الأنبياء هم ينابيع الهدى في أرض البَشَر الروحية، وورثتُهُم من العلماء والمفكِّرين هم أمَنةٌ جددٌ على الوحي، وامتدادٌ لقافلة الرسل على مدار القرون والأجيال، فشكِّل الجميع موكباً متصِّلاً قد تماسكت حلقاتُهُ، لأداء مهمِّة كبرى هي أمانة إبلاغ هذا الدين للعالمين. 

إنَّ العلماءَ هم الذين يسوسون العباد والبلاد والممالك، فموتُهم فسادٌ لنظام العالَم، ولهذا لا يزال اللهُ يغرسُ في هذا الدِّين منهم، خالفاً عن سالفٍ يحفظُ بهم دينَه وكتابَه وعبادَه. 

العالم الربانيُّ الذي لا يعرف للنفاق سبيلاً، ناطقٌ بالحقِّ لا يخشى في بيانه لومة لائم، يقول الله تبارك في علاه: (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ) [ النحل:27]

{قَالَ الَّـذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: العلمـاء الربانيون {إنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ} أي: يوم القيـامة {وَالسُّوءَ} أي: العذاب {عَلَى الْكَافِرِينَ}، وفي هذا بيانٌ لفضل أهل العلم، وأنهم لسان أهل الحقِّ في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأنَّ لقولهم اعتباراً وشأناً عند الله وعند خلقه. 

وشاءت إرادة المولى الحكيم الخبير، أن لا يدع الأمَّة تتخبَّط في الظلماء، دون أن يرسل لها من يجدِّد لها أمر دينها، ويذبُّ عن حياضه، ويبطل شُبَه أهل الإفك ويحطِّم صروح الضلال، فالأئمة المصلحون، هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى. 

العلماء والمفكرون وروَّاد الدعوة، هم حصن الأمَّة وخطُّ دفاعها الأول في وجه الأعادي وفي وجه أعاصير الأفكار والمذاهب الهدَّامة التي تعصف بالأمَّة، ثم هم مرجعية الأمَّة في النوازل التي تستجدُّ في حياتها. 

يقول الإمام الجوينيُّ رحمه الله: "فإذا شغَرَ الزمانُ عن الإمام وخلا عن سلطانٍ ذي نجدةٍ وكفايةٍ ودرايةٍ، فالأمورُ موكولةٌ إلى العلماء، وحقَّ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدُرُوا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد". 

ونحن نعاني من نوازلَ في الاقتصاد وفي مسائل في علم الاجتماع وسواهما، والأهمُّ منها نوازل العقيدة والفكر. وقد امتطى الدكتور عمارة جواد الردِّ على بني علمانَ، في حجَّةٍ تتبختر اتضاحاً أمام شبهةٍ تتضاءل افتضاحاً، فأخرس ألسنتهم، وكسَّر أقلامهم، وألحق بهم هزيمةً نكراءَ، أصابهم بسهامها في مقتل.

ومن مهامِّ العلماء الربانيين إعداد جيلٍ لمشروع نهضويٍّ، تحتاجه الأمَّة، وهكذا كان عهدنا بالدكتور عمارة عليه شآبيب الرحمة والرضوان. ولا غرابة أن نرثيه في مقالٍ متواضعٍ لهامةٍ كبيرةٍ سار اسمها مسيرة الشمس، وقد قال محمَّد بن الحنفية يوم مات ابن عباس رضي الله عنهما:" اليوم مات ربانيٌّ هذه الأمَّة ". لافتاً نظرنا إلى استحباب تسليط الضوء على من ورِث وورَّث علماً، أو كتب فكراً ينير للأمَّة طريقها ويصحِّح مسارها.

غادر الدكتور محمَّد عمارة سطح المعمورة، عن عمرٍ يناهز التاسعة والثمانين، تاركاً لنا ثلاثةً وسبعين كتاباً، قارَعَ فيها أعداء الإسلام، وفي مقدمتهم المستشرقين والليبراليين. رحمه مولاه وأثابه الجزيل، وعوَّض الأمَّة أمثاله، إنه سبحانه خير مأمول.