في فضاء فسيح أزرق اللون، عالم افتراضي كبير، يسكنه المليارات من الأشخاص، يشبه عالمنا الحقيقي، مجموعات وأصدقاء وتحديّات ونجاحات وتأثير واضح جدًا على أجيال لم تعرف يومًا أنه كان هناك عالم حقيقي يتقابل فيه الناس ويتعانقون، ويتحدثون لساعاتٍ طوال... في هذا العالم الافتراضي الذي فُرض على هذه الأجيال هناك أشخاص قد أثروا كثيرًا، منهم من أثّر سلبًا ومنهم من أثّر إيجابًا، وفي النهاية يبقون عالقين في الأذهان إلى أجلٍ غير مسمى.

هؤلاء الأشخاص هم أشخاص عاديون، قد وجدوا فرصة لعرض أفكارهم، والتأثير في من يلتفّون حولهم، يعيشون حياتهم العادية كما أنت تعيش أيضًا، لهم خارج هذا الفضاء عائلة وأقارب وأصدقاء، لهم حياة أخرى، يحبّون ويكرهون، يتقبّلون ويتذمّرون، يفرحون ويحزنون، يضحكون ويبكون! يحملون كل صفات البشر العاديين، ولكن في هذا العالم لا ترى منهم سوى جزءٍ واحدٍ فقط، وهو الجزء المثالي في حياتهم، وربما جزء متصنّع لا ينتمي لهم ولا هم ينتمون له!

ولكن في هذا الجزء المثالي تجدنا جميعًا ذلك الشخص الذي يريد أن يُظهر الطيّب منه، جميعنا يريد أن يراه الناس بخير، أو يكون الظاهر منه هكذا، ولا أحد بكل تأكيد يريد أن يظهر السيء، ولو ظهر منه يكون بغير عمدٍ أو عن طريق الخطأ.. فالجميع يريد أن يُرى منه الجميل، وأن يتلمّس الناس فيه الخير. والناس عادةً لا يألفون الأخطاء من الأشخاص الذين يبهرونهم بتصرفاتهم أو يتخذوهم قدوةً أو مثالًا لشيء ما يرونه رائعًا حسب تقديراتهم الشخصية، وفي النهاية هي تقديرات شخصية مبنية على معتقدات أو مفاهيم تختلف على حسب الشخص والمكان والزمان، لكن تبقى هناك معضلة كبيرة في هذه التقديرات الشخصية حيث أنها ترفع أقوامًا لم يكونوا يومًا ينتمون إلى العُلا، وتضع آخرين قد يستحقون أن يكونوا هم العُلا! ولكن قلنا أنها تقديرات شخصية!

ذلك الشخص الذي يريد دائمًا أن يظهر الطيب، لم يكن سيئًا يومَ أخطأ أو صدر منه شيءٌ لم تألفه أنت، أو لم يخيّل لك أنه سيفعله، ولكنه في الحقيقة فعل ما يفعله كل البشر ولم يخرج عن دائرتهم كونهم بشرًا مجبولين على الخطأ! لم يكن الخلل فيه، ولم تكن المشكلة لديه هو، بل هي فيك ومنك من البداية عندما وضعته في مكان ما في مخيّلتك منزهًا عن الخطأ، وجعلته يتربَّع على ذلك العرش الملائكي في مخيّلتك، ربما أفعاله من جعلتك تضعه ها هنا، ولكن أنت في حكمك على الأمور لابد أن يكون لديك شيء من فهم الأمور على طبيعتها وإنزالها منازلها الصحيحة.

قد تكون وضعت هذا الشخص في مرتبة المنزّهين وأغرقك الوهم حتى كدت تختنق من أقرب نقطة تصل ناظريك فتراها أنها لجٌّ كبير وخطأ فادح لا يغتفر، ولكنه في الحقيقة أبسط من هذا بكثير، ليس لأنك لابد أن تتقبل الخطأ، ولكن لأنه بشر وقد فعل ما أمْلَته عليه فطرته البشريّة.

