مقدمة

تعرَّف هذه الدراسة المؤثرات السياسية على المجتمع وتشرح أبعادها ونتائجها وعلاقتها مع الأنظمة الحاكمة، وعلاقة كل مجتمع مع مجتمع آخر بحسب نمط المؤثر السياسي على كل مجتمع، ومن ثم سيتم تفصيل علاقة الأنظمة مع الشعوب ومع التأثير السياسي الخارجي وارتباطهم بالأبعاد الزمنية والتغيرات الجيوسياسية التي قد تطرأ على المجتمع.

كما تخلص هذه الدراسة إلى التعريف بتغيير نمط المؤثرات السياسية على المجتمع والعوامل المساعدة على هذا التغيير وأبعاد التغيير في كل مكون من مكونات المجتمع.

قد نجد في هذه الورقة اصطلاحات مثل (المؤثر) و(المتغير) وقد استخدمنا هذه الاصطلاحات للدلالة والتعريف بصاحب التأثير (المؤثر) والمتغير (متلقي أو مُستقّبل التأثير).

أولًا: ما هو المؤثر السياسي؟

يمكننا تعريف المؤثر السياسي بأنه كل واجب أو مطلب يوجه الفرد أو مجموعة من الأفراد أو طبقة مجتمعية توجيهًا مدروسًا لصالح المؤثر أو المتغير.

إن العلاقة السياسية أو الاجتماعية بين المؤثر والمتغير علاقة تبادل تأثير، لذا كل طرف منهما يأمل ما يأمله من الطرف الآخر، فالمؤثر قد يرغب بالصوت الانتخابي أو بتبني موقفه من قبل المتغير والمتغير كذلك يتمنى أن يلتزم المؤثر بوعوده.

لذا فالعلاقة بينهما دائمًا ما نجدها في تشنج فكري واضح، لأنّ كل منهما يؤثر ويتأثر بالطرف الآخر، أي أن كلًا منهما لا يتمتع بالاستقلالية السلطوية أو الفكرية، كل ذلك نتج عن خلاف بوضع صيغة العقود الاجتماعية التي تحد من العلاقة بين المؤثر والمتغير.

شهدت أواخر القرن الماضي الكثير من الأحداث التي لعبت دورًا كبيرًا في التأثير على الأنظمة الحاكمة أو على الشعوب، على سبيل المثال كان للجماعات العرقية أثرًا لا يستهان به في التأثير على الانتخابات الأمريكية أواخر القرن الماضي، وفي نفس السياق حين أُعطيت المرأة حق التصويت والاقتراع وجدت الحكومة موجة استحسان من قِبل الشعب وذلك مما ساعد في ازدياد عدد المصوتين من كلا الجنسين النساء والرجال.

ثانيًا: أنماط المؤثرات السياسية

تُحَدَد علاقة التأثير بين المؤثر والمتغير ضمن الآراء السياسية والأيديولوجيا والتغييرات الجيوسياسية التي قد تطرأ على الدولة أو على المجتمع، ولما يملك المؤثر من مصالح كبرى وأهداف أعمق يرغب بالتأثير بها على المتغير كان لا بد من وضع دراسة تفصيلية توضح نمط التأثير وكيفية تفاعل المتغير معه وانعكاساته على الواقع وكان من اللازم عليه تحديد شكل العلاقة التي ستربط كلًا من المؤثر والمتغير وتحديد شكل العلاقة التي ستربطه مع المؤثرات الخارجية عليه، وعليه فقد ذهب بعض علماء الاجتماع إلى تصنيف المؤثرات وفرزهم ضمن نمطين اثنين:

  • مؤثرات سياسية طويلة المدى
  • مؤثرات سياسية قصيرة المدى

لكل فعل رد فعل في قوانين الفيزياء، وعليه فقد تم تحديد خطط عمل المؤثر وما سيجري من تغيير على المتغير وتبدأ العملية بشكل حلقة صراع، وتتوزع ضمن هذه الحلقة مصالح المؤثر وكلما توسعت أهداف المؤثر فإن نقاط تأثيره ستزداد تلقائيًا لتحقيق سياساته، ولا يشترط هنا أن يكون المؤثر طرف واحد قد يكون أكثر من طرف يؤثر ويتأثر ولكن نسبة تأثيره تغلب على التأثير به.

