ألا قد طَهُرت القُلوبَ، و ترممت النفوس، وتجددت القيم من بعد شهر الرحمة والغفران، وليالي القُرب والنجوى، لنخرج من بعدها وقد رمينا جميع أثقال الهم في السجدَات والخلوات، يحِلُ رمضان ضيفا كريمًا خفيفًا ومُربيًّا عتيقًا ، يُحيي في قلوبنا معاني التآزر والإحساس بالضعفاء والمحتاجين، معاني المساواة وأن لا فضل بيننا إلا بالتقوى، ويُختتم الشهر الفضيل ذا الأيام المعدودات فنشعُر بأنّ دواخلنا تُحبُ هذه الأيام وهذا القُرب وأن رمضان قد مضى سريعًا، فيكرمنا صاحب الفضل العظيم بأن يختتم لنا هذه الأيام المُباركة بالعيد..
العيد عودةُ فرح..
تُطلق كلمة (عيد) على كُل يوم فيه جَمْع، وهو مُشتقٌ من عادَ يعود، وكأنك عُدتَ إليه، وقيل أيضاً مُشتقٌ من العادة لاعتيادنا عليه وهو وقت عودة الفرح والسرور، و لُكلِ ديانة عيدُها و لكُل أُسرةٍ عيدُها و كما لكُل شخصٍ يوم ميلادٍ نُسميه عيدا لإستعادة فرحتنا فيه بأن رزقنا الله إياه، و بالرغم من كثرة الأعياد إلا أنه يوجد منها المُهم وغير ذلك، فالأعياد التي ترتبط بالناس من ميلادٍ وزواج وذكرى تخلُص برحيل أصحابها فتعود أياماً عادية و قد تُصبح ذكريات حزينه، أما ما ارتبطت بالشريعة السمحاء فتبقى ببقاء الإنسانية و تتجدد بتجدُدِها، ولذلك شرَع لنا الدين الأعياد الكُبرى التي نُعبر فيها على فرحتنا، لأن ما ارتبط بالطاعة يبقى أزليًا، و قد كان أحد هـٰذين العيدين "عيدُ الفطر المُبارك" حيث يسعدُ الناس بطاعتهم بعد صيام شهرٍ كامل، ومن لُطف اللطيف بنا فقد حرّم صيام يوم العيد حتى يكون فرحةً للجميع وعودةً للحياة بطابع متجدد، و كما قال ابن الأعرابي : "سُميّ العيدُ عيداً لأنه يعودُ كل سنةٍ بفرح "، فيبقى العيدُ عودة فرح بالرغم من اختلاف المجتمعات والحضارات .
العيدُ شهادة تقديرية!
إنّ صيام النهار وقيام الليل، الكف عن الأذى والمعاصي والشهوات، و زيادة الإرادة بالحِفاظ على القُرب الدائم، كل ذلك التدريب استمر لمدة شهرٍ كاملٍ، إنّ بذور " اللهم إني صائم" قد حان وقتُ حصادها ، فيُعتبَرُ عيد الفطر جائزةً تقديرية لما بذلهُ المؤمن في شهر رمضان، ليُجدد فيه المعاني الدينية التي أكرمنا بها الله بأن لا فرق بيننا، كُلنا صائمون واليوم كُلنا لربنا ولفضله راغبون، و قد خرجنا جميعاً من مدرسةٍ واحدة، و يوم العيد هو يومُ التخرج وقد أصبحنا بفضل ذاك الشهر مؤهلين لمتابعة العمل بأخلاق ديننا التي جددها فينا رمضان ليكون "يوم الفطر" الذي جعله الله يومَ فرحٍ للجميع، ناظرين بشوقٍ وراجين من الله أن يعيد فرحنا هذا كل عام .
إنّ شعور الرضا الذي يتبع الجُهدَ يُنسينا التعب، فالعيدُ يأتي ليجعلنا راضين عن أعمالنا وليُحيّيَ فينا شعور الإطمئنان أن هذا يوم التسامح، فنجدُ المتخاصمين و قد أقبل بعضهم على بعض يلتمسون الصفوَ والعفو الجميل.
وفي آخر أيام الشهر الكريم، نبدأُ منذ ليلة العيد بالتهاني والتبريكات، فيجود الجميعُ بحُبه ولُطفه وكريم أفعاله، ولعيد الفطر معانٍ و نفحات، وقد أوجب الله علينا زكاة الفطر قبل صلاة العيدِ ليَكون العيدُ عيدا للجميع، فنجدُ الفقير لا يشعُرُ بفرقٍ عن الغني فقد كان التقسيم للمال من شرع الله لنحيا جميعًا في محيط المساواة والسعادة دون تفرقة، و يجودَ الكبير على الصغير فنجدُ الأطفال يترنمون ويغنون بالعيد فرحًا و يستقبلون الهدايا والحلوى في كُل مكانٍ يذهبون إليه، و في العيد يلتقي الأهل و يتزاورُ الجيران ونتصل بمن أبعدتهم عنّا المسافات وبأصدقاء الطفولة والزُملاء طالبينَ ومؤكدين للعفو، لأجل إحياء الأُنس والمودّة و يكون كُل ذلك لأجل الحُبِ لا غير.
يبدأ العيد بغروب آخر يومٍ في رمضان، وعند صباح العيد نشعُر وكأننا ولدنا من جديد فنغتسل من جميع ذنوبنا مفتتحين يومنا بصوت التكبيرات التي تملأ المكان، و كأنها تنبهنا أنّ الله أكبر يغفر ذنوبنا، الله أكبرُ يُزيل همومنا، و نسمعُ أن لا إله إلا هوَ له الحمد، فله الحمد أن بلّغنا فضل الشهر الكريم، يتحلى صغيرنا وكبيرنا،رجالًا ونساءً بملبَسٍ جديدٍ و كأنّنا نقول: ها نحن قد ولِدنَا من جديد بروحٍ متجدده نقيّة. نتوجه للصلاة كما فعلَ من قبل نبيُنا الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه، طامعين برحمته ونزول ملائكته وقوله تعالى لنا أن "لقد أرضيتموني ورضيت عنكم، اذهبوا مغفوراً لكم"، و نردد كما الجميع: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر و لله الحمد".
يا لعظمة مساجدُنا في العيد! نلمح فيها المسلمين وهم يُصغون للخطبة، تختلف ألوانهم، ومنهم الغني والفقير، الوزير ومن لا يملكُ عملاً، الطفلُ والكهل، الكل يُسلّم ويُهنئ ويطلب العفو، فخورون بالدين الذي يجمعهم و يجمعُ الإختلافات تحت قالَبٍ واحد.. إنّه العيد الذي يُوحدّنا.
إننا نُريد من هذا العيد الروحاني أن يعود علينا بصفاء قلوبنا وعُلو أرواحنا ونزاهةِ أفعالنا قبل أن يُعيد لنا عادات وروتينات، ليتنا نعيشه عيدًا بما تحمله كلمة العيد من معانٍ ساميّة.
مهما كانت ظروفُنا وأمّتنا فلنسعد باليوم الذي أراده الله لنا يومَ فرحٍ وسرور، ولنستشعر وحدة أُمتنا، التي يعيش جميع أفرادها تفاصيل هذا اليوم مُلتمسين فضائله، فهو يومٌ ليس كسائرِ الأيام.
قد أتى العيدُ ليُعيد الحب بين الناس، فهنيئاً للأُمة بعيدها الكريم، تقبلَ الله منا ومنكم و كل عامٍ وأنتم إلى الله أقرب.