الخيال دائمًا مثالي بلا عيوب، هو أفق واسع خال من الحقيقة، يبنيه المرء على عدة مواقف للأشخاص المتيّم بهم، ولكن عندما يلتقي الخيال بالواقع، تحدث الصدمات والمفارقات والمشاكل، فيرى هذا الشخص المثاليّ الذي في مخيّلته شخصًا آخر يحمل عيوبًا كما يحمل محاسنًا، ويخطئ كالأُناس العاديين، وهذه المشكلة تكمن في المتلقي فقط لبنائه أساطير من وحي خياله، واسترسال عقله في بناء الشخصيّات.

 

شخص يريد أن يصل إلى قمّة ما، بين التزامٍ أو نجاحٍ أو ما يعادلهما من قمم العليّات، هذا لا يجعله ملاكًا مجنّحًا يستطيع إزاحة الأذى عن نفسه، ولا يجعله منزّهًا عن الخطأ، هو في النهاية بشر وله ما للبشر من انجرافٍ وتخبّط، يخطئ مرة، ويصيب مراتٍ عدة، كما نفعل جميعًا، نحاول ونخفق، ونقف مرة أخرى لنحاول فنخفق، ونقف، ونخفق حتى نقف ذات مرة ناجحين قد حققنا مرادنا، فلا يجب أن يُمحى نجاحنا هذا لأننا أخفقنا، أو يقاس بعدد مرّات الإخفاق التي هي سبب رئيسي من أسباب ذلك النجاح، فقد نجحنا في النهاية! لكن ربما هو يتميّز قليلًا عنّا كونَه يستطيع أن يعود سريعًا وأن يحاول جاهدًا ليظهر الجانب الطيّب من معدنه الطيّب.

ننظر لأمور كبيرة من زاوية ضيّقة، فلا نرى سوى ما تظهره هذه الزاوية، ولكن الصورة الكاملة للأمر حتمًا ستظهر جوانب كثيرة لم نستطع استيعابها أو رؤيتها من تلك الزاوية المحصورة في كلمتين أو مشهدين أو بضعة أفعال! ربما تثق في شخص حدا لامتناهيا من الثقة، ولكن تكون هذه الثقة عمياء، لا ترى من أفعاله وكلامه سوى ثقة، تصدّقه على ما يقول، حتى يأتي يومًا بفعلةٍ لا تقبلها، أو بموقفٍ قد خُيّل لك أنه لا ولن يفعل مثله، فتكون صدمتك التي تعيد لك وعيك، وتجعلك تتمعّن وتفكر أكثر في الأشياء، وتوسّع أفق تفكيرك لترى الأشخاص بمثالية أقل من ذي قبل.

لابد أن تطرد شبح المثاليّة المتلبس في عقلك وهواجسك الخفية، لا يوجد أحد منّا مثاليٌّ ولو أظهر لك ذلك، لابد أن يكون لعقلك دور في حكمك على الأمور والأشخاص، لا بد أن تراهم أشخاصًا عاديين، حتى ولو كانوا قدوةً أو مثالًا يحتذى به، لا بد أن يحملوا ما يحمله البشريون من احتمالية الخطأ.

الناس يا صديقي، أبحر واسعة، وكتل معقّدة، لو حاولت تفكيكها أعيتك، ولو نظرت لها نظرة ظاهرية خدعتك وأوهمتك! اعلم أنّ محاولة إخفاء السيء هي فطرة بشرية، فلا أحد يتباهى بخطأه وهو يعرف أنه خطأ، ولا أحد يريد أن يُرى منه سوءٌ وهو يعلم أنه سوء! كل ما يقع على عاتِقك يا صديقي هو معاملتهم كبشرٍ، وألا تبخس حقّهم إن وجدت منهم إحسانًا، وأن تتجاوز عن سيئهم، وتقبل طيّبهم بصدرٍ رَحِب.