تحرير: سمية بنعدية، حرم أبو إدريس

يوم الثلاثاء الماضي 14 أبريل 2020م نظم منتدى الشرق الشبابي محاضرة تفاعلية مع أ. وضاح خنفر مدير المنتدى والذي استحضر التاريخ للإجابة عن أجوبة الحاضر والمستقبل، متحدّثا عن «أزمات اليوم فرص الغد أو كوارثه.. كيف يمكن نستعين بالتاريخ في فهم اللحظة التي نعيشها؟» ونرصد فيما يأتي النص الكامل للمحاضرة التي قدمها.  

حديثٌ ما بين التاريخ والواقع 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

 اليوم نحاول أن نقدم حديثاً لا علاقة له بالأخبار ولا بالأحداث السياسية والجيوسياسية والاستراتيجية التي كنا نتحدث عنها في المرات الماضية، لكننا اليوم سنتحدث حديثا ما بين التاريخ والواقع.

لماذا التاريخ؟ 

عندما تواجه الأمم حالات استثنائية كالتي نواجهها اليوم، يلجأ الإنسان إلى نماذج تفسيرية محاولاً استشراف المستقبل ومعرفة ما الذي ستؤول له اللحظة المتعثرة أو الفارقة أو الخطيرة التي تعيشها الأمم. 

تأتي هذه النماذج التفسيرية من التاريخ الذي سجل لنا لحظات انتقال مشابهة، مما يزودنا بمنهجية معرفية تعيننا على فهم الواقع واستشراف المستقبل، ومحاولة الدخول في حالة من الاستقرار الذهني على الأقل، لأن المشكلة في استشراف المستقبل عادةً أنه إن لم تكن لديك الأمور واضحة فستصاب بالتشوش، وكل استقراء للمستقبل في حالة التشوش يكون خبط عشواء.

أين مرت علينا حالات كهذه في التاريخ؟ 

 لحظات الانتقال التاريخية.. كأنك تراها!

أنا أحب التاريخ جداً منذ الصغر، وأكثر كتاب لازمني منذ كنت طفلاً هو كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، وهذا الكتاب سحرني لأسباب كثيرة ، لكن أهم ما فيه هي الفترة التي أرخ فيها ابن الأثير -رحمه الله- لعصره، لماذا؟ 

المؤرخون عندما يتحدثون عن الماضي يستفيدون مما كُتِب قبلهم، لكن ابداعهم يكون فيما يكتبون عن زمنهم الذي عاشوه وعاينوه.

فابن الأثير مثلاً عند كتابته عن الماضي اعتمد على مؤرخين من قبله، مثل ابن جرير والطبري وغيره، وهو يقول ذلك في مقدمة الكتاب، يرجح بعض الروايات ويبسط بعضها ويضع بعض الحواشي والتفاصيل، لكنه لا يخرج في سياق تقسيم الأمور عما فعله أسلافه من المؤرخين العظام، أما ما كتبه عن عصره فكان ذو قيمة أعظم.

ابن الأثير عاش مرحلة انتقال في غاية الأهمية، كان شاهدا عيان على لحظة تاريخية فريدة في تاريخ الأمة، وهي المواجهة الكبرى التي حدثت بين الأمة وبين الصليبيين ، فقد أرخ لفترة صلاح الدين الأيوبي، تكلم عن حطين وفتح القدس ووصف ذلك اليوم وصفاً ساحرا، لذلك أقول ابن الأثير في وصفه لمرحلة صلاح الدين كان صحفياً قديرا أكثر مما كان مؤرخاً، لأنه كان يصف أحداث زمانه، فينقلها إليك مشحونة بروح شاهد العيان، كأنك تراها رأي العين، وعندما يقول في كتابه : وحدثني فلان وسمعت من فلان، فهو يتكلم عن اللاعبين الرئيسيين في تلك المرحلة ، نقل عنهم مباشرةً من غير سندٍ ولا واسطة

       انتصار المسلمين في معركة حطين (583هـ/1187م)

لذلك لا تمل من قراءة التاريخ الذي كتبه المؤرخون عن عصرهم، لذلك تستمتع جداً عندما تقرأ لابن الأثير، وتستمتع كذلك عندما تقرأ لابن خلدون وهو يسجل أحداث رحلته للقاء تيمورلينك.  وكما تعلمون كان تيمورلنك طاغيةً من طغاة المغول، وهذا الرجل جاء بعد هولاكو بمائة سنة تقريباً وغزا مرةً ثانية العالم الإسلامي، وإن كان يقول عن نفسه مسلما وأحاط نفسه بالعلماء من بعض الأنواع، ولكنه كان من طغاة العصر، فقد قتل مئات الألوف ودمر كثيراً من المدن وأعاد احتلال بغداد وأعاد تدميرها التدمير الثاني. فكيف رأى المؤرخون لحظات الانتقال التاريخية، كيف رأوها في زمانهم؟ وكيف استشرفوا المآلات المستقبلية؟ 

هذا أخوف من العدو!

نعود إلى ابن الأثير الذي توفي عام 630 للهجرة، وقد كان أرخ في كتابه حتى نهاية سنة 628 هـ 

انتبهوا معي لهذه النقطة تحديداً.

في مطلع الفصل الذي ختم فيه كتابه ذكر خروج التتار (المغول) إلى أذربيجان، قائلا: "في هذه السنة (628هـ) وصل التتار من بلاد ما وراء النهر إلى أذربيجان"، وتحدث عن كيف فعلوا ونهبوا وخربوا وقتلوا واستقر ملكهم بما وراء النهر وعاد ملكهم لما وراء بلاد النهر ، والقصة طويلة، لكن ما يهمني هنا أنهم دخلوا إلى أذربيجان فامتنع أهلها ثم أذعنوا بالتسليم فقتلوا منهم ولو لم يكثروا القتل،  وقال هذا التعليق: 

"فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد ولا في نصرة الدين، بل كان كل منهم مقبلا على لهوه ولعبه وظلم رعيته"، وقال: "هذا أخوف عندي من العدو!" وقال الله تعالى: (واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)"

 هذا في وصف النخبة يومئذ. 

 لننتبه أن هذا الكلام المؤلم جاء بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين وبعدما أرخ ابن الأثير لتلك المرحلة الذهبية في تاريخنا الإسلامي، وكان  شاهدا لعز الإسلام فيها وفتوحاته التي وصلت شأنا عظيماً، لكنه بعد ذلك بخمسة وثلاثين عاماً يكتب بألم هذه القصة المحزنة.

  بعدما تحدث عن النخبة الحاكمة وأنهم لا رغبة لهم في الجهاد كما ذكرنا، وصف لنا عامة الناس فقال:

" ُحكِىَ لي عنهم حكايات -عن المغول- يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله -سبحانه وتعالى- في قلوب الناس منهم -المسلمين- حتى قيل أن الرجل الواحد منهم -من المغول- يدخل القرية أو الدرب وبه جمعٌ كثير من الناس فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد لا يتجاسر أحدٌ أن يمد يده إلى ذلك الفارس!"

هذه حالة اجتماعية غريبة جداً... حالة من الذل العميق، الاستسلام المطلق، يدخل رجل واحد فقط والقرية فيها العشرات وربما المئات فيَصُفَهُم في طابور ويبدأ بقطع رؤوسهم واحداً بعد الثاني ولا يقوم واحد منهم ليدافع! 

وقال: "حكى لي رجلٌ يقول: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في الطريق فجاءنا فارسٌ من التتار قال لنا حتى يُكَتِفَ بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم هذا واحد فلما لا نقتله ونهرب فقالوا نخاف! فقلت سبحان الله هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله لعل الله يخلصنا فوالله ما جسُرَ أحدٌ أن يفعل فأخذت سكيناً فقتلته وهربنا ونجونا" قال ابن الأثير: "وأمثال هذا كثير". 

هذه قصة عجيبة جداً، كيف للخوف أن يصل في مجتمع إلى هذه الدرجة؟ أنت تعرف أن هناك من سيقتلك وأنت في اللحظات الأخيرة تنتظر الموت ولا تجرؤ أن تفعل شيئاً من أجل أن تخلص! 

إذا خلت البلاد من مانع أو مُرَافع! 

أحاطت بالعالم الإسلامي حالة نفسية غريبة بعد أقل من أربعين سنة من انتصار المسلمين على الصليبيين، وكان الصليبيون  قوة عالمية آنذاك إذ كانوا يمثلون معظم الدول الأوروبية، ومع هذا انتصر عليهم صلاح الدين انتصارا باهرا في حطين وفتح القدس.

 لكن الأمة عندما تدخل دورة انحدار حضاري  تنحط فيها أشياء كثيرة، ولا تستطيع ومضات من الانتصار أن توقف انحدارها، صحيح أن الأمة شهدت  إضاءات مؤقتة مثل صلاح الدين الأيوبي وانتصاره على الصليبيين، ولكن الأمة كانت قد دخلت حالة من الوهن والتراجع والتخلف الثقافي والفكري. 

وقد ختم بن الأثير الكتاب بقصة محزنة جداً، وهذا في عام  628هـ، فقد كان التتار في أذربيجان فقط، بعيدون جداً عن بغداد التي ستشهد أبشع مجزرة  في 656 هـ أي بعد 28 سنة من تحذير ابن الأثير. 

عندما سقطت بغداد عاصمة الخلافة حدثت مجزرة ابادة جماعية، فعدد القتلى تجاوز مئات الألوف، ويذكر بعض المؤرخين أنهم ربما وصلوا مليون قتيل، أُبيد الناس إبادة كاملة، حُرقت المدينة ودُمرت، حتى أنها لم تصلح للسكن لسنوات طويلة بعد ذلك، ودام الذبح أربعين يوما. 

            سقوط بغداد (656 هـ) 

كتب صاحبنا ابن الأثير في نهاية كتابه ، أي قبل سقوط بغداد بـ 28 سنة: "ولقد وقفتُ على كتابٍ وصل من تاجرٍ من أهل الري في العام الماضي، يقول " إن الكافر -يقصد هولاكو- لعنه الله ما نقدرُ أن نصفه ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوب المسلمين، فإن الأمر عظيم ولا تظنوا أن هذه الطائفة التي وصلت إلى نصيبين - كان التتار يرسلون مجموعات تغير على أطراف العراق وتهرب، فقط لتجس نبض المسلمين- أن هذه المجموعات لم تقصد النهب، إنما أرادوا أن يعلموا هل في البلاد من يردهم أم لا؟ فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلاد من مانعٍ ومرافع وأنها خالية من ملكٍ وعساكر، فقوي طمعهم، وهم في الربيع يقصدونكم وما يبقى عندكم مقام إلا إن كان في بلد الغرب -لن يظل مكان إلا أن تهربوا على بلاد المغرب- فإن عزمهم على قصد البلاد جميعها فانظروا لأنفسكم".

 أي أهل الري والتي تقع الآن في إيران، بعثوا رسالة للمسلمين في العراق لتحذيرهم وتنبيههم فقد رأوا أحداثا مروعة من المغول، " وهم يقصدون تدميركم جميعاً فاحذروهم وحاولوا قدر الإمكان أن تنتهبوا وتُحصِّنوا أنفسكم" هذا قبل 28 سنة من هجومهم الفعلي على بغداد!

 يختم ابن الأثير بهذه العبارة الحزينة:

 قال: "هذا مضمون الكتاب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". 

ويتوفى -رحمه الله- بعد ذلك بسنة ونصف، أي عام 630 هـ، ولم يعش ليشهد حسرة المسلمين بسقوط بغداد.

لماذا تسقط الحضارات؟ 

بعد أن قرأنا هذا الكلام نسأل سؤالا مهما : لم يكن سرا أن المغول كانوا إن دخلوا مدينة يقومون بذبح الرجال، ثم اغتصاب النساء، ثم حرق المدينة بالكامل، وفي كثيرٍ من الأحيان يبقون على حياة بعض الناس، إن كان هناك صانع، أو حداد، أو نجار، أو شخص حرفي، فيأسرونه لكي يبني لهم مدنهم وعواصمهم في أماكن مختلفة، ذلك كله كلن معلوما منذ وقت طويل، وكان المغول يزحفون عبر ثلاثة عقود باتجاه بغداد، فلماذا لم يتحرك المسلمون لتفادي المصير المأساوي؟ لماذا لم يفعلوا شيئاً؟ لماذا لم يحدث اجتماع لملوك المسلمين ليدافعوا عن انفسهم؟ 

إنها الأهواء الفردية والمصالح الشخصية التي غلبت على المصلحة الجماعية، فقضت على قدرة الملوك على رؤية الواقع كما هو، ونذكر كلمة (ملوك) هنا لأنه لم يكن لدينا ملك واحد، كان الخليفة في بغداد رجلا ضعيفا بائسا محاطا بكل المؤامرات والدسائس، وفي نفس الوقت كانت بقية أنحاء العالم الإسلامي متفرقة يحارب بعضها بعضا حروبا عبثية، فلكل مدينةٍ ملكُها أو سلطانها الذي يحاول أن يثبت للآخرين أنه أقدر منهم، ولذلك كانوا يتحالفون مع الصليبيين ويتحالفون مع الأعداء حتى مع المغول، أرادوا أن يتقوّوا بهم، ولم يحترم المغول ذلك فقتلوا من أولئك الذين تحالفوا معهم كما قتلوا من أولئك الذين حاربوهم.

 أما الآن لننتقل نقلة للأمام قليلاً.

وُلد ابن خلدون -رحمه الله تعالى- عام 732 هـ لم يعش فترة الهجوم المغولي الأول، لكنه جاء بعدها بثمانين سنة. بعدما سقطت بغداد سنة 656 هـ وقعت معركة عين جالوت وأوقف المماليك بقيادة قطز الزحف المغولي في بقية بلاد الشام وأنقذوا بقية العالم وكذلك أوروبا من المغول، عاد المغول بعد هزيمة عين جالوت أدراجهم، ولكن استمروا في صناعة حالة الخوف والإرباك للعالم الإسلامي لفترات طويلة.

          مغارة خلوة ابن خلدون لكتابة المقدمة

ثم جاء تيمورلنك في عام 802 هـ في حياة ابن خلدون، أي بعد سقوط بغداد بـ 76 سنة، وتناول ابن خلدون حالة الخنوع التي هيمنت على العالم الإسلامي كما فعل ابن الأثير، وحاول أن يجيب على هذا السؤال المرير:

 لماذا وصل الحال بالمسلمين إلى أن انهارت حضارتهم انهياراً لا عقلانياً؟

لا يتعلق الأمر بهزيمة واحدة لفترة مؤقتة بل انهيارات متتالية، والحال يزداد سوءاً إلى أن وصلنا إلى الزمن الذي هو فيه، فحاول الإجابة على هذا السؤال ضمن نظرية وضعها في أهم كتاب ألفه وهو من أعظم الكتب التي أُلفت في تاريخنا، لقد حاولت "مقدمة ابن خلدون" الإجابة على هذا السؤال: لماذا تسقط الحضارات؟ وما هي مباديء والعمران؟ وكيف تعيش الأمم هذه الدورة التي رآها أمام عينيه والتي ذاق مرارتها عندما قرأ تاريخ السقوط من آبائه وأجداده وشاهد موجته الثانية بقيادة تيمورلنك؟ 

يقول في شرح الأسباب التي أوصلت الأمة إلى أن سقطت بغداد:

 "حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبست أثواب البلاء والعجز، ورُميت الدولة بكثرة التتار الذين أزالوا كرسي الخلافة و طمسوا رونق البلاد وأداروا بالكفر عن إيمان بما أخذ أهلها -أهل بلاد المسلمين- عند الاستغراق في التنعُم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف بتكاسل الهمم والقعود عن المناصرة والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولية".

 فرأيه أن هذا السقوط له أسباب وهي واضحة، مثل الاستغراق في التنعم والترف والتشاغل باللذات، لكنه كان يلحظ من وسط حالة الانحطاط بريق أمل، إذ أن التاريخ ذو دورات حضارية، ولاحظ أن دورةً جديدة قد بدأت -في زمنه- لكنها ليست بقيادة العرب هذه المرة، بل بزعامة الترك.

 فقال واصفاً لحالة الترك: «يدخلون في الدين بعزائم إيمانية وأخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع ولا خالطتها أقذار اللذات ولا دنّستها عوائد الحضارة ولا كسر من ثورتها قذارة الترف...». 

تهذيب الطباع..من شاهد على لحظة السقوط 

رأى ابن خلدون نهاية دورة حضارية وبداية دورة جديدة، فكان شاهدا على لحظة السقوط التي أرخ لها عندما رأى الخلافة العباسية تدخل في الترف والتحلل والانقسامات، وبداية لحظة الصعود بقيادة الترك الذين لم تدنس طبائعهم البدوية بطبائع الترف ولا بعوائد العمران، بمعنى الاسترخاء والراحة والعزوف عن طلب المجد والسؤدد والجهاد.

فسر ابن خلدون صعود الحضارة الإسلامية التي قادها العرب بأنهم خرجوا من حالة القسوة والبداوة والتفكك إلى العزة والتمكين بأمرين؛ الرسالة والعصبية. 

المقصود من الرسالة هو رسالة الإسلام التي أخرجت القبائل من حالة الجاهلية إلى حالة حضارية ذات لحمة، فقال في مقدمته في الفصل السابع والعشرين: 

«... العرب لا يحصل لهم الحكم والملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين ... والسبب أنهم أصعب الأمم انقياداً بسبب الغِلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة وقلّما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الحكم بالدين أو الولاية ذهب عنهم خلق الكبر والمنافسة فسهل انقيادهم واجتماعهم... فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يدعوهم للقيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق يتم اجتماعهم ويحصل لهم الغلبة والملك...»

 إذن، برأيه أن طبع العرب مجبول على التفكك إلا إن التفوا حول رسالة تهذب طباعهم وتطلق فيهم دورة حضارية جديدة من الحكم.

  أما العصبية فيرى أنها العنصر الحامل للرسالة، فهي القوة التي تنتج عن توحد عصبة من الناس ذوي رسالة، فالأمم في رأيه يمسك بزمام القيادة فيها مجموعة من الناس، عصبة، يتآلفون ويلتقون على رسالة واحدة ثم يقودون، وبعد ما يتعزز لهم السؤدد والحكم يبلغون حالة من الاستقرار فيعيشون حالة من الترف ثم يعقبها الضعف والانهيار، وهذه هي الدورة الحضارية التي يتكلم عنها ابن خلدون وهي سائرة في العرب وغيرهم.

فهل لازالت هذه النظرية صالحة لزمننا أم أننا نعيش ظرفا مختلفا اليوم يحتاج منا إلى تأسيس نظرية جديدة؟  

الحق أنني أرى أن هذه النظرية ما زالت سليمة، وأن الأمم لا تواصل صعودها الحضاري إلا عندما تجتمع على رسالة ويكون لديها عصبية.

 لكن معنى الرسالة والعصبية اليوم يختلف عما شهده ابن خلدون في زمنه والأزمنة التي سبقته. 

الرسالة والعصبية في زمننا المعاصر

تعالوا نتأمل في واقعنا العربي؛ ما هي الرسالة التي يمكن أن يلتف حولها العرب اليوم؟ 

العرب مسلمون في معظمهم وغير المسلمين منهم ينتمون حضاريا إلى الإسلام، وبالتالي فالمشترك بيننا فكريا وثقافيا واسع! وهذه خاصية مميزة لأمتنا لأن تاريخ حضارتنا بدأ عندما تحرك نبينا -عليه الصلاة والسلام- من قرية هامشية -وهي مكة المكرمة- بعيدة عن مراكز القوة وعواصم النفوذ في العالم آنذاك، ثم أسس من هذه الفئة التي كانت تعيش على هامش من الأمر في منعزل عن السياسة وموازين القوة الدولية، أسس عُصبة حاملة للرسالة ونشرها في أوساط العالم.

والرسالة الإسلامية في ذاتها لم تكن رسالة قومية. المغول مثلا عندما غزوا العالم تحركوا برسالة عصبية قومية لشعورهم بالاستعلاء الذاتي العرقي على الآخرين، فقد رأوا أنهم قوم أولي بأس شديد ولديهم من الملكات ما يجعلهم مستحقين لقيادة العالم، وكذلك كانت العصبية التي تحرك من أجلها هتلر، والفاشية التي تحرك من أجلها موسوليني، والعصبية التي تحرك من أجلها اليابانيون في الحرب العالمية الثانية وما إلى ذلك.

          أدولف هتلر زعيم النازية (20 أبريل 1889 - 30 أبريل 1945)

لكن الرسالة التي أتى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن استعلاء عربيا على بقية الأمم ولكنها كانت رسالة مبادئ وقيم. 

لأنها كانت تقول للناس، لمن كان على هامش الحياة السياسية في ذلك الوقت، إن أردتم أن يكون لكم شأن عليكم أن تحملوا رسالة الوحي، وهي رسالة للناس كافة، رسالة رحمة للإنسانية جمعاء. وقد قالها الله -سبحانه وتعالى- بوضوح في غيرما موضع في القرآن الكريم، كقوله في سورة الزخرف: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)» سوف تُسألون عن حمل هذه الرسالة، وهي ليست حكرا على جيل الصحابة الأول، ولكنها سارية إلى قيام الساعة، وبالتالي هي لي ولك لنحملها