من العَزم المَطلوب اليوم مُجالسَة أهل العلم النافع للأمّة وأصحاب الفضل في فهم الشريعة السَمحاء وتنزيلها على الواقع.
ضيفنا العَالِم الدكتور ونيس المبروك، من مواليد مدينة بنغازي الليبيّة، وهو عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيس لجنة الأقليات به، المشرف العام على أكاديمية الإمام مالك الدولية للعلوم، وعضو منتدى باريس للفكر.  
 يصحبكم موقع «عمران» في هذا الحوار الثريّ الماتع للحديث عن «المقاصد» ، بدءً بمدرسة الصوم حيث التآلف و"العُروج بروح المؤمن في مدارجِ التقوى"، مرورًا بضرورة تفعيلها للنهوض بالأمّة وتمكين الإنسان لتحقيق الاستخلاف، وصولًا إلى  المقاصد الحضاريّة وأولويّات النهوض بالواقع، دُون إغفال الأخذ بالنُصح الكريم، كيف نُواجه الفوضى الفكريّة؟ ما مقامُ القيادة؟ وما أوّل خطوات التغيير؟

 رمضانكم مُبارك دكتور ونيس المبروك، سعداءٌ بكم نسأل الله أن ينفعنا بواسع علمكم ويزيدنا فهمًا وعملًا للنهوض بالأمّة والتمكين لرسالتها.
بدايةً، ننطلق من بيان تعليل تشريع الصوم، إذْ أنّا كثيرًا ما نتحرى في شهر رمضان الامتناع عن كلّ ما هُو مفطر، دُون النظر في "المقاصد الكُبرى" لهذه الفريضة رغم أنّها "روح الأعمال وقبلة التكليف" كما تصفونها، فما هي غايات ومقاصد الصيام على مستوى الفرد الواحد؟ وعلى مستوى الأمّة جمعاء؟

أولا، أشكر لكم هذه الاستضافة متمنيا لكم التوفيق والقبول.  
المقاصد هي روح الأعمال لقوله صلى الله عليه وسلم (إنّما الأعمال بالنيات..)، فالنية هي شرط صحة العمل، وأساس القبول، وهي أكبر باعث على إكماله وإحسانه أيضا، فلا عجب أن نرى عناية الشريعة بها عناية فائقة، وبخاصة فيما يتعلق بركن من أركانه ألا وهو "الصوم" الذي فرضه الله تعالى علم أمم من قبلنا.
للصوم مقاصد وحكم متنوعة، ولعل أعظم تلك المقاصد هو العروج بالمؤمن في مدارج التقوى، وتدريبه وترويض نفسه على التحكم في الشهوات والرغبات، وبخاصة فيما يتعلق بشهوة البطن والفرج.
ومن مقاصده أيضا توطين النفس على عبادة الإخلاص، إذ أنّ النفس تتطلع دائما لنصيبها من الأعمال، فتحرص أحيانا على أن يرى البشر خصوصيتها وعبادتها وأعمال البر التي تقوم بها، ويأتي الصوم ليدرب المسلم على عبادة من نوع خاص، لا رياء فيها ومباهاة، ولهذا يقول الله عز وجل في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
كما أنّ الصوم يحقق التوازن والاعتدال في الطبيعة الإنسانية، ويجعلها في مقام الوسط بين النزعة الملائكية الروحية، والاستجابة المطلقة للرهبانية والاعتزال والامتناع عن الشهوات، وبين النزعة الحيوانية الطينية، والسعي لتحقيق شهوات النفس دون قيد ولا ضابط.
هكذا نجد أن في الصوم سموٌ للروح وصحة في الأبدان وصفاء في الذهن وترويض للنفس فهو مدرسة الثلاثين يوما بحق.
أما على الصعيد الاجتماعي فإن الصوم يؤلف بين أرواح الصائمين وقلوبهم، فالصيام يدخل بيت الغني والفقير، الحظري والبدوي، العربي والأعجمي، والمرأة والرجل، يصوم الجميع لرؤية الهلال ويفطر لرؤيته، والجميع يمتنع مع ظهور الفجر، ويفطر مع غروب الشمس، الجميع يقاسي الجوع والعطش اختيارا لا اضطرارا.
لا يخفى ما في الصيام من مواساة ومشاركة لحال الفقراء، حيث يقاسي الغني حرمان الطعام والشراب فيتذكر أخاه الفقير الذي يعاني ذلك الحرمان على مدار العام.

