نتحدث في هذا المقال عن كارثتين حجبتا عن الجماهير العربية والإسلامية قضية مهمة من قضايا الحرية وهي مبدأ الاختيار، فالقصف الذي يتلقاه العقل العربي على جهتين متناقضتين جعل موضوع الاختيار صعبا للغاية وجعل الحرية عرجاء عندنا..

 

نبدأ أولا بكارثة الأيديولوجيا الدينية التي تقدس الجهل والتخلف وطول المكث في عوالم الغيب، وكذا التخلف عن عالم الشهادة، وتحت هذا النوع يمكننا رصف مئات المقالات عن قضايا مختلفة تتناقض والحرية الفردية، كان سببها تغول الملك العضوض السياسي على الفقه الراشدي الذي أنتج إنسان الحضارة..

 

اغتيل عقل المسلم ووئدت الكثير من إبداعاته، وانقلب الهامش على المتن، وتحول التراث والتاريخ إلى أمور عقدية، وأدخلت شخصيات بأسمائها في بعض العقائد، رغم أنه ليس سوى محمد بن عبد الله (كرسول) عليه الصلاة والسلام بشر له علاقة بعقيدة الإسلام في قضايا توجيه العقل والروح.. 

 

أما إذا فتحنا ملف المرأة موضوعنا قد لا ينتهي، فإذا أضفنا لكل هذا جيشا من الوعاظ بعضهم مأجور وبعضهم في الجهل مغمور، من الذين بدل أن يحثوا الأمة على استفراغ الوسع في اكتشاف المسخرات في الكون الشاسع، شغلوها بالحديث عن المغيبات وما يئد العقل ويقتل الروح، وبدل أن يحذروا الشباب من عذاب الفقر كثر الكلام عن عذاب القبر، وبدل أن يقولوا للناس: "فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" [1] أخذوا يكررون "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ" [2]، وهذا بمعنى مختلف عن المقصود تماما.  

 

أكثر من كل هذا شطر العقيدة المدني المتعلق بالعمران والعدل والسياسة، كله أدرج ضمن المباحات وأمور الدنيا، وبقيت العقيدة فقط متعلقة بالغيب الذي لا ينفع معه إلا "وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" أو "أمسكوا"، فكان طبيعيا أن نصاب بالعته الفكري والتخلف الحضاري، وبقاؤنا إلى اليوم معجزة حقيقية، وحتى لا أطيل الحديث على هذه الكارثة، أحيل القارئ إلى موسوعة "جلاء العقيدة" من ثلاثة مجلدات رائعة للدكتور أبو بلال عبد الحامد، وخاصة كتابه الرائع "الحرية والعدل جناحان حلق بهما الاسلام". 

 

إن النضال الحقيقي الذي ينبغي أن تبذل فيه الجهود المضنية والمهج والأموال والأوقات هو النضال الذي يحرر الإنسان العربي المسلم من هاتين الكارثتين، حتى يستقيم على الوسطية عقله وتشرق في جنباتها روحه، فيرجع إلى معنى الإستخلاف الحضاري المتعالي، الذي لا يضحك عليه باسم الدين ولا يستغل في حروب الجيوب باسم الحرية و اللذة!

 

أما الكارثة الثانية فلا تقل عن الأولى، إلا أنّ عمرها لا يزال قصيرا وإن طال بها الزمن معنا، وأخذت الأمواج البشرية في نزوح من الكارثة الأولى نحوها تحت دعاوى الحرية -التي تصدرها بذكاء-، نجد شبكات طويلة عريضة من مصانع إنسان السوق ولهيب السعار الاستهلاكي، إننا أمام عقود وربما قرون أخرى من التخلف لا محالة، وهي كارثة الإنسان المادي ذي البعد الواحد المنفلت من كل قيود باتجاه السوق واللذة المستعرة.

 

نعم، تعتقد الكثير من الجماهير التي تساق الى مسالخ السوق أنها نخب حرة ومتحررة، وأنها لا تعاني من عقد الأيديولوجيا وأنها تحررت من الأساطير الغيبية والعادات البالية، وخيل إليها أنها امتلكت عقلا علميا مبدعا، لكن بدل أن تناضل من أجل تحرير الإنسان حتى يبدع في مجالات الحياة، تسعى لمخاطبة الغرائز والغدد وإذابة المعنى وسلخ الإنسان عن ذاته وحجبه باللذائذ عن البحث في الغايات والمعنى حتى يتحول إلى آلة تستهلك بحثا عن اللذة وتتلذذ بحثا عن سعادة متوهمة بأن ليس لها قرار، تنتهي قبل أن تكتمل لتحل محلها أخرى مدة صلاحيتها أقل من الأولى وهكذا..

 

فاغتيل العقل وساحت الروح وبقي الإنسان المادي الذي ينتج الهمبرغر والنووي جنبا إلى جنب، فلا بقاء إلا للأقوى، ولا غاية للقوي من البقاء إلا اللذة.

 

إن النضال الحقيقي الذي ينبغي أن تبذل فيه الجهود المضنية والمهج والأموال والأوقات هو النضال الذي يحرر الإنسان العربي المسلم من هاتين الكارثتين، حتى يستقيم على الوسطية عقله وتشرق في جنباتها روحه، فيرجع إلى معنى الإستخلاف الحضاري المتعالي، الذي لا يضحك عليه باسم الدين ولا يستغل في حروب الجيوب باسم الحرية و اللذة!

 

ما زال موضوع الحرية الفردية يحتاج إلى مزيد من الإيضاح والتفصيل، لأنّ التفريق بين الالتزام والانقياد في موضوع الاختيار وعلاقته بالعقل أمر غاية في الأهمية، وهذا ما سنتطرق إليه في المقال القادم بحول الله.