تنامت شعبية مفهوم رأس المال الاجتماعي بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، ورُوِج له كحل سحري معالج للمشكلات المجتمعية والمعضلات الاقتصادية، وضامنٍ لبلوغ تنمية شاملة ومنفعة عامة للمجتمع.
على الجهة المقابلة، هناك من يقلل من أهمية المفهوم ولا يعتبره فكرة جديدة، وإنما نظرية تمت دراسة أسسها وتطبيقاتها سابقا تحت تسميات أخرى، تُسوق بحماسة مبالغ فيها لأغراض معينة، يحاول هذا التقرير تقريب القارئ من مفهوم رأس المال الاجتماعي والإحاطة ببعض جوانبه.
ماذا نقصد برأس المال الاجتماعي؟
لا يوجد في الأدب الخاص بعلم الاجتماع تعريف موحد متفق عليه لرأس المال الاجتماعي، وينبع هذا التنوع -الذي يصل في بعض الأحيان إلى التناقض- في التعاريف من اختلاف السياق الذي يتم من خلاله التطرق لهذا المفهوم فضلا عن تعقد تصوره وتفعيله.
يمثل رأس المال الاجتماعي فكرة مجردة لا ظاهرة ملموسة، حيث يرتكز في المقام الأول على قيمة العلاقات الاجتماعية و أهميتها؛ ويشمل مجموعة من أنظمة القيم الاجتماعية والثقافية والالتزامات والشبكات والأصدقاء والمؤسسات التي تعزز التعاون و تسهل الإجراءات الجماعية لتحقيق المنفعة المتبادلة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. [1،2]
اعتمدت المنظمات الدولية الكبرى -لاسيما منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والبنك الدولي- تعريفها الخاص لرأس المال الاجتماعي، تُعرف OECD رأس المال الاجتماعي بشبكات تشترك في المعايير والقيم والتي تسهل التعاون داخل المجموعات أو فيما بينها. بينما يتخذ البنك الدولي وجهة نظر أوسع و يعرف رأس المال الاجتماعي بأنه "المؤسسات والعلاقات والمعايير التي تشكل نوعية وكمية التفاعلات الاجتماعية في المجتمع، ويعتبر أن رأس المال الاجتماعي ليس مجموع المؤسسات التي يقوم عليها المجتمع فقط بل -إنه الغراء الذي يربطها معا".
في الآونة الأخيرة، أضحى مفهوم رأس المال الاجتماعي أكثر تداولا من قبل علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسة والاقتصاد عن طريق إدراج العوامل الاجتماعية والثقافية لشرح وتفسير نتائج التنمية.
يمكن إرجاع التاريخ الفكري لمفهوم رأس المال الاجتماعي إلى كارل ماركس (1818-1883) وإميل دور كايم (1858-1917) وجورج سيميل (1858-1918) وجون ديوي (1859-1952) وماكس ويبر (1864-1920). يؤكد هؤلاء العلماء على دور الثقافة في التنمية الاقتصادية كتوظيف ضمني لفكرة رأس المال الاجتماعي.
يعد رأس المال الاجتماعي متغيرا مهما في التحصيل العلمي والصحة العامة وإدارة المجتمع، كما أنه يؤثر على الأداء الاقتصادي والتجاري. تتلخص الآثار المفيدة المحتملة لرأس المال الاجتماعي في: نمو الناتج المحلي الإجمالي؛ زيادة فعالية المؤسسات الحكومية؛ انخفاض مستويات الجريمة؛ تسهيل تشغيل أسواق العمل وبلوغ تنمية بشرية مستدامة من خلال التفاعل الإنساني.[1]
6 خطوات لقياس رأس المال الاجتماعي.. «بعيدًا عن التحليل الاقتصادي»
يصعب إدراج رأس المال الاجتماعي في التحليل الاقتصادي لكونه مفهوما مجردا لا يمكن قياسه بشكل مباشر أو سهل، إضافة إلى استخدام العديد من العلماء المفهوم دون مراعاة كافية لنظريته ودون الأخذ بعين الاعتبار التعقيدات المرتبطة به. يميل الباحثون إلى استخدام مؤشرات يمكن قياسها ويعتقد أن لها علاقة سببية بمظاهر رأس المال الاجتماعي القابلة للقياس. تعتمد جودة هذه المؤشرات على العلاقة النظرية والعملية لمظهر رأس المال الاجتماعي الذي يتم قياسه.[3]
من بين الوسائل المقترحة لقياس رأس المال الاجتماعي نجد ProSocial Valuation PSV. تمتاز هذه الأداة بكونها: محايدة؛ شفافة؛ تعتمد على بيانات مأخوذة من أبحاث أولية؛ عالمية حيث تقدم وحدة تأثير مفهومة عالميا لقياس رأس المال الاجتماعي؛ فعالة باعتبارها أداة تحسن من الفعالية والكفاءة.
عمليا، يقاس رأس المال الاجتماعي من خلال:
أولا: تحديد المدخلات وأنواع رأس المال الاجتماعي التي يتم إنشاؤها.
