لقد أقر الإسلام "الحرية" كحقٍ من الحقوق الطبيعية لكل إنسان؛ فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد الإنسان حريته فإنه لا يطالب بأي واجب من الواجبات، فكل واجبات الإسلام اشترطت ثبوت الحرية!
ولهذا فقد عرّف فقهاء الإسلام الحرية على أنها خلو الآدمي من قيد الرق عليه، وقيود الرق ليست فقط حرية رقبة الآدمي كما يفهمها البعض، بقدر ما هي حرية عقله وإرادته وقراره كشرط أساسي لتحمل الإنسان مسؤولية وتبعات اختياراته.
فالإسلام لا يحمل الإنسان تبعات أي قرار جاء عنوة أو بالإكراه سواء كان بدخول الإسلام أو حتى بالخروج منه، إلا إذا كان هذا القرار باختياره وبكامل إرادته من غير إكراه أو إجبار، يقول الله تعالى: ﴿من كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[1]
فالذي يكفر بالله يخرج من الدين، لكن بشرط أن يكون ذلك باختياره من غير إكراه أو إجبار، أما إذا كان مكرها فحتى لو تلفظ أو فعل ما يجعله كافرًا فلا يؤخذ عليه لا قوله ولا فعله.
ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن "الحرية" أن جعل السبيل إلى إدراك وجودية الله تعالى هو العقل «الحر»، فالعقل الذي لا يقتنع بالإيمان ولا بوجودية الله إلا بتأثير القوى الخارقة (كالخوارق والمعجزات للقوانين الكونية) ونحوها؛ هو عقل مُكْرَه لا يريده الله تعالى، قال جل وعلا: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [2]، بمعنى لو أردنا أن نجبر هذه العقول على الدخول في الإيمان بالإكراه وبالقوة، لأنزلنا من السماء معجزة تخضع لها جميع العقول وتجبرهم على الاستسلام بقوة، وهذا المنطق بعيد كل البعد عن الثوابت والقوانين القرآنية كثابت:﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[3]، فمنع الإكراه في الدخول للدين والتحذير من أن يمارسه أحد على أحد حتى لو كان "محمدًا" عليه الصلاة والسلام، وهذا واضح جدا في سياقات القرآن الكريم.
يقول الله جل وعلا: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[4]، {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًَا إِنْ عَلَيْكَ إِلا البَلَاغُ} الشورى.
تلك الإشارات كلها تحذيرات من استخدام السلطة والنفوذ ضد أي إنسان آخر، سواء كانت السلطة أبوية، تربوية أو حتى دعوية، فالتوهم بشدة الحرص على المقابل لتكرهه على الإيمان أو على الخضوع والانقياد بالقوة أو بالإكراه فهذا خطأ تربوي، ومن الممنوع دينيا وقانونيا، كما قال الله على لسان نوح عليه الصلاة والسلام:﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾[5]، تأتي "أَنُلْزِمُكُمُوهَا" بمعنى نغصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون؟ كما يقول ابن كثير في تفسيره، وهنا لا يمكن لنبي الله نوح عليه السلام أن يجبر قومه على قبول الاعتراف بألوهية الله الحقة، حتى مع وجود الآيات والدلائل، فيقول لهم: ليس من حقي إجباركم؛ أنتم من تختارون بإرادتكم وتتحملون مسؤولية اختياركم.
تحرير الإنسان من القيود المادية والمعنوية يجب أن يسبق اختيار الاعتقاد والسلوك، والتربية يجب أن تكون بالإقناع والحوار والتفاهم؛ لا بالإكراه والتسلط، والاستقامة بالمشيئة والاختيار، لا بالإكراه والإجبار.
إنّ قضية الإكراه والإجبار في مسائل الدعوة وعرض الرسالة للناس؛ بل وحتى في التربية والتنشئة قد حُذِر منها النبي عليه الصلاة والسلام في أن نقع في مثل هكذا أساليب، بل قد جُعلت من أولى مهام النبوة أن الله أوجب على نبيه عليه الصلاة والسلام تحرير الإنسان من قيود الاستعباد والإذلال والإكراه ثم بعدها يعرض عليهم الإيمان، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [5]، بمعنى يحررهم من القيود ويترك لهم حق الاختيار في سلوك طريق الإيمان من عدمه، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾،
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾، فتحرير الإنسان من القيود المادية والمعنوية يجب أن يسبق اختيار الاعتقاد والسلوك، والتربية يجب أن تكون بالإقناع والحوار والتفاهم؛ لا بالإكراه والتسلط، والاستقامة بالمشيئة والاختيار، لا بالإكراه والإجبار.
فموسى عليه السلام حينما طالب بتحرير بني إسرائيل من فرعون، فكان السعي إلى تحريرهم قد سبق تبليغهم الرسالة والنبوة، فالحرية مقصد عظيم من مقاصد ديننا الحنيف، وأساس ومبدأ من أسس التربية الناجحة.