المؤثرات السياسية طويلة المدى

1 - الأسرة: تأتي في أولى مراتب المؤثرات السياسية طويلة المدى، إذ أن للأسرة دور كبير في توجيه الآراء السياسية والأيديولوجية للطفل وخاصة في مرحلة الطفولة واليفع، وتكون في هذه المرحلة العمرية قابلية التأثر في أعلى مستوياتها، لذا إن للعائلة دور كبير في التوجيه السياسي وفي تغيير وبناء القاعدة الفكرية والاجتماعية للطفل.

2 - المعلم: وتلك هي نقطة القوة التي يملكها المؤثر لتغيير السلوك السياسي والتوجيه الفكري لما يخدم مصالحه ويضمن له البقاء في موضع السيطرة، إذ أن للمعلم الأثر الأكبر على الفرد في تغيير سلوكه وأيديولوجيته وهذا ما يمكن أن نسميه بـورقة الضغط التي يمسكها المؤثر للضغط على المتغير.

3 - الخطاب الموجه للمتغير: قد نستغرب من أن يؤثر خطاب واحد على ملايين الأفراد، ولكن هذا ما حصل ويحصل فعلًا، إذ أن للخطاب الشعبي الحماسي والانفعالي دور كبير في توجيه الأفراد لما يضمن مصالح المؤثر، ومثالها خطابات هتلر المليئة بالصراخ وكلمات الحماس مثل (حرب – نصر – مجد – أرضنا...)

 

4 - الأقران: وهنا نجد أن القاعدة المركزية لفكر المؤثر قد أخذت بالتوسع والانتشار على مستوى مجموعات وجماعات من الأقران والأصدقاء التي قد ينتمي لهم الفرد، وهنا أيضًا للمؤثر دور كبير في تنظيم هذه المجموعات وتعبئتها بما يخدم سياسته ومصالحه.

* المؤثرات السياسية قصيرة المدى

1 - وسائل الإعلام: السلطة الرابعة كما يسميها البعض، إلا أنها بالنسبة للمؤثر هي سلطة أولى إذ ساعدته كثيرًا في إيصال تأثيره وفكره للمتغير، وهنا نشأت فكرة إنشاء قنوات اتصال وتواصل لصالح المؤثر كي يبث من خلالها كل ما يخدم مصالحه وأيديولوجيته، ومع تقدم الزمن وتطور التكنولوجيا أصبحت وسائل الإعلام الموجه الأكبر وصاحبة التأثير السياسي الأول. 

2 - المسائل الانتخابية: يذهب بها الكثير من الأطراف السياسية إلى التناحر فيما بينها وتراشق الاتهامات الكثيرة، وذلك لما ما لها أثر كبير على مستقبل المؤثر ولضمان بقائه ولتوسيع قاعدته الشعبية بين أوساط مؤيديه، ومثالها الحملات الأمريكية للرئاسة والتي تشهد مناظرات دائمة بين المتنافسين.

3 - الحملات السياسية: وهي تلك الحملات التي قد تنشأ نتيجة لخلاف حزبي أو عقائدي، وهنا يتبادل طرفان سياسيان الكثير من الأحاديث المشحونة بالتنافس لتحقيق مصالح الأقوى، وقد تكون الحملة بين أفراد أو جماعات أو أحزاب أو تيارات، ومثالها الحملات التي شهدتها الساحة اللبنانية عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني (رفيق الحريري) ومن قبلها الحملات السياسية التي أدت إلى حرب أهلية في عام 1975م وانتهت في عام 1990م وتعتبر من أهم أسباب الحرب الحلف الماروني الذي اصطدم مع تيارات المقاومة الفلسطينية ابتداءً من عام 1973م. 

ثالثًا: جماعات الضغط الاجتماعي والسياسي

تعود نشأة جماعات الضغط إلى بدايات القرن العشرين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتبلور المصالح الدولية لكلا المعسكرين الشرقي (الشيوعي) والغربي (الرأسمالي) وبروز مصطلح (العالم الثالث) لينقسم العالم إلى ثلاث أقطاب.

تنشأ جماعات الضغط نتيجة نشاط سياسي أو اجتماعي، وتكمن في خلفية هذا النشاط مطالب علنية صريحة ومطالب خفية إذ تقوم كل جماعة ضغط أو تأثير على بناء القاعدة الشعبية الكبيرة وبناء العلاقات السلطوية التي قد تمنحهم الغطاء السياسي والاجتماعي لنشاطهم، بالتساوي مع أهدافهم الخفية التي قد تكون أكثر أهمية بالنسبة للسلطة أو المؤثر.

تعتبر الحكومات العالمية أن جماعات الضغط هي حليف مخفي لها، لما كان الأهمية الكبيرة والتأثير الواسع والانتشار القاعدي الكبير فقد وجدت الحكومات أن جماعات الضغط هي من اقوى الحلفاء الذين يمكن أن يعتمد عليهم، حيث وُجِدَ في وثائق مسربة عن ويكي ليكس عن ارتباط نشأة تنظيم القاعدة بجهاز المخابرات الأمريكية إذ كان لا بد في أواخر الثمانينيات من دعم موجه لمن يحارب المعسكر الشرقي الممثل بالاتحاد السوفييتي، وخاصة بعد الأحداث التي نشبت في مطلع التسعينيات في الشيشان والقوقاز. 

رابعًا: الأهمية والأبعاد

تكمن أهمية المؤثر على التوجيه السياسي في أن تُستثمر قضايا الشعوب لتحقيق مصالح وسياسات المؤثر ولكن دون علم للمتغير أنّ هذا العمل أو الفعل سيخدم المؤثر أو السلطة الحاكمة.

من أهم المسائل التي تستخدمها السلطة الحاكمة للتأثير على الشعوب هي مسألة التربية أولًا والتعليم ثانيًا لما كان لهذان العنصران من أهمية تكمن في رسم خارطة طريق الجيل الجديد الذي سيتلو الجيل الذي رافق رسم هذه الخارطة، وهنا بدأنا بالدخول إلى الدائرة التي لا نهاية لدورانها.

تتمركز نقاط القوة لدى السلطة بـ: (القوة العسكرية– الاقتصاد– السلطة التشريعية والتنفيذية) وهنا لا نحتاج إلا للشعوب، تبدأ المعادلة بالأساس من المؤثر الأكبر والأقوى وهو الأسرة إذ لا بد من التحكم بسلوك الأسرة بشكل كامل ضمن خطة ممنهجة للسيطرة عليها، تبدأ القصة بإصدار عدة أحكام تشريعية وقضائية فإما أن تلتزم بها الأسرة وبذلك تكون السلطة قد اجتازت نصف الطريق إلى هدفها، وإما أن تخالف هذا الأحكام وبذلك تدخل السجن، وبكلا الحالتين فالسلطة هي الرابحة لأنها المؤثر الأكبر.

بعد إصدار هذه الأحكام تلجأ السلطة إلى السيطرة على قطاع التعليم وإفساده، ولذك طرقًا كثيرة وما هي إلا مسألة وقت لإنتاج جيل أُمي جاهل يتلقى تعليماته من السلطة ويتقيد بسياساتها.

الآن أصبح المجتمع موجود، ولكنه (مجتمع قابل للاستعمار) كما وصفه مالك بن نبي في كتابه (مشكلات الحضارة)، وهنا تكون السلطة حققت هدفها بالكامل بالسيطرة التامة على المجتمع سياسيًا اقتصاديًا ثقافيًا فكريًا، وهذا ما حصل في عدة دول عربية شهدت أحكام طويلة من السيطرة عليها من قِبَل السلطات، ولكن ومع ذلك –قد– تنقلب المعادلة ليصبح الشعب هو المؤثر وقد حصل في الإنتخابات الأمريكية للرئاسة عام 1932م حين فاز روزفلت المناضل لحقوق الإنسان بكرسي الرئاسة.

