هل سبق وتساءلت لماذا تقبع دول في الفقر بينما تنعم أخرى بالازدهار؟ أو عجزت عن إيجاد تفسير مقنع للفوارق الصادمة بين الدول من حيث النمو الاقتصادي والدخل الفردي؟ مع ازدياد توسع الشرخ الاقتصادي بين الأمم، من الطبيعي أن يتساءل المهتم بأحوال المجتمعات عن مسببات التقدم الاقتصادي والعوامل التي جعلت البعض يتخلف اقتصاديا رغم ما يزخر به من مقومات في الوقت الذي يشهد فيه البعض الآخر صحوة اقتصادية هائلة. 

لعل من أهم الأبحاث التي تجيب على أسباب النهوض الاقتصادي ومعيقاته هي الدراسة الاستقصائية Institutions as the Fundamental Cause of Long-Run Growth والتي أعدها Acemoglu et al وهي تدفع بنظرية مفادها أنّ المؤسسات هي السبب الرئيسي لاختلاف النمو بين الدول عبر طرح منهجي مدعوم بحجج و بتجارب واقعية من التاريخ. نقدم من خلال هذا التقرير ملخصا لأهم ما جاءت به نظرية المؤسسات. [1] 

هل تعرف مفهوم المؤسسات؟

تُعرَّف المؤسسات على أنها الضوابط التي تحكم اللعبة في المجتمع أي أنها القيود الموضوعة لتأطير التفاعل الإنساني وتتجلى أهميتها في هيكلة الحوافز السياسية والاجتماعية والاقتصادية لخلق نتائج اقتصادية. وعليه، فإن المؤسسات الاقتصادية الجيدة هي التي تحرص على أمن حقوق الملكية وولوج شريحة واسعة من المجتمع للموارد الاقتصادية كما تشجع على الاستثمار والابتكار وتسهلهما. 

لماذا توجد فوارق اقتصادية مهولة بين البلدان؟

وفقا للدراسة، لا يمكن نفي أو إلغاء دور العوامل الثقافية والجغرافية في تحقيق النمو الاقتصادي لكن تبقى المؤسسات الاقتصادية هي المصدر الأساس للاختلافات الاقتصادية بين البلدان والمسؤولة بالدرجة الأولى عن ظهور ازدهار اقتصادي من عدمه من خلال تحديد حجم النمو وتوزيع الموارد في المستقبل (توزيع الثروة ورأس المال المادي والبشري).

يستند جوهر النظرية التي تقدم المؤسسات الاقتصادية على أنها السبب الرئيسي لأنماط مختلفة من النمو الاقتصادي على أن النجاح أو الفشل في بلوغ الازدهار مرهون بالوسيلة التي يقرر بها الأفراد كيفية تنظيم مجتمعاتهم أي بعبارة أخرى نوع المؤسسات التي يتم اختيارها لتحكم المجتمع وتؤطره. فالمؤسسات التي تشجع الأفراد على الابتكار والتعلم وتحمل المخاطر والادخار للمستقبل وتضمن قدرا من تكافؤ الفرص بما في ذلك المساواة أمام القانون تحقق ازدهارا اقتصاديا ملحوظا مقارنة بغيرها. 

  • دفع المؤلفون بأمثلة تاريخية تدعم نظرية أن المؤسسات الاقتصادية، بدل العوامل الجغرافية والثقافية، هي التي تسبب اختلافات في دخل الفرد من بينها:
         1.التجربة الكورية

بعد انقسام الكوريتين الشمالية والجنوبية في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، نظم البلدان المستقلان أنفسهما بطرق متباينة واعتمدا أنظمة مؤسسات مختلفة كليا عن بعضها البعض حيث تبنى الشمال نموذج الاشتراكية السوفيتية والثورة الصينية في إلغاء الملكية الخاصة للأرض ورأس المال. علاوة على ذلك، فإن القرارات الاقتصادية لم تتم بواسطة السوق، بل عبر الدولة الشيوعية. في حين حافظ الجنوب على نظام الملكية الخاصة وحاولت الحكومة استخدام الأسواق والحوافز الخاصة من أجل تنمية الاقتصاد.

قبل حدوث هذا التغيير المؤسسي الجذري، تقاسم البلدان نفس التاريخ والجذور الثقافية كما أن الفروق الجغرافية بين الشمال والجنوب تعد طفيفة حيث يمتاز كلاهما بنفس الإمكانات الجغرافية من حيث الوصول إلى الأسواق وتكلفة النقل إلا أن الكوريتين شهدتا منذ الانفصال مسارات متباينة بشكل لافت للتنمية الاقتصادية تعزى بالأساس إلى اختلاف المؤسسات. 

يوضح الرسم البياني أسفله اختلاف الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بين الكوريتين خلال الفترة ما بين 1950 و 2010. [2]

 

      2.التجربة الاستعمارية 

لإقامة الدور الرئيسي للمؤسسات الاقتصادية في ازدهار وفقر الأمم، عزز Acemoglu et al نظريتهم بالاستعمار "كتجربة طبيعية" أوسع نطاقا للاختلاف المؤسسي: تبرهن هاته التجربة بشكل قاطع على الدور المركزي للمؤسسات في التنمية الاقتصادية، فالتاريخ يدل على حدوث انقلاب ملحوظ لثروة مستعمرات أوروبية كانت تشهد قبل قدوم المستعمرين ازدهارا اقتصاديا. التفسير المنطقي لهذا الانقلاب ينبع من فرضية المؤسسات.

  • المؤسسات الاقتصادية وانقلاب الثروة 

تعتبر الدراسة أن الاستعمار أدى إلى انعكاس مؤسسي حيث انتهى المطاف بالمستوطنات الثرية والمستقرة ذات الكثافة السكانية المرتفعة نسبيا والمتمدنة مع مؤسسات أسوأ تهدف إلى استخلاص الثروات في حين شهدت المناطق منخفضة السكان والغير متمدنة تدفق المهاجرين الأوروبيين ومؤسسات متطورة عملت على حماية حقوق ملكية قطاع عريض من المجتمع.

لماذا أدخل الأوروبيون مؤسسات أفضل في المناطق الفقيرة والغير مستقرة على عكس المناطق الغنية المستقرة؟

حسب Acemoglu et al كان من مصلحة الأوروبيين في المناطق المكتظة بالسكان والمتقدمة نسبيا وضع مؤسسات تسهل استخراج الموارد، وبالتالي تسيطر عليها مجموعة لا تحترم حقوق الملكية للأغلبية، على النقيض من ذلك ورغبة في تحقيق استفادة قصوى، سهروا في المناطق المضطربة على تطوير مؤسسات اقتصادية تحمي حقوقهم الملكية لذا أدت هاته الحوافز إلى انعكاس مؤسسي حيث أسس الأوروبيون عن وعي مؤسسات متباينة اقتصاديا في مختلف المستعمرات انعكست على الأداء الاقتصادي. 

شملت الموارد المستخرجة الذهب والفضة والسلع الزراعية القيمة مثل السكر كما استغل المستعمر العنصر البشري في الأماكن ذات قاعدة عريضة من السكان الأصليين من خلال فرض الضرائب أو العمل كسخرة في المناجم والمزارع. فنتج عن ذلك هضم الحقوق الاقتصادية والمدنية لغالبية السكان. 

تطرقت الدراسة إلى الدور الذي لعبته البلدان الاستعمارية في تغيير المؤسسات بمستعمراتها كهولندا التي كانت تتوفر في القرن 17 على أفضل المؤسسات الاقتصادية المحلية في العالم على عكس المؤسسات التي أنشأتها في مستعمرات جنوب شرق آسيا والتي كانت مصممة لاستخراج الموارد وتوفير القليل من الحقوق الاقتصادية أو المدنية للسكان الأصليين. كما أشاروا إلى مستعمرات بريطانيا الغير ناجحة من حيث نصيب الفرد من الدخل كما هو الحال في إفريقيا والهند وبنغلاديش. 

لماذا تختلف المؤسسات؟

  • دور السلطة السياسية في اختلاف المؤسسات 
لماذا تمتلك الدول مؤسسات اقتصادية مختلفة؟ إذا كانت المؤسسات الاقتصادية هي سبب فقر البلدان، فلماذا لا تحوّل إلى مؤسسات أفضل؟ 

تعد المؤسسات الاقتصادية خيارات جماعية محلية للمجتمع، إلا أن المصالح تتضارب بين مختلف الأفراد والجماعات حول اختيار هاته المؤسسات لتؤول في الأخير الغلبة لا للمجتمع بأكمله أو لصالحه ولكن للمجموعة التي تتمتع بالسلطة السياسية الأكبر. بصيغة أخرى، يخص صراع المصالح هذا توزيع الموارد وهذا الأخير هو الذي يحدد اختيار المؤسسات السياسية والاقتصادية.

إن السبب وراء عدم الفعالية الاقتصادية والفقر يكمن في مشاكل الالتزام المرتبطة باستخدام السلطة السياسية Commitment problems. إذ لا يمكن للأفراد الذين يتمتعون بالسلطة السياسية الالتزام بعدم استخدامها لصالحهم. يتعلق أصل مشكل الالتزام في السياسة بغياب طرف ثالث خارجي محايد يمكن الوثوق به لفرض الاتفاقيات المرتبطة بالخيارات المؤسسية. 

تظهر المؤسسات الاقتصادية غير الفعالة بسبب احتكار السلطة السياسية من طرف النخب فيؤدي ذلك إلى عدم إجراء استثمارات منتجة وعدم استغلال فرص النمو الاقتصادي. إلى جانب آخر، ترغب هاته النخب في حماية سلطتها السياسية من خلال تأسيس وإبقاء المؤسسات الاقتصادية الغير فعالة لأنها تشكل مصدر دخل وامتيازات لها. إن احتمال ضياع السلطة السياسية يجعل النخبة تقيم كل تغير اقتصادي محتمل ليس فقط وفقا لعواقبه الاقتصادية كآثاره على النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل ولكن أيضا وفقا لعواقبه السياسية. الخوف من الخسارة السياسية وفقدان السلطة هو الذي يعيق تبني مؤسسات اقتصادية من شأنها تحفيز النمو الاقتصادي وهو بدوره متعلق بإشكالية الالتزام.

العلاقة بين السلطة السياسية والمؤسسات الاقتصادية والسياسية 

     1.مصادر السلطة السياسية

ميز Acemoglu et al بين نوعين من السلطة السياسية: 

  • السلطة السياسية الشرعية المؤسسية (القانونية) De jure political power وهي السلطة التي تنشأ من المؤسسات السياسية في المجتمع. على غرار المؤسسات الاقتصادية تُلزم المؤسسات السياسية الجهات الفاعلة في الساحة السياسية بقيود. تشمل أمثلة المؤسسات السياسية شكل الحكومة كالديمقراطية مقابل الديكتاتورية أو الاستبداد، ومدى القيود المفروضة على السياسيين والنخب السياسية.
  • السلطة السياسية الفعلية : De facto political power يمكن لمجموعة من الأفراد، حتى لو لم يتم منحهم السلطة من قبل المؤسسات السياسية، -على النحو المحدد في الدستور مثلا- امتلاك السلطة السياسية عن طريق التمرد أو استخدام الأسلحة أو استئجار المرتزقة أو إشراك الجيش أو استغلال الاحتجاجات السلمية من أجل فرض مخططاتهم. يشار إلى هذا النوع من السلطة السياسية بالسلطة السياسية الفعلية. 

لتوضيح تأثير السلطة السياسية الفعلية، أدرج Acemoglu et al مثال الرئيس التشيلي سلفادور أليندي الذي تم انتخابه في أوائل سبعينيات القرن العشرين بتعددية الأصوات الشعبية ووُكلت له السلطة ديمقراطيا من قبل المؤسسات السياسية الرسمية لاقتراح التشريعات وإصدار المراسيم. تمتع سلفادور أليندي بقدر كبير من السلطة السياسية الشرعية على الرغم من عدم حصوله على الأغلبية المطلقة في الكونغرس إلى أن تمت الإطاحة به عبر انقلاب عسكري دموي في الحادي عشر من شتنبر لعام 1973. كان الجيش حينها قادرا، تحت قيادة الجنرال بنوشيه، على استخدام العنف والأسلحة لتجاوز المؤسسات السياسية الرسمية.

23 غشت 1973: حضور الجنرال التشيلي أوجوستو بنوشيه، إلى اليسار، والرئيس سلفادور أليندي حفل تنصيب بنوشيه كقائد أعلى للجيش. (APnews)

11شتنبر 1973: تعرض قصر لا مونيدا الرئاسي للقصف أثناء الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس سلفادورأليندي. (APnews)
       2.السلطة السياسية والمؤسسات السياسية

كيف تتطور المؤسسات السياسية بمرور الوقت وكيف تؤثر على توزيع السلطة السياسية؟ 

دائما في إطار مثال التشيلي، يضيف Acemoglu et al أن السلطة الفعلية التي تمتع بها الجيش التشيلي أوائل سبعينيات القرن العشرين مكنته من إلغاء الدستور الشيلي و قلب كلي للسياسات و المؤسسات الاقتصادية التي اختارتها حكومة أليندي ثم عمل بعد ذلك على وضع مؤسسات اقتصادية خاصة به عبر تحرير النظام التجاري والاقتصاد. علاوة على ذلك ونظرا لأهمية المؤسسات السياسية كمصدر للسلطة السياسية، كان نظام بنوشيه شديد الاهتمام بالمؤسسات السياسية حيث أعاد كتابة الدستور عام 1980. 

إذا كانت السلطة الفعلية حاسمة في التشيلي فأي دور تبقى للمؤسسات السياسية؟ إذا كان احتمال الانقلاب على الدستور قائما، فلماذا تَكلُّف عناء إعادة كتابته من الأساس؟

يكمن الجواب حسب Acemoglu et al في الطبيعة المؤقتة للسلطة الفعلية، يقصد بذلك أن الظروف كانت مواتية لحدوث الانقلاب سنة 1973 ونجاحه. من جهة، قد ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك في تهميش فصائل الجيش المعارضة للانقلاب. ومن جهة أخرى، شجعت الولايات المتحدة الأمريكية الإطاحة بالحكومة الاشتراكية المنتخبة ديمقراطيا ودعّمت ذلك. وبالتالي، يستبعد توقع اجتماع مثل هاته الظروف باستمرار. بمجرد عودة المجتمع التشيلي إلى الديمقراطية كما حدث بعد عام 1990، يردف Acemoglu et al ، أن الجيش لن يتمكن من تهديد المناخ الديمقراطي بانقلاب جديد. 

لذلك، فإن الدور المحوري للمؤسسات السياسية يبرز من خلال تأثيرها على التوزيع المستقبلي للسلطة السياسية وقدرتها على قلب موازين القوى السياسية. 

المؤسسات السياسية وتوزيع الموارد 

تبعا لما سبق، تعد المؤسسات السياسية وسيلة للتلاعب بالسلطة السياسية المستقبلية ولتشكيل كل من المؤسسات والنتائج الاقتصادية الحالية والمستقبلية. لذا وفقا للتسلسل الهرمي الذي تقدمه نظرية المؤسسات : تؤثر المؤسسات السياسية على توزيع الموارد وكلاهما يؤثران على توازن المؤسسات الاقتصادية وهاته الأخيرة تحدد بدورها النتائج الاقتصادية.

أخيرا، يعتبر Acemoglu et al أن توزيع الموارد في المجتمع هو قرار سياسي الصنع يميزه الصراع وينتج عنه مشاكل التزام كبيرة لأن المجموعات ذات السلطة السياسية لا يمكنها التعهد بعدم استغلال سلطتها لتغيير توزيع الموارد وفقا لأجندتها ومن المرجح في المستقبل الانقلاب على أي تغيير، في السياسات والمؤسسات الاقتصادية يكون مبنيا فقط على السلطة السياسية الفعلية. 

الآن، وبعد قراءتك للمقال هل أقنعتك النظرية التي ترى أن المؤسسات هي الفاعل الأول في النمو الاقتصادي للدول أم لديك رأي آخر؟