بناءً على ذلك، إنّ إغفال المقاصد في أمّتنا واستبعادها أنتج عبادات ظاهريّة خاويّة من معانيها، ما أهمية النظر في مقاصد التشريعات عمومًا؟

 بداية، أود التنبيه على أنّ ليس كل العبادات والنسك مفهومة العلة، أو المقصد  من تشريعها، فامتثال العبد لأوامر سيده دون معرفة العلة هو أسمى معاني العبودية والخضوع، وهو في حد ذاته مقصد المقاصد.
ولكن معرفة المسلم لمقاصد الأوامر والنواهي فيها عون على الطاعة وباعث على الامتثال، لأنّ جُلَّ المقاصد إنما هي لتحقيق مصالح العباد، والنفس الإنسانية مجبولة على حب المصالح والتطلع لتحقيقها، فإذا علم العبد المصالح واقتنع عقله بالمنافع المترتبة على الطاعة، كان ذلك ادعى للامتثال والصبر والثبات .

إنّ النهوض بالأمّة اليوم لا يتطلب معرفة المقاصد فحسب وإنما "تفعيلها"، مالذي تقصدون بتفعيل المقاصد؟ وما ضرورة ذلك للنهوض بالأمّة وتمكين الإنسان لتحقيق الاستخلاف؟

التفعيل مصطلح يدور حول التكثير، الزيادة والتحريك، وتحقيق المزيد من عطاء الفعل، ولكن نحن نقصد بتفعيل المقاصد تنزيلها وإعمالها في شتى شؤون الحياة وجعلها قبلة الأعمال وبوصلة التخطيط.
التفعيل هو مفهوم كلي هادف؛ له منهج وقواعد وضوابط، ومسار وقانون يسري وفق منظومة متكاملة تضمن تحقق المقصد على أمثل وجه.  
تكمن أهمية المقاصد في أنّها توافق فطرة الإنسان ومنطقه في التفكير، لأن العقل الإنساني عقل مُعلِل، يسعى دائما لمعرفة الأسباب والمسببات، ويتطلع لمعرفة البواعث التي تفسر كل ما يدور حوله، ولهذا استحق الإنسان أن يكون خليفة في الأرض ومعمرا لها، لأن قوانين العمران إنما تقوم على سنة السببية، ولا يمكن ان تقوم نهضة فكرية ولا مادية بعيدا عن معرفة العلل والأسباب، ثم امتلاك أدوات تسييرها وتوظيفها وتسخيرها.

فيما تتمثل أهم المقاصد الحضاريّة التي جاء بها التشريع الإسلامي؟

هذا موضوع ذو شجون، ولكن يكفي الإشارة لأعظم مقصد حضاري جاء به الإسلام، وهو المقصد الذي علل الله تعالى بعثة الأنبياء والرسل به، ألا وهو العدل، يقول الحق سبحانه {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، فتعاليم الإسلام جاءت لتحقيق هذه المقصد الحضاري الأسمى وهو القسط والعدل بين الناس، فهو الأرضية التي تقوم وتستقر على أساسها الحضارات جميعها، ومتى ما غاب العدل وعم الظلم والاستبداد هلك العمران وتقطعت وشائج المجتمعات.
من المقاصد الحضارية التي جاء بها التشريع، تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، فلا يمكن أن تخرج النفس السوية من هذا القلق والشعث والاضطراب إلا بالتدرج في معارج التوحيد والإيمان الصادق وحسن الصلة بالخالق سبحانه وتعالى والتعلق بالآخرة.
إضافةً إلى تحقيق التوازن بين الفردية والجماعية، ورعاية ضرورات الناس وحاجاتهم، والارتقاء بمعارفهم وعلومهم لأجل تسخير ما في السموات وما في الأرض لعمارة الكون. أيضا، احترام وتعظيم قيمة الزمن وحسن ادارته واستثماره، ومن المقاصد الحضارية تحقيق التعارف والتعايش الإنساني المشترك، وإعمال مبدأ الشورى والحوار في الشأن العام والخاص، ....