خامسًا: وسائل الإعلام

تعود وسائل الإعلام في النشأة إلى بروز نجم الصحافة قبل حوالي أربعة عقود، حيث كان لها تأثير كبير على آراء الشارع في وسط فوضى الأخبار، ومن ثم تطورت بانتشارها إلى الكثير من الدول العربية والغربية، ومن ثم لاختراع الراديو والتلفزيون.

قد نستغرب من أن نسبة تأثير السلطات وأجهزة المخابرات ورجال الأعمال على وسائل الإعلام قد تصل حتى 90% في حين أن للنقابات المهنية نسبة 4.5% وللمجتمع المدني 4% وللجمهور 1.5%. [1]

إن المنظومة الفكرية والاجتماعية والتي تعمل السلطة الحاكمة عليها منذ استلامها للحكم هي تغييب المجتمع عن الحقيقة وتعطيل مساحة الصراع في دماغ الفرد وخوفه من سؤال (كيف ولماذا ومن) وغيرها من الأسئلة الأخرى والتي قد تنم عن وعي وخلفية ثقافية جيدة.

و لكن تأتي مصالح النظام الحاكم بالمقدمة، لذا أي سلطة حاكمة في العالم ترغب ببسط سيطرتها على كافة مفاصل وأركان الدولة، وبسبب أن الراديو والصحيفة والتلفزيون أصبحوا في متناول الجميع لذا كانت السيطرة عليهم تعني أن رأي السلطة السياسي وتوجيهها المدروس يصل إلى كل فرد من أفراد المجتمع.

 

وفي هذا الشأن كان للمفكر والمصلح عبد الرحمن الكواكبي كلمته في كتابه (طبائع الاستبداد) حيث قال: (إن للكلمة المقروءة أثر ولكن للكلمة المقروءة والمسموعة أثر أكبر وللكلمة المقروءة والمرئية أثر أكبر)، وعلى هذا فقد بدأ المؤثرون السياسيون برسم خططهم لبناء امبراطوريات إعلامية وقلاع متينة من أجل تمرير مصالحهم ولتحقيق التأثير المأمول.

سادسًا: التأثيرات الخارجية على المؤثر والمتغير

إن النتاج السياسي والفكري والاجتماعي لأي مجتمع أو دولة أو حزب يؤثر ويتأثر بالأطراف الأخرى، إذ أن دخوله إلى حلقة الصراع يضمن له الاستمرار والبقاء ضمن محيط المنافسين له ولسياساته، كذلك هو الحال أيضًا بالنسبة إلى كل مكون مجتمعي.

فإذا أوجدنا دولة ما، نلاحظ أن مع تطور ونشأة حضارة هذه الدولة فإنه ينتج لدينا الكثير من المؤثرات الداخلية والخارجية، فلو أن هذه الدولة اكتشفت منجمًا من الذهب ستسارع باقي الدول المحيطة إلى إبرام الاتفاقيات والمعاهدات مع هذه الدولة من أجل الحصول على نسبة من هذا المنجم، وسترسل لها المعدات واليد العاملة ويتوسع التعاون الاستخباراتي والأمني بينهما، وفي بعض الأحيان لا تلجأ الدول المجاورة إلى الطرق السلمية فتنتج لدى الدولة المُنجمة الخلافات والنزاعات الداخلية عن طريق شراء ذمم المعارضين للسلطة وبذلك تبسط سيطرتها على المنطقة وتأتي كأنها حمامة سلام، ومثال هذا التأثير الغزو الأمريكي على العراق عام 2003م الذي كان بسبب توسع انتشار النفوذ الإيراني في المنطقة، لذا كان لا بد من الغزو الأمريكي لضمان مصالحها في الشرق الأوسط، وقد جاء هذا الغزو كأنه المُخَّلص من الظلم والطغيان، وذلك بعد حرب إعلامية ضروس شنتها دول التحالف حينها على العراق.

و قد نجد في بعض الأحيان تأثيرًا مجتمعيًا أكثر من أن يكون سياسيًا، فقد يتأثر مجتمع ما بعادات وتقاليد وثقافة مجتمع آخر مجاور له، وذلك ما نجده جليًا على المناطق الحدودية بين دولة وأخرى، إذ أن العادات والثقافة والعرق الواحد بات أن يكون ساديًا بشكل مطلق.

​​​​​