هذه روائح رمضان تهبُّ على قلبِكَ كنسيمٍ عليل، فأين لهيبُ شوقِكَ لرمضان؟ لو كنتَ صادقًا في شوقِكَ كما كان يعقوب صادقًا في شوقه، لارتدَّ قلبُكَ بصيرًا، فيعقوب عندما شمَّ رائحة يوسُف ارتدَّ بصيرًا بعد العمى، وقويًّا بعد الضَّعْف، وصحيحًا بعد السقم، وفتيًّا بعد الشيخوخة، ومعافًى بعد المرض.
الشوق لرمضان يُحرِّك القلوبَ المفعمة بحبِّ الصلاة والصيام، والتهجُّد والقيام، والذِّكْر والتسبيح، والقنوت والتراويح.
رمضان كلُّه نَفَحاتٌ تهبُّ من حضرة القُدس، أنفاسُه تُزكِي الرُّوحَ، وترتقي بالنفس، الجوع فيه شِبَعٌ من الدنيا، والإجهاد فيه من التراويح لذةٌ لا تعادِلُها لذَّةٌ.
أنسام السحر وأنت تقرأ القرآن، وتُناجي الرحمنَ، رقيٌّ للملكوت الأعلى، لحظات انحدار الشمس للمغيب وفي يدك تمرات وشربة ماء، قمة الاستجابة والوقوف عند أوامر مَنْ يقول للشيء: كُنْ فيكون، فلو دعوتَه حينها لفتَح لك أبواب السماء: ((للصائمِ عند فِطره دعوةٌ لا تُردُّ)).
روائح رمضان نديَّةٌ، تبعث في قلبك الشوقَ للعبادة، تدعوك لترطيب قلبك بملمس أكُفِّ رمضان الناعمة، تَجرُّكَ للشرب مِن مَعينه الدَّفَّاق شربةً لسنة كاملة، تدلُّك على أن تُغذِّي رُوحَكَ منه، فتجلس على مائدته بنهمٍ.
ولك أن تتخيَّل معي شخصًا جائعًا لأيام، ثم عُرِض عليه أشهى أنواع الأكلات وألذُّها، قل لي بربِّك: كيف سيأكل؟ إنه سيَلتهم ما قبله التهامًا، فكيف بشخص ينتظر رمضان ليَهبط على مائدته المباركة، وشوقه يَحدوه إليه أحد عشر شهرًا؟!
رمضان نهر وعين، وبستانٌ وشجرة، فأما النهر فيغسلك مِن أوضارك ودَنَسِك، ورمضان إلى رمضان مُكفِّر لِما بينهما ما اجتُنِبت الكبائر، فذلك الشخص الملطَّخ بأوساخه إذا صادف نهرًا عُبابًا يجري، سيرمي نفسَه فيه، ومن رمى نفسه في نهر رمضان، خرج من الصوم طاهرًا مُطَهَّرًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه.
وهو عين فتشرب مِن مَعينها سلسبيلًا مُصفًّى، فترتد إليك رُوحُك، وتخيَّل معي مسافرًا نَفِدَ ماؤه، فعَطِشَ حتى أوشك على الهلاك، وتقطَّع حلقُه، وتَحشرَجَ صوتُه، ورأى الموت رأيَ العين، ثم رأى عين ماء تجري كالسلسبيل، قل لي بربِّك: كيف سينْكَبُّ عليها؟
إنه سيَبرُك بروكَ البعير، ويتنفَّس الصعداء، ويبدأ يعبُّ من الماء النمير حتى يرتوي؛ فكذلك نفسُ المشتاق لرمضان، سيتزوَّد مِن عين صيامه وسلسبيل قرآنه، وقطرات أسحاره، ومُزْن أذكاره..
وهو بستان فيه من كل ألوان الربيع، مزدان بخُضْرته، مبارك بثمرته، وأبصره من بعيد شخصٌ يُكابِد عناء الصحراء، قد بات ثلاث ليالٍ طاويًا، فإذا مرَّ به ولَجَه، فإن كان مُغْلقًا اقتحَم أسواره، وأكل من ثماره، فهو وَقْفٌ لكل مسافر، وليس بمحرَّمٍ على أحد، بل يُعرَض على الناس دخولُه، والتزوُّد منه، وقطف ثماره اليانعة المتدلية الدانية.
فرمضان للقلوب المشتاقة زادٌ، وأكرِمْ به من زادٍ! تتناول من بستان رمضان قطوفًا من العبادات، وحسبك أن 80% من أركان الإسلام تمارسها في رمضان إلى جانب الدُّعاء والأذكار والقرآن، والصَّدَقة والصِّلَة والصبر.
وهو شجرة لمسافر أضناه التَّعَب، فلم يجد ظِلًّا يستريح تحته مِن وهجِ الشمس المحرِقة، فبينما هو يُكابِد وحشة الطريق إذا به يُبصِر شجرةً وارفةَ الظلال، فيصل إليها ويضع تحتها متاعه، فيَسلَم من حرارة الشمس وبريقها المتوهِّج، والمشتاق لرمضان يُبصِر رمضان وكأنه شجرة يستريح تحتها من لهب الذنوب المحرقة، ويُرتِّب جدول خطته للسير مرة أخرى.
سِحْرُ الغُرُوبِ وروعةُ الأسْحارِ
وسَنا الأصيلِ وفَرْحةُ الإفْطارِ
وعَبِيرُ مُعتَكفٍ ونَفْحةُ آيةٍ
وندى اليقينِ وبهْجةُ الأَذْكارِ
ها أنت يا رمضانُ تطرقُ بابَنا
بالبِشْرِ والبركاتِ والأنوارِ
فإذا تراءَيْنا الهلال بدا لنا
بَدْرُ البُدُورِ ودُرَّةُ الأقمارِ
وأتيتَ والرَّيَّانُ شُرِّعَ بابُهُ
رَحْبًا وهبَّتْ نسْمةُ الأنهارِ
أوَّاهُ يا رمضانُ كمْ ذكرى لنا
خطَرتْ فباحَ القلْبُ باستعبارِ
أوَّاهُ من شجنٍ يخالجُ مُهْجةً
تطْغى خوالجُهُ على الأشْعارِ
شوقًا لمن رحلوا فَعُدْتَ وما أتوا
يُحيُونَ فيكَ اللَّيْلَ باستبشارِ
رمضان رائحته تعطِّر الأنفاس، وتبعث الأمل بعد الإياس، هو النور زمن الظُّلْمة، والإشراقُ في العتمة، هو مِحراب عبودية المؤمن، وكهف المقبل التائب، وسُوقُ المتاجِرِ مع مولاه، هو نَفْحة لعلَّها لا تعود، وهبها الودودُ، فاستغِلَّها بما بالنفع عليك يعود، أكثِرْ فيها من السجود، وعوِّد نفسَك الجود، واقرأ بلا حدود، وكُنْ ضمن المبادرين لا من الرقود..
الخيرُ أقْبَلَ والنُّفُوسُ تجمَّلَتْ ** وأضاء ذِكْرُ اللهِ في محرابي
يا مَنْ وهبْتَ الصائمين تميُّزًا ** مِن بابِكَ (الرَّيَّان) إجْعَلْ بابي