشفق على حالنا من كمّها الهائل الذي زادنا خبالًا وتشتُتًا، قد نروّج لها، نُصَدّق أغلبها، وننفثُ بعضها، لكن لم نكن لنُعطيها رقمًا في معادلة التغيير

إننّا نكتفي بالقراءة السطحيّة التي تزيدُ من أزماتنا عُمقًا، وقد نعرضها بكلّ جفاءٍ كأخبارٍ عابرةٍ تكاد تكون عادةً يومية لا تُحرك فينا عقلًا ولا تستنهض يدًاوغيابُ مراكز البحث التي تُعالج تلك المعلومات بجودةٍ لَمظهرٌ ماثلٌ أمامنا لا يحتاج دليلًا ولا حتى تذكيرًا.

إنّ الناظر في الواقع العربي الإسلامي يُدرك كيف أنّ تلك التحليلات السطحيّة قد جرّت الهزائمَ التي لا تُحصى للكثير من دعاةِ النّهضة تياراتٍ وجماعاتٍ، كيف أنّ أغلب القرارات قد اتُخذت بمنأى عن الواقع المتغيّر، فجلبت الويلات التي زادتنا انحطاطًا وما زال أثرها إلى يومنا هذا.

نكتفي بسرد الأخبار وتتبُعها، في حين يجدُر بنا أن نقرأ الواقع بكلّ جديّة وحزم، وأن نُوفر إحصاءات دقيقةٍ ومؤشراتٍ حساسةٍ تساعدنا في فهم الواقع وتغيُراته بالمعالجة الكميّة العدديّة، فالتغيير الحضاري يتطلّب أن نعرف موقعنا أولًا، أين نحن؟ ندرس واقعنا بأدقّ قواعد البحث العلمّي، ونُمعنّ النظر رصدًا وتكميمًا وتوصيفًا.

نستذكر التجربة النبويّة التي تُعدّ ثريّةً ومدعمةً لهذا الطرح، فقد حرص القائد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المؤيَّدُ من السماء على دراسة الواقع رغبةً في تغييره، ومعرفة قوّة العدو في كلّ غزواته اتخاذًا منه للأسباب وضمانًا للانتصار، فها هُو ذا في غزوة بدرٍ حينمَا همّ بنّفسه يستطلع قوّة قريش، فيسأل غلامين: (كم القوم؟) فيُردّان: (كثير)، هُنا ما اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفٍ عام لا ينبني عليه أيّ إجراء وتأهب، فأردف بالسؤال: (ما عدّتهم؟) إصرارًا منه للحصول على مُعطى كمّي، فقالا: (لا ندري!)، مع غياب المعلومة بشكلٍ دقيق، ما كان للرسول أن يُقبل على الغزوةِ وهو جاهلٌ لعدوه، بل سعى مُجددًا للحصول عليها، فيسألهما: (كم ينحرون كلّ يوم؟)،أجابا: (يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا)، حينها أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم عدّتهم: (القوم ما بين التسعمائة والألف)، إنّ استخدام الرسول لعدد الإبل لمعرفةِ عدّة الجيش التي تعتبر معلومة غير متوفرة، يُسمى في عصرنا بالاستدلال الإحصائي، حيث نستدل بجزءٍ معلوم لننتقل إلى الكلّ المجهول.

كذا (صلح الحديبية)، مثالٌ آخرٌ يُوحي إلى أهمية الوعي بتغيّرات المرحلة، والتفقُه بفقه الواقع والموقع، من خلال إدراك الإمكانات الواقعيّة والتحديّات القائمة في إطار التفكير السُنني، والمناورةِ بالمُتاح للحصول على مكاسب أكثر، لم يكن هينًا على الصحابة أن يُحرَمُوا من الطوافِ بالبيت العتيق ست سنواتٍ، ومنهم المكيّ المُهاجر المُشتاق، وابن المدينةِ المتحمّس اللَهِف، لكن حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وصبر الصحابة على مضاضةٍ حققا فتحًا مُبينًا، فبدل أن يدخل المسلم مكةً زائرًا معتمرًا، دخلها فاتحًا مستقرًا.

كان الصلح بداية تحوّلٍ تاريخي للخروج بالرسالة المُحمديّة من ضيق الوجود إلى فسيحه، ومن بُعد قَبَلي إلى بُعدٍ عالميّ.

وكثيرةٌ هي تجارب النهضة التي جعلت من المعلومات ودراسة الواقع عاملًا حيويًا لاستنهاض المُقدرات البشريّة حيث أرشدتها إلى الهمّ المُشترّك الذي لا خَلاص منه إلّا بالتكاتف والتعاون، ولعلّ إيقاظ الشعوبِ بوصف واقعها الآسِن وتبصيرها بعُيوبها ليس أمرًا ثانويًا ولا جُهدًا ضائعًا، بل هُو في صميم الخطوات التي تنقُلهم من دائرة المُتفرّج إلى دائرةِ المُتفاعل، ومن هامشِ التاريخِ إلى صُلبِه، وهُنا نذكرُ تجربة مُحمد مهاتير صانعُ نهضةِ ماليزيا، حينَما حدد بدقّة العللّ التي تُعاني منها دولته، في كتابه: (مُعضِلَة الملايُو) سّنة 1970م، الذي اتهم فيه الشعب بالكسَل، وضعف التكوين وانعدام الوعي القومّي،  شابٌ آمَن أنّ بداية التغيير في إصلاح الواقعِ، وإصلاح الواقع يكون بالمكاشفة الصريحةِ التي تضع الشعب أمام واقعه المُّر، فإمّا تَقبُلًا وسباتًا أطول، وإمّا رفضًا ويقظةً دافعةً للتحدّي.

كما قدّم د.جاسم سلطان نموذجًا قيمًا يُمكن من خلاله رسم دورة الفعل الحضاري الذي ينطلق من حقائق الواقع، فتبدأ الحلقة أولًا برصد الواقع ومتابعة تغيراته ومعطياته، والعمل على جمع تلك المادة بكل جوانبها، ثمّ تنظيمها وترتيبها في وحدات (ملفات كُبرى: كالملف السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، السلوكي، التعليمي،...)، بعد الترتيب يتمّ إيصال كلّ وحدة للمعنيين بها، ليعملوا على تحويلها إلى مشاريع قابلة للتطبيق، بعد عملية التخطيط الواعي، يُمكن البدء في الفعل الحضاري الذي يكون جزءً من الصورة الشاملة المراد اكتمالها،والتطور هنا ليس خطيًا بل دورةٌ مستمرة تضع الواقع نقطة بدايةٍ ونقطة وصولٍ وانطلاقٍ مُجددًا.

"عُمران يهدف إلى دراسة واقع الأمّة للارتقاءِ به، هو لن يُسابق المحطات الإخباريّة في نقل الأحداث بل في تحليلها، واستنباط سبل النُهوض".

دورة الفعل الحضاري

ختامًا، عُمران يهدف إلى دراسة واقع الأمّة للارتقاءِ به، هو لن يُسابق المحطات الإخباريّة في نقل الأحداث بل في تحليلها، واستنباط سبل النُهوض.

واقع الأمّة في عُمران هو حديثٌ نأمل من خلاله القراءة الواعيّة للأحداث، والتوظيف الصائب لها لتشييد العمران الحضاري.  

بذلك نتجاوز السير المُتعثر نحو المجهول، فننطلق ممّا يُمْليه واقعُنا برؤيةٍ واضحةٍ، وفي مساراتٍ أكثر أمانًا تُقربنا إلى حيث نُريد الوصول، حينها سندرك تمام الإدراك ما النتائج التي سنُحققها وكيف؟

"عُمران يهدف إلى دراسة واقع الأمّة للارتقاءِ به، هو لن يُسابق المحطات الإخباريّة في نقل الأحداث بل في تحليلها، واستنباط سبل النُهوض".