ثانيا: من خلال تمثيل المخرجات أو القيم لكل نوع من أنواع رأس المال الاجتماعي.
ثالثا: عن طريق تقييم ودمج النتائج المحققة استنادا إلى الأبحاث الأولية.
رابعا: قياس السرعة، يتم تقييم كل مدينة ومنطقة وبلد باستخدام مؤشر يقيس عدد السكان وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي والقوة الناعمة (القدرة على الإقناع عن طريق الجذب بدل القوة والإكراه).
بالمقابل، لا يمكن قياس بعض المظاهر المهمة كالابتكار مثلا، مما يدفع إلى تفضيل المبادرات التي تتجنب المخاطر والتي نادرا ما تكون أكثر الطرق فعالية لحل المشاكل الاجتماعية الكبرى.[4]
حدُدت ست صفات غير ملموسة تؤثر بشكل كبير على القيمة ولديها القدرة على الدفع قدما برأس مال اجتماعي وهي:
الجرأة: تصور حلول جريئة مثل معالجة المشكلات المزمنة عوض المشكلات المؤقتة، والتطرق للأسباب الكامنة بدلاً من مجرد علاج الأعراض.
الاتصال: الانخراط بعمق مع المجتمعات التي تُقدم لها الخدمات وخلق المشاركة في العديد من الدوائر الانتخابية التي يمكنها التأثير على النتائج.
القدرات: استخدام البيانات لفهم الاتجاهات والتنبؤ بالسلوك وتحسينه.
الإبداع: تعويض المقاربات التقليدية بحلول مبتكرة.
المثابرة: الاستفادة من الوقت والعلاقات والموارد اللازمة.
التنوع: توليد الإيرادات والدعم من مصادر متعددة.
لإنشاء نطاقات لهذه الأشياء غير الملموسة، يتم الانتقال إلى الأسواق المالية، وتحليل متوسط حصة الأصول غير الملموسة في الميزانية العمومية للشركات المتداولة في البورصات العالمية الكبرى. تغطي الشركات في هذه البورصات أكثر من 50٪ من إجمالي القيمة السوقية العالمية.
يقيم كل غير ملموس حسب رتبته ووزنه بالنسبة إلى الخمس خطوات التي ذكرت سابقا، بالإضافة إلى مساهمته في النتائج. تضاف قيمة النتائج إلى السرعة والأشياء غير الملموسة للوصول إلى إجمالي قيمة رأس المال الاجتماعي التي تم إنشاؤها. سادسا وأخيرا، يقسم هذا المجموع على الميزانية للوصول إلى الرقم الخاص بعائد الاستثمار الاجتماعي.
هل يؤثر رأس المال الاجتماعي سلبًا على المجتمعات؟
رأس المال الاجتماعي يبرز الجوانب الإنتاجية الإيجابية للتواصل الاجتماعي، إلا أنه من الممكن أن تنتج عنه عواقب سلبية، ومن المهم تسليط الضوء عليها.
تشمل الآثار السلبية المحتملة لرأس المال الاجتماعي ما يلي: تعزيز السلوك الذي يؤدي إلى التأثير سلبا على الأداء الاقتصادي بدلا من تحسينه؛ العمل كحاجز للإدماج الاجتماعي وإقصاء المجتمعات التي يمكنها توليد رأس مال اجتماعي للآخرين واستبعاد الغرباء؛ تقسيم المجتمعات بدلا من توحيدها؛ تسهيل الجريمة عوض الحد منها؛ القيود المفروضة على تصرفات الأفراد و خياراتهم؛ عواقب سلبية على سوق الصرف بسبب آليات التنسيق التي تقلل من تكاليف المعاملات. [1]
4 تصنيفات حسب الوظائف والخصائص
أدت محاولات وضع تصور أكثر شمولا لرأس المال الاجتماعي إلى تصنيفه حسب مجموعات مختلفة وفقا للوظائف والخصائص، من بين أكثر الأشكال شيوعا نجد : [5]
• رأس المال الاجتماعي الهيكلي و المعرفي
يرتبط هذا النوع بنمط الشبكات الاجتماعية وغيرها من الهياكل مثل الجمعيات و النوادي والمجموعات الثقافية والمؤسسات المحكومة بالإجراءات والقواعد. يتكون رأس المال الاجتماعي المعرفي بشكل أساسي من مجموعة من القيم والمواقف والمعتقدات المشتركة للأفراد، المرتبطة بالثقة والمعاملة بالمثل والتعاون ويهيئ الأفراد نحو عمل جماعي فيه منفعة متبادلة. يوفر رأس المال الاجتماعي الهيكلي فوائد معينة للجهات الفاعلة، مثل: البحث عن وظيفة أو الحصول على معلومات.
• Bonding, bridging and linking social capital:
يشير Bonding إلى الروابط الاجتماعية بين الأشخاص المقربين جدا مثل: العائلة والأصدقاء المقربين والجيران. يتشابه غالب الأشخاص في شبكات Bonding في الخصائص الشخصية الرئيسية مثل الطبقة الاجتماعية والعرق والمستوى التعليمي والسن والدين والجنس والانتماء السياسي. يعزز هذا النوع من رأس المال الاجتماعي التواصل والعلاقات الضرورية لتحقيق الأهداف المشتركة.
