تـمر كافة المجتمعات الإنسانية في مراحل دورتها الحياتية بإرهاصات وتحولات تقود في مجملها إما إلى الاستقرار أو الفوضى، وإزاء حركية المجتمع، التي تفرضها طبيعة "العمران" وفق التعبير الخلدوني، يبرز بين كل فاصلة زمنية وأخرى أفراد، تجمعهم بعض الخصائص المشتركة، ويمتلكون من الأدوات العقلية ومن المهارات ما يمكنهم من التأثير على مجتمعاتهم بدرجات متفاوتة، وهؤلاء تم التواطؤ على تسميتهم بـ"المثـقفين".

فما هي خصائص المثقفين؟ وأي دور لهم في حركية المجتمعات الإنسانية؟ وما علاقتهم بعامة الناس؟ وأخيرا هل يمكن القول بموت المثقف؟ 

كثيرا ما تتعدى التعريفات في مثل هذا النوع من المسائل، ولعله من خصائص العلوم الاجتماعية اتساع المجال الممكن لتعريفات في المسألة الواحدة، وحتى لا نقع في فخ التعريفات هذا أستميح القارئ الكريم عذرا وأكتفي بالتمهيد أعلاه، لـنقفز مباشرة إلى الخصائص، التي يكاد يجمع أغلب الدارسين لهذا الموضوع أنها تتلخص فيما يلي: 

- مستوى مقبول إلى عالي من التعليم، وامتلاك ملكة النقد، والقدرة على التحليل الموضوعي، مع الإطلاع بما فيه الكفاية على الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي في المجتمع الضيـق (الدولة) والمجتمع الواسع (الثقافة)، والمجتمع الأوسع (المجتمع الإنساني). هذا إضافة إلى امتلاك ثقافة تاريخية متماسكة يمكن توظيفها بسلاسة لفهم حركية المجتمع.

ولكن هذه الخصائص ليست ثابتة إطلاقا، إنما تتغير مع تغير المجتمعات والأزمنة، بل إن بعضها قد يتلاشى تماما ليفقد معه المثقف إحدى محدداته "العتيقة" مثلما سنتناول في فقرة لاحقة من هذه الإضاءة.

ويجدر التنبيه أيضا إلى أن خصائص المثقف غير محصورة بالضرورة في ما ذكرناه، فربما زاد بعض الدارسين خصائص أخرى انطلاقا من زاوية رؤيتهم لوظيفة المثقف. 

أما من حيث الوظيفة، فيمكن إجمال أهم الأدوار المتوقعة من المثقف في ثلاث:

1- المساهمة في صناعة الوعي الاجتماعي، عن طريق وسائل التأثير المختلفة: إعلام، تعليم، سلطة سياسية، سلطة روحية، . وغيرها.

2- الانخراط والتأثير في الأنشطة الاجتماعية المتنوعة (وهذا الدور مناقض لفكرة "الإعتزال" التي مارسها وسوق لها ضمنيا كثير من المثقفين والفلاسفة القدماء، وتأثر بتلك الدعوات عدد من المثقفين المعاصرين، إلا أنها فكرة أثبتت عدم جدوائيتها في تصوري، فأي قيمة لامتلاك الثقافة والمعرفة إن لم تكونا دافعا إلى تنوير المجتمع والسعي إلى إصلاحه؟). 

3- ابتكار الحلـول في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي قد تمر بها المجتمعات، حسب الاختصاص، ولعل البحث العلمي في هذا الإطار هو الوسيلة الناجعة لتحقيق هذا الدور، الأمر الذي يعني ضرورة انخراط المثقف في المراكز البحثية الجادة، وهي كثيرة في سياقنا العربي والإسلامي. 

المثقـفون و"الـشعـبوية"

يكابد المثقف صراعات مختلفة على جبهات عدة، لعل أكثرها صعوبة هي عقدة "الشعبوية" التي يجد كل مثقف ذاته إزائها أمام نمطين بارزين من الشعبوية: 

- شعبوية غير واعية: حيث إنها نمط غير صحي، وبسبب صعوبة التعامل مع هذا النمط يجازف الكثير من الضالعين في ميدان علم النفس الاجتماعي بالقول إن "الجماهير غوغائية بطبعها ولا يجب الرضوخ لها، ولا حق لها في اختيار مستقبلها" ومن هذا الإفتراض ولدت جل الفلسفات الشمولية التي نتجت عنها أنظمة الاستبداد السياسي الفظيع في العالم، إلا أن التعميم في هذا الإطار مجانب للموضوعية، ففي ذات السياق يتجه العديد من المثقفين حول العالم للقول بأن بعض الأنظمة الشمولية -وإن كان استبدادها واضحا للعيان- فإنها في بعض بلدان العالم ساعدت على حفظ الموروثات الثقافية لشعوبها، وعلى بناء كيانات تلك البلدان بناء صلبا، 

- شعبوية واعية: وهي النمط الذي تصاحبه غالبا بيئة ملائمة للإصلاح، حيث إن المثقف يستطيع أداء دوره في ظلها بأمان، لأنها تساعده وتحتضنه، ويمكن التعويل على هذا النمط من الشعبوية في امتصاص الأزمات الاجتماعية التي تعصف من حين لآخر بالمجتمعات الإنسانية، ويظل النموذج التونسي إبان موجات الربيع العربي طاغيا في هذا الإطار، وبالتالي تكون المسؤولية الإصلاحية مضاعفة على المثقفين للانتقال بهذا النمط من المجتمعات انتقالا سلسا نحو الإصلاح. 

"فوظيفة المثقف أن يكون هو الراصد للإشكاليات الاجتماعية وهموم المجتمع، وأن يلعب دورا فاعلا وإيجابيا في وعي الجماهير وتوجيه هذا الوعي في تحقيق واقع الإصلاح والتغيير، وليس تحقيق مصالحه الخاصة. فالشعبوية ليست شرا مطلقا ولا خيرا مطلقا، بل هي تعتمد كأداة فاعلة في التغيير، على الوعي وعلى معايير الخير والحق، وهي معايير على المثقف أولا استيعابها بشكل فاعل"(1)

ويذهب المفكر محمد حامد الأحمري في حديثه عن "عامة الناس" مذهبا بعيدا في اتجاه الدفاع عن مكانة الجماهير في العملية الإصلاحية، حيث يذكر بأن عامة الناس هم "زهرة الدنيا وفكاهتمها"، لولاهم لما كان هنالك خاصة، قائلا بأن بعض المثقفين المتعالين ربما عاشوا تحت ظل أب عامي، وأم عامية، وقد ساق في نقاشه لهذه المسألة مقولات عديدة تؤكد خطورة النخبوية الجامدة على دور المثقف. (2) 

النخبوية الجامدة

لقد بات هنالك نمط سائد من "النخبوية الجامدة" في مجتماعتنا المعاصرة، وهذا النمط لا يخدم الوظيفة السامية للمثقف في اعتقادي، ويمكن إجمال مظاهرها -أي النخبوية الجامدة- في نقطتين:

1- استخدام اللغة الخشبية والمعقدة في الخطاب الموجه للجماهير، دون اعتبار الاختلاف العميق في مستويات التلقي والأفهام لدى عامة الناس، مـما يساهم حتما في تعميق الفجوة بين هذا النمط من المثقفين وبين عامة الناس.

2- تنميط صورة المثقف (شكلا وممارسة): إن التنميط عموما مضر بالخطاب وبالأفكار، ويكون ضرره أكبر حين تكون تلك الأفكار وذلك الخطاب موجه للتأثير في مجتمعات "شعبوية" مثل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي تؤثر فيها إرادة "الجماهير" بقوة -على لغة غوستاف لوبون-، ففي عصر الديمقراطيات الشعبية ومشاركة الناس في صناعة التحولات الكبرى أدركت الأنظمة -ومعها النخب المثقفة- أن تجاهل عامة الناس في صناعة الخطاب وفي رسم السياسات الإستراتيجية بات ضربا من الانتحار. إن اختزال دور وشكل المثقف في قوالب محددة وممارسات بعينها لم يعد ذا قيمة في التأثير على المجتمعات، إننا لا ندعوا بالتأكيد إلى تمييع صورة المثقف، إلا أن الواقع يفرض على المثقفين إجراء عملية تحديث لصورتهم ودورهم بما يبقيهم على سكة الإصلاح الاجتماعي.

"موت" المثقـف

يرى الكاتب عبد الإله بلقزيز أن "المثقفين ملزمون بإعادة قراءة وظيفتهم والتساؤل حول دورهم الاجتماعي، والبحث عن دور جديد لهم يواكب المتغيرات والتحولات"، ويشير الدكتور سعيد عبيدي في قراءته لنظرية "بلقزيز" حول مصير المثقف إلى أن "المجتمع قد استغنى عن خدمات المثقف المعرفية التي قدمها فيما مضى، وهي الخدمات التي تبدو اليوم غير ذات جدوى في سوق القيم الرمزية، ولا يعني ذلك بالضرورة الاستغناء عن المعرفة، بل إن الحاجة للمعرفة تزداد بوتيرة أسرع، بل هو استغناء عن نمط من أنماط إنتاج القيم الثقافية والرمزية، والذي يبدو اليوم تقليديا، مثلما هو استغناء عن حرفة الكتابة التي امتهنها المثقفون وصنعت لهم تلك الهالة التي أضيفت إليهم"(2)

وهذا المصير الذي بشر به "بلقزيز" وأشار إليه "عبيدي" قد يكون مصيرا محتوما إذا ما استمر المثقفون في التمسك بمظاهرهم النمطية ووظائفهم التقليدية، إنهم اليوم في ظل وفرة المعلومات يفقدون إحدى محدداتهم الرئيسية التي ذكرناها في فقرة سابقة، لأن المعلومة باتت متاحة للجميع بفضل الانترنت، ولعل هنالك تهديدا آخر لوظيفة المثقفين ولمصداقيتهم لدى الشعوب، وهو انحياز بعضهم للأنظمة القمعية وتبريرهم للإستبداد، وهنا، تجدرالإشارة إلى أن ثلة قليلة من الذين جرفتهم أمواج السياسة للوقوف بجانب الأنظمة الإستبدادية سابقا يمكن تفهم مواقفهم بسبب خوفهم من الفوضى، لأنهم من حيث الأساس يفترضون أن الشعوب بين خيارين لا ثالث لهما، إما الإستبداد وإما الفوضى، فأين يضع هؤلا قيمة الحرية بين هذا الخيارين يا ترى؟

التوصيات

وإذا كان الإصلاح الاجتماعي هو الغاية العليا لوجود نخبة مثقفة في أي مجتمع إنساني، وإذا كانت المجتمعات الإنسانية تتسم بالحركية والتغيير، فربما نكون ملزمين بإعادة تعريف المثقف من خلال إعادة فهم دوره داخل المجتمع. إن أي عملية تحديث في دور المثقف المعاصر لابد أن تضمن الشروط التالية:

- احترام التخصص: فلقد انتهى زمن المثقف الأخطبوط، الموسوعي، الذي يعرف كل شيء ويكتب وينظر في كل مجال من مجالات المعرفة التي تزداد تشعبا يوما بعد يوم.

- تقبل الإختلاف: لقد كانت فلسفة "الرأي الواحد" قابلة للصمود في زمن "ما قبل العولمة"، وأثناء انغلاق المجتمعات الإنسانية على ذاتـها، وأما في زمن العولمة والقرية الواحدة، فلابد من التصالح مع حتمية تدافع الأفـكار المتعددة، ويظل البقاء للأنفع والأصلح. 

- احترام العقائد والأديان المخالفة: إن المثقف الذي لا يحترم حرية الاعتقاد والتفكير يحتاج إلى مسائلة ذاته ومراجعة ثقافته قبل أن يواجه المجتمع، ذلك أن بعض المجتمعات المعاصرة تتعدد فيها الأديان والمذاهب والانتماءات بينما يجمعها وطن واحد، وقد ينطبق ذلك على بعض المجتمعات العربية، ليست من ضمنها موريتانيا التي لا يمكن الجزم بأن تعدد الديانات داخلها ممكن بسبب جملة من العوامل التاريخية والثقافية.

- الاستغلال الإيجابي والفعال لمختلف وسائل التأثير المتاحة مع مراعاة اختلاف مستويات التلقي لدى الجماهير، وبالتالي بات المثقف المعاصر مرغما على تصميم وإنتاج خطاب مناسب لكل فئة من فئات المجتمع الواحد الذي يوجه له خطابه.

- تظل الأدلجة حقا لكل إنسان، ولكنها تكون مكبلة وربما قاتلة لبعض المثقفين، لأنه يفترض في المثقف التحرر من كل القيود باستثناء الأخلاقية والقانونية. وتلك لا تسمى قيودا وإنما ضوابط، بينما تشكل الأيديولوجيات السياسية والفكرية المختلفة قيودا تحد من إنتاجية وعطاء أي مثقف يبالغ في تقمصها، ولكم حرمنا من عطاء مثقفين وطنيين تكبلهم قيود الأيديولوجيا!

- القراءة. ثم المزيد من القراءة: إن كان من طوق نجاة للمثقفين في ظل تراجع مستوى تأثيرهم في المجتمعات، فهي أن لا يكفوا عن القراءة، في مختلف الميادين ذات الصلة بمجالات اهتمامهم الفكرية، بانتظام، وانتقائية مدروسة، مع الحذر ابتلاع كل ما تُـسَـوِقه دور النشر من ركيك الكتب، فالقراءة في كل شيء هدر للوقت وتشتيت للجهد، والكتب الركيكة تصنع مثقفا ركيكا، ولـكل قارئ جاد معاييره الخاصة في انتقاء الكتب، وهنالك بالتأكيد معيايير مشتركة مثل جودة المضمون، وسمعة دار النشر وبـراعة الكاتب.