 مواصلةً في ذات السياق، النظر في المقاصد يُساهم في ترتيب المصالح وفق نسق منضبط، وبالنظر إلى واقع الأمّة وتحليل أزماتها (أزمة التخلف- القيادة- الفكر- السلوك وأزمة الفاعلية)، ما الأولويات التي تنصحون بالالتفات لها لمعالجة هذا الواقع وتغييره؟   

أرى أن أولى الأولويات فيما جاء في سؤالكم، هو معالجة الفكر، وذلك بالعناية بالتربية الفكرية وعدم الاقتصار على تكديس الأفكار والمعلومات، لأنّ سلوك الانسان مرتهن بما يحمل من أفكار، فحركة البشر واختياراتهم هي ترجمة لما يحملون من أفكار، كما أن إنتاجنا ونتائج أعمالنا مرتهنة بمناهجنا في النظر والتفكير، وأزماتنا الحضارية منبعها هو ذلك العطب الذي أصاب الفكر والوعي، ومن غير الممكن أن نصل لنتائج مختلفة إن كنا حَبِيسي جمود الفكر، مخلدين للتقليد والتعصب.

عُمران: ختامًا، ما هي رسالتكم ونصائحكم لشباب عُمران، وشباب الأمّة الإسلاميّة الذين يسعون لقيادة التغيير وإحداث نقلة نوعية في مجالات التنافس العالمي؟

لكل عصر علل وآفات تنتشر في فضاءه وتصيب الجيل الذي يواكبه، وعصرنا هذا هو عصر القلق والمادية الجارفة والإثارة، كما أن الانفجار المعلوماتي الذي حدث، جعل الشاب في حيرة أمام هذا الكم الهادر من المعلومات المتناثرة المتشظية التي لا يعرف غثها من سمينها ولا خيرها من شرها ولا أصلها من فرعها، بل لا يعرف حتى من دوّنَها وأشاعها، وهذا ما أدى إلى حالة من الفوضى الفكرية، والحيرة لدى الشباب، وبخاصة في ظل غياب الأدوات المنهجية التي تساعد الشباب على تقييم ما يطرح في سوق الأفكار والمبادرات والمعلومات.
لهذا أنا أنصح بأن يبذل الشباب وسعهم في تدشين ثقافة إسلامية راسخة على يد متخصصين في كل فن، بشكل موجز مختصر ولكنه محكم منضبط، فمثل تلك الثقافة هي مصلٌ مهم لمقاومة موجة التشكيك في الثوابت، وسيل الشبهات الذي تتقاذفه وسائل التواصل.
كما أنصح بألا نجعل من القيادة غايةً تُطلب، لأن القيادة هي مقامٌ يوهب عبر مسيرة من الطلب والصبر والتجارب،  وليست غاية تطلب في قاعة درس أو مخيم قصير.
على الشباب أن يعلم علم اليقين أن أول خطوات تغيير ما حولنا هي تغيير ما في أنفسنا، فإن ارتقينا بفكرنا وإيماننا وسلوكنا وأخلاقنا وأجسادنا، وقويت رابطتنا، وتلاقت قلوبنا على الغايات العليا، واحترمنا تخصصاتنا، وأعطينا لحسن الإدارة المعاصرة دورا في مشاريعنا،  استطعنا بعون الله تحقيق التغيير، واقتربنا من النصر المنشود.
يجب على الشباب قبل ذلك وبعده، أن يتصلوا بمصادر " القوة " فالحياة لا تعطي مقاليدها للضعفاء، وأعظم مصادر القوة بعد قوة الإيمان، هي قوة المعرفة  المتخصصة، وقوة الوحدة، وقوة الموارد المادية المستقرة، ولا يمكن أن ننس في هذا السياق الإشارة إلى قوة جارفة فرضت نفسها بقوة على عقول الناس ومشاعرهم وهي القوة الإعلامية والحضور الفني المتميز، فإن كانت الناس قديما على دين ملوكهم، فإن الناس اليوم على دين إعلامهم، فيجب أن يعتني الجيل الجديد بالمؤسسات الإعلامية المتخصصة والمحترفة.
شاكرا لكم كما اسلفت إتاحة الفرصة لهذا الحوار.  

 الدكتور ونيس المبروك، جزاكم الله عنّا كلّ خير، ونشكركم على ما قدمتم من نصائح قيمة، نسأل الله تعالى أن ينفعنا والأمّة بما علمنا.