كان أول تعرفي على مالك بن نبي عام 1971م، عندما حضر إلى دمشق، وكنت جديد التخرج من كلية الطب. وأول مشكلة واجهتنا في زيارته أنه اعتقل في بيت قيادي إسلامي -بكلمة أدق حيل بينه وبين اجتماعه بالناس- بحجة أن اجتماع بن نبي مع الناس سوف يعرضه للاعتقال؟ ولذا فبدل أن تعتقله قوات الأمن البعثية قام صاحبنا الإسلامي باحتجازه في بيته حتى فك الله سراحه فاجتمع به الناس كل يوم ولمدة شهر كامل.

وكانت حجة الوداع، فمات الرجل بعدها بسنتين بنزف دماغي في الجزائر على ما بلغني وهو في قمة عطائه، وكنت يومها في معتقل الحلبوني، فرأيت في المنام وكأن شبحه زارني، بعدها نقل لنا ونحن في ظلمات الحبس البعثي أن مالك بن نبي مات، رحمه الله في المجددين.

مالك بن نبي مفكر جزائري ولكن أقل الناس استفادة منه الجزائريون، وفي الإنجيل لا كرامة لنبي بين قومه، ومالك بن نبي قال إن المجتمع لا يولد ولادة فعلية إلا بالتخلص من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار. وهذا يصطدم مع الأصنام المشرعة في كل زاوية من كل شارع عربي.

وحسب بن نبي فإن الطفل ينتقل في العادة بين ثلاثة عوالم طبقاً عن طبق، فهو في البدء لا يفرق بين حلمة الرضاعة وثدي أمه، أو الأفعى ورجل المخابرات، ثم ينتقل إلى عالم الأشخاص فيعرف أمه من أبيه، من القائد الثوري الذي يمدح على مدار الساعة ولو كان أنفه أطول من خرطوم الفيل، ثم يودع في النهاية المجسمات إلى المجردات، وكذلك يحصل في المجتمعات التي تنتقل من عبادة الأشخاص إلى الفكر. بمقدار تحرر المجتمع من عبادة الأشخاص إلى عالم الأفكار بقدر نضجها؛ وإلا كانت في حالة صبيانية، وهي الكلمة الصادمة الموجعة التي قالها الرجل في وصفه القيادة البعثية وهي تستغيث العالم في كارثة 1967م، ومنها إعلان سقوط الجولان قبل أن يسقط، فتصرفت كما يتصرف الطفل وهو يواجه المشاكل بالصراخ والبكاء ورفس الرجل على الأرض.

وكنا يومها نسمع له في مدرج جامعة دمشق وهو يتكلم عن مائدة مستديرة عقدت في فرنسا لفهم أبعاد الكارثة، فصعقنا وأدركنا أننا مثل فئران التجارب، وقال بن نبي يومها أن أزمة الخامس من حزيران لم تكن هزيمة عسكرية بل أزمة حضارة دلفت إلى ليل التاريخ. وكل كتب بن نبي أخذت هذا العنوان (سلسلة مشكلات الحضارة).

ومالك بن نبي كتب بلسانين العربي والفرنسي ولكن لم يستفد منه لا العرب ولا الفرنسيون، إلا في رصده ضمن دوائر الصراع الفكري كما أشار إلى ذلك في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) عن لعبة المرآة.

وكتبه التي زادت عن عشرين باللغة العربية لم توقظ العرب بأكثر من مواء قطة في ليل بهيم لنائم يشخر؛ فالعرب مشغولون بقضية فلسطين، والرجل قال لهم إن مشكلة فلسطين جانبية وعرضية ونتيجة لمرض أكبر وأعمق وأشد خطرا، هو(القابلية للاستعمار)، وهو مرض ثقافي أكثر منه سياسي، نشأ تحت قباب الجوامع والجامعات في دمشق وبغداد والقيروان قبل حضور أي جندي غربي، وحين لم تستعمر اليمن فمرد ذلك للصدفة، ومن تحرر مثل سوريا فمرده للظروف السياسية، والتحرر الفعلي لما يأت بعد، وهي عملية انفصال عن رحم الآباء كما ينفصل الجنين عن مشيمة الأم، وهو نازف ومؤلم، وهو أمر لم يحصل بعد. 

