في عام 1982 م كنت في ألمانيا مودعا بعد رحلة التخصص الجراحي لمدة ثماني حجج؛ ففوجئت بنبأ أثار ضجة كبيرة، عن اكتشاف ألف هيكل عظمي في قبو كنيسة في أسبانيا؟ ما زلت أذكر المذيع الألماني السمين بشواربه العريضة يقول معلقاً: وفي الغالب فإن هذه الهياكل تعود إلى العصر العربي في الأندلس؟ ولكنه لم يقل لماذا وجدت بقايا الجثث مختبئين في قاع كنيسة؟ بالطبع فإن هياكل آل رومانوف التسع من العائلة القيصرية التي عثر عليها في غابات كاترين بورج، حين قضى عليهم الشيوعيون عام 1918م لم تنطق حين الكشف عليها عام 2003م؟ ومن تضاعيفها ولدت قصة الأميرة المختفية أنستازيا. والقرآن يقول وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا؟ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء. [سورة فصلت: الآية 21] 

وفي قصة قيصر روسيا الأخير نيقولا الثاني وبناته الخمس وإبنه الكسي حامل مرض الناعور (الهيموفيليا Hemophilia) بعد اكتشاف الجماجم أمكن الوصول إلى هوية المقتولين ببراهين من الحمض النووي بتتبع السلالة الملكية وصولا إلى العائلة البريطانية التي تملك نفس الدم الأزرق الملكي!

جرت العادة أن الأموات لا ينطقون، وإلى المحاكم للإدلاء بشهاداتهم لا يحضرون، أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون؟ ولكن العلم الحديث استطاع انطاق الشجر وتقاسيم الوجه ولو مات صاحبها قبل ألف حول!

وبعد أن ظهر خبر الكنيسة وألف هيكل، كنت في أسبانيا فسألت صديقي حسان سلامة عن الخبر؟ قال نعم ولكن الحكومة الأسبانية تكتمت عليه ولم تفتح باب التحقيق بسبب مناظر الرعب المتبقية على الهياكل، ووضعياتهم التي تفضح محاكم التفتيش المرعبة. في الغالب كانوا بقايا المسلمين الذين لم يتنصروا وحافظوا على إيمانهم سرا وكفرهم بالصلب والمصلبة. 

هذه القصة تحركت من ذاكرتي المحشية بقصص كثيرة، بعد أن قرأت البحث الأخير الذي قام به ستيفان تالتي (Stephan Talty) في كتابه الموت مصورا (The Illustrious Dead) يحمل إثارة كبيرة عن قصة حملة نابليون على روسيا في مطلع عام 1812 م.

"كتاب الموت مصورا| ستيفان تالتي"

                         كتاب الموت مصورا| ستيفان تالتي 

وكما كانت الحالة في جثث محاكم التفتيش التي عثر عليها في قبو كنيسة في أسبانيا، كذلك الحال في قصة العاصمة الليتوانية فيلنيوس (Vilnius) حيث كان العمال منهمكين عام 2001م في حفر أساس لبناية فبدأت أمامهم ملامح مقبرة جماعية بالظهور من ألفي هيكل عظمي؟ كان المنظر مروعا، ولظروف الانفتاح السياسي فقد أمكن متابعة قصة الهياكل الألفين المجهولة دون الفضائح الأوروبية من أسبانيا التي ذكرناها؟

بدأ الجميع في الإدعاء أن هذه الجثث هي لهم؟ قالت اليهود هم من ذبحهم النازيون في الهولوكوست، وقال البولنديون إنهم ضباطنا قتلهم ستالين، وعلى ذلك تمنى الألمان أن يكونوا من بقايا جيوشهم الجرارة وعظامهم المجمدة في صقيع الجبهة الروسية.

جاء ستيفان تالتي وبدأ بالعمل على الهياكل، الشيء الأول كانت العظام لشباب ممتازين، ثم فضحت هوية الأموات بقاياهم من أزرار وجزامات وحمالات ثياب وأحزمة، وأظهرت النقوش على أزرار البدلات المتبقية بأرقام متسلسلة أنها بقايا الجيش العظيم (جراند ارمي) الذي سار به نابليون فاتحا لروسيا في ذلك الشتاء الملعون الذي عجل بنهاية إمبراطورية نابليون بعد أن اكتملت دورة القمر فأصبح كالعرجون القديم.

لقد حشد نابليون 600 ألف جندي ما هو أكثر من عدد سكان باريس يومها، كانوا هم دم وخلاصة الشعب الفرنسي من الشباب الفلاحين الذين قذفتهم الثورة الفرنسية من رحمها فاجتاحوا أوروبا واحتلوا أسبانيا ودحروا بريطانيا والتهموا مصر مثل فطيرة محشوة بالزبيب. سار الجيش العرمرم ولكن كتب مصيره قبل البدء ومن عدو مجهول لم يعرفه أحد وكشف النقاب عنه بعد 200 سنة؟ فكما كان الحال مع الجريب الأسباني عام 1918 م الذي قضى على 35 مليون نسمة في الأرض، من عدو خفي عرفه الطب بعد اختراع المجهر الإلكتروني، وسمي لأول مرة بالفيروس، جيش نابليون أظهر معضلة محيرة فقد كان الجنود يتساقطون كالذباب على طول الطريق الممتد آلاف الكيلومترات باتجاه عاصمة الصقيع موسكو.

         نابليون بونابرت يحتل موسكو فى 1812م

كان الجنود من جيش 600 ألف عسكري يمرض منهم يوميا 6000 أي 1% كل يوم، جثث لا نهاية لها من جنود لا حراك بهم، ومن مرض تبدأ فيه الأعراض بالظهور فإذا سيق المصاب إلى المشافي الميدانية نقل المرض إلى أنصاف الأصحاء فساقوهم إلى الموت مكبلين. ولكن أين العدو؟ 

قال طبيب نابليون الخاص مطمئنا سيده وهو الدكتور دومينيك جان لاري (Dominique – Jean Larrey) سيدي هؤلاء الجنود منهكين سكارى مبللين بالمطر وسيزول البأس قريبا؟ ولكن البأس والمرض زاد فأخذ معه إلى المقبرة 400 ألف من العساكر المقرودين أكثر من هجمات القوزاق وصقيع موسكو!

ومن هؤلاء عشرون ألفا من الشاردين، بعد أن أمر نابليون بالانسحاب من موسكو في 19 أكتوبر 1812م، ففروا على وجوههم في طريق العودة يبحثون عن طعام وملجأ؛ فهبطوا في ثلوج وغابات ليتوانيا، وهناك هجموا على الجامعة في العاصمة؛ فبدؤوا في التهام الجثث المحنطة في الفورمالين في كلية الطب، وأتذكرها أنا جيدا من كلية الطب حين كانت تحفظ الجثث هناك لتعليم الطلبة التشريح! فزادتهم وبالا وماتوا بالجملة والمفرق، وتساقطوا أشباحا مثل الزومبي!

وحين يذكر الطبيب البلجيكي كيرشهوف (J.L.R. de Kerchhove) مسيرة الجيش العظيم الفرنسي الذي قضى عليه قمل الملابس ومرض التيفوس الذي أهلك الجيش، ما كرر قصة طاعون عكا الذي قضى على جيش نابليون هناك أيضا أكثر من بلطة الجزار حاكم عكا يومها، يذكر مظاهر المرض بالتفصيل من الاندفاعات الجلدية والحمى والضنك والبردية وأخيرا الموت بتسمم الدم في وقت قصير، وهو مرض يمكن السيطرة عليه اليوم بالصادات الحيوية. فهذا هو جانب من السر من نهاية نابليون. هزم القمل أعظم الرجال وأضخم الحملات وعزم الإمبراطوريات. أليس مفيدا أن يستشهد القرآن بالبعوض والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات والذباب وإن يسلبهم الذباب شيئا لاي ستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب..