قد فُوجِئَ صاحبي عندما أعلمته بأني أصبحت أملك جوّالًا عملاقا، بكل الخيارات، واستغرابه نابعٌ من كونه يعرف أني فقير الجيْب، مسكين الحال، مواطنٌ درجة دنيا، وكان أوّل ما اختبر به ادّعائي. بأن اِستدرَجني إلى إعلان "مارْكته" واسمه وأصله. 

فقلت أنه ليس ألْمانيًّا كالذي تملكُه ولا يابانيًّا كالذي تعرفه عند فلان بل أقسم بأنه لا شرقي ولا غربي، وازداد المسكين حيرة وهمس: طيّب… رقمُه كَمْ؟

قلت بكل ثقة (99 * 100 – 1) وبلسان القلم: (تِسْعٌ وتسعون، نجمة، مائةٌ إلّا واحد)، فوجئ صاحبي وحدّق في شاشة جوّاله متثبّتًا من عدد أرقامه وصرخ كالمحتجّ: ولكن عندك ستّة أرقام، والمعروف عندنا ثمانية أرقام!  

ولأني أعرف أن المسكين لا يشغّل إلا البعض من النصف الأيسَر من مُخّه، وخفْتُ عليه أن يرتجّ هذا البعض من عقله، فتختلط خيوطه. سارعتُ إلى تفهيمه بأن لله تسعًا وتسعين اسمًا. مائة إلا واحدا، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الجوّال الذي أحدّثه عنه، هو الدعاء بالأسماء الحسنى والجهاز، هو رفع الكفّيْن، تضرّعًا إلى الله سبحانه.  

رمقني المسكين على استحياء، بابتسامة ميكانيكيّة فضحَتْ جهله وأُمّيَّتَه الدينيّة، وانبهاره بما سمع منّي، وهمس مكبّرًا، الله أكبر، و فورًا، شغّل خطّه الكوْني، فرفع كفّيْه داعيًا لي بالخير.

فابتسمت شاكرًا له على سرعة تطبيقه لما علِم، وشجّعته على مداومة تشغيل الخطّ بينه وبين مالك الملك، وطَرْق باب الغنيّ الحميد، حتى يكون من المحظوظين.

لماذا تشغيل خطّنا الكوني؟ 

المواطن العربي منذ زمن لم يعد يمثّل رقمًا هامّا ممّا أفقده بُعدَه الدّولي، وبالتالي لو أطلق مليون استغاثة فلن يجد له مُعتصمًا يسمعه أو يهتمّ به، لا وطنيّا ولا دوليّا. 

 إذ بات المسكين يَتصدّرُ قائمة اليُتْم الدّولي وتحرص خطوط الضّغط العالمية على اغتيال حقوقه وحصاره وحشره في زوايا الاستضعاف والاحتياج والحرمان، وقَطّع كل خطوط الإمداد البشري نحوه، مع تجفيف طاقاته حتى يبقى مغلوبًا، مقهورًا، مُتسوّلا. 

فالذين صوّت لهم بنسبة تسعٍ وتسعين في المائة، سرعان ما نقضوا عهودهم نحوه، وتركوه يلهث وراء سراب وعودهم، والذين يعيش بين ظهرانيهم سرعان ما مثّلوا له دور الصُّمّ البُكْم. والذين ظنّهم المسكينُ أصدقاءَ له واخوانًا، سرعان ما انشغلوا عنه بصغائرهم وسفَاسِفِهم. 

وهكذا لا يَصْحُو المسكين إلا ويجد نفسه يُجسّد صورة " المَغْبُون دوليًّا، المسكين وطنيّا" فارغ الرّصيد، مسلوبَ الزاد، في بيئة يشغلها " ثقب الأوزون" عن ثقب القيم والأخلاق 

ما أشبه الحال بالحال.. ولكن؟ 

إن حال المسلم المعاصر أشبه ما تكون بحال سيدنا "يونس "المحاصر في بطن الحُوت، السابح به في أعماق الظلمات البحرية. مع الفارق بأن سيدنا "يونس "عليه السلام كان مُتيقّنًا تمام اليقين بأن الله لن يضيّعه ولن ينساه ولن يضيّق عليه بل سيجعل له مخرجا في كل أمره، ولهذا اتّصل به اتّصالا صادقا في أدب متضرّعًا داعيا مردّدا ". لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فنجّاه من الغَمّ وأعاده إلى اليابسة، وردّ إلى وظيفته كرَسُول.

بينما المسلم المعاصر الذي ساهَمَ أيضا، فكان من المُدْحَضين ليُخفّف عن حِمْل سفينة الاستكبار العالمي، وتسْلَم مسيرة المجتمع الدولي، اِلْتَقمَه حُوتُ التخلّف والحرمان والاستبداد.

وقد عمل على الاتّصال ببحّارة السفينة الذين ألقوه في اليَمّ، طمعًا في حنانهم وإنسانيتهم، وغفل أو تغافل المسكين عن تشغيل خطّ التضرّع والتملّق إلى "مالك الملك" القاهر فوق عباده، ولهذا امتدت إقامته في بطن حوت الاستضعاف، والحرمان، حتى يثوب إلى رشده الإيماني ويسترجع همّته.

إن على المسلم أن يمارس الإنقاذ الذاتي، ويعلن اليأس مما في أيدي الآخرين، وأن لا يطمع في أحد، ولا يتّكأ على أحد، بل عليه أن يُولّى وجهه شطر السماء، متذلّلا إلى مالك الملك، ومتملّقا ربَّه الغنيَّ الحميد.. ويشغّل خطّ جوّاله الكوني.