ومن هنا كانت أفكار مالك بن نبي صادمة موجعة مدهشة، ومن هنا تعسر مخاض الدخول إلى المعاصرة، ومن هنا كان حال العرب مثل الذبابة التي تطن في زجاجة فارغة بدون الاهتداء إلى العنق، وبذلك خسر الرجل جمهوره من الثوريين والقوميين والمتدينين حين قال أن مؤشر نهضة الأمة هو كثرة الحديث عن النقد الذاتي والقابلية للاستعمار أكثر من الاستعمار.

 مما دفع جودت سعيد الذي تابع نهجه في سوريا إلى القول: "إن مالك بن نبي صدمني حين تكلم عن القابلية للاستعمار لأنني كنت لا أسمع ولا أقرأ إلا إدانة الاستعمار والصليبية والماسونية والصهيونية...إلخ. فكل متكلم في العالم الإسلامي كان يتكلم عن خبث الأعداء وتخطيطاتهم، ولكن من الصعب عليهم أن يتكلموا عن القابلية للاستعمار، بل كان يتهم من يتكلم عن القابلية للاستعمار أنه في صف الأعداء".

يعتبر المفكر الجزائري (مالك بن نبي) طرازاً غير تقليدي من مفكري المسلمين المعاصرين، وفكر الرجل وكتاباته انتشرت في الشرق أكثر من المغرب، ويعتبر (جودت سعيد) السوري من أهم تلامذته المشرقيين، وقد أكون أنا أيضاً ممن استفاد من كتابات الرجل حينما زارنا فلازمته شهرا كاملاً، وسافرت معه إلى بيروت، وكان يتابع نشر كتابه دور المسلم في عالم الاقتصاد، وكتبت في مذكراتي الشخصية نقلاً عنه فكرته في كتاب له لم ينشر حتى الآن في نظريته حول عقيدة الصلب عند المسيحيين، وصارحني أن نشر كتاب من هذا النوع قد يجلب له الصداع، وتختصر نظريته بنجاة المسيح ومن نفس النصوص الإنجيلية، ومما أسر إلي أيضا وأنا بجانبه في طريق السفر إلى بيروت أن مدحه لعبد الناصر في كتبه كانت زلة، وبتعبيره كان صنما لا يضر ولا ينفع، وهذه كانت من مقاتل كتاباته فقد انصرفنا عنها لفترة لأننا كنا نرى بطش عبد الناصر في الوقت الذي كان مالك بن نبي يمدحه بكلمات يظن أنها ستقربه زلفا إلى الطاغية.

وكان الرجل شديد الوسوسة يرى رجال المخابرات عن اليمين والشمائل وفي المنام وحيثما تلفت، وكان يغلق باب بيته بالعديد من الأقفال خوفا منهم، والأقفال لن تغني عنهم شيئا، ولو كانت أقفال خزائن قارون.

والرجل كان مسلم القلب مهتم بنهضة المسلمين. ولكنه اطلع على إضافات المعرفة وجدلية المعاصرة. وكم كان صادقاً حين ذكر في كتابه الأفروأسيوية "أن إنساناً يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة الإنسانية لا يدخل بين الناس إلا ويجلب السخرية لنفسه".

وكان من ناحية المهنة مهندسا كهربائياً، ولكنه مارس حرفة الفكر أكثر من مهنة الكهرباء. وعاش فترة الاستعمار الفرنسي، وأحزنه تخلف المسلمين، وشارك في النضال السياسي، ودخل مصر لاجئاً سياسياً، وكتب قسما من كتبه باللغة الفرنسية التي كان يتقنها وكان يعرف الحضارة الغربية كخبير وليس كسائح، وزوجته الأولى كانت فرنسية مسلمة عاشت معه المعركة الفكرية وهموم المطاردة والتنقل، وبعد فترة الاستقلال الجزائري عين وزيرا للتربية لفترة، وحينما زار دمشق فوجئ بكثافة جماهيرية غير معهودة تستقبله في المجالس، ولم ينتشر فكر هذا الرجل على أهميته إلا قليلاً، ويحضرني في هذا أكثر من كتاب و(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للكواكبي الحلبي، موجود في كل مكتبة، بقدر وجود الاستبداد السياسي في كل قطر عربي، مما يدل على أن أعظم الكتب لا يستفيد منها الحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً، وأمة العربان أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب بل تحملق في دجاجلة الفضائيات.

                                                                يتبع