يخص Bridging روابط متباعدة مثل الصداقات البعيدة وزملاء العمل. يختلف الأشخاص المنتمون لهذا النوع من الشبكات في الخصائص الشخصية الرئيسية. يمتلك Bridging دورا محوريا في حل مشاكل المجتمع من خلال مساعدة الناس على معرفة بعضهم البعض وبناء العلاقات وتبادل المعلومات وتعبئة موارد المجتمع.
أما linking فيقصد به الروابط و الشبكات بين الأفراد والجماعات التي تشغل مناصب وسلطات اجتماعية مختلفة تماما.
• الروابط القوية والضعيفة
تشير العلاقات القوية إلى العلاقات الوثيقة والدائمة والملزمة، مثل العلاقات الأسرية والصداقات المقربة التي تقوم على المودة والرغبة في المساعدة؛ في حين تشير الروابط الضعيفة إلى العلاقات السببية والمؤقتة والطارئة، مثل تلك التي تخص أشخاصا من خلفيات وبيئات اجتماعية مختلفة.
• الشبكات الأفقية والعمودية
يميز رأس المال الاجتماعي أيضًا بين الشبكات الأفقية والعمودية، فالعلاقات الأفقية تدل على الروابط الجانبية بين الأشخاص ذوي المكانة والقوة المتماثلة في المجتمع، بينما يشير رأس المال الاجتماعي الرأسي إلى الروابط بين الأشخاص تبعا للتسلسل الهرمي بين الناس. يعمل رأس المال الاجتماعي الأفقي حسب الأعراف والقيم المشتركة، أما رأس المال الاجتماعي الرأسي فيشتغل من خلال هياكل هرمية رسمية.
المفهوم المُعجِزة قد يُواجِه الانهيار!
يُقدَّم مفهوم رأس المال الاجتماعي على أنه مفهوم معجزة قادر على تفسير نتائج التنمية، كما أن تطبيقه السريع واستخدامه الواسع الانتشار جعله أكثر المفاهيم شعبية في العلوم الاجتماعية. رغم ذلك، يواجه المفهوم انتقادات شتى من شأنها أن تؤدي إلى انهيار مشاريع رأس المال الاجتماعي في حالة غض النظر عنها.
من أهم ما جاء في الانتقاد هو الغموض الذي يعتري المصطلح خاصة بسبب توظيفه في سلسلة من السياقات، وتطبيق المفهوم بشكل عشوائي على أي مجال مرتبط بالتواصل الاجتماعي البشري سواء من حيث المبدأ أو من حيث الممارسة، مثل: البنية الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي والعمل الاجتماعي وغيرها من المفاهيم.
أَنشأ العديد من المهتمين تعريفهم الخاص لرأس المال الاجتماعي مما زاد من الصعوبات التعريفية؛ واقتصر الباحثون على مجال اهتمام معين لا يرتبط بما فيه الكفاية بالنظرية الأساسية للمفهوم فدفعهم ذلك إلى إغفال أبعاد و مستويات التحليل الأخرى. [6]
من الانتقادات الرئيسية أيضا لنظرية رأس المال الاجتماعي هي أنها تسيء فهم كل من الاجتماعية ورأس المال، باعتبار أنها ليست اجتماعية وليست رأسمالية بالإضافة إلى فشلها في مواجهة النقد الموجه لها.
وتُتهم النظرية بكونها متواطئة مع الاقتصاد السائد، "الاقتصاد الإمبريالي" ونظرية الاختيار العقلانية. كما اتُّهم البنك الدولي بالترويج لرأس المال الاجتماعي بشدة. إحدى طرق القيام بذلك هي الاعتماد على دراسات الحالة المزعومة لإظهار الدور الإيجابي الذي يلعبه البنك الدولي ورأس المال الاجتماعي، حيث انتُقد استخدام مستشاري البنك "رأس المال الاجتماعي" بطرق متناقضة، مع قليل من الفهم للنظرية المجسدة في المفهوم.[7]
والأهم من التأثير على السياسة الاجتماعية، حسب المنتقدين، هو التوجه المتزايد داخل البنك نحو دعم القطاع الخاص في البنية التحتية والإقراض، واستغلال رأس المال الاجتماعي والمساعدة الذاتية المجتمعية في مشاريع غايتها تحقيق مساعي البنك الدولي الرامية إلى الخصخصة.
واتُهم البنك الدولي أيضا بالدفاع عن استخدام رأس المال الاجتماعي والتغاضي عن أوجه القصور فيه كما روج الرأسماليون الاجتماعيون في البنك الدولي للتأثير الخطابي للمفهوم لتبرير استخدامه.
أخيرا، اعتبُر المفهوم نتاجا لضغوط متناقضة حيث يسعى إلى استيعاب التطورات المادية والفكرية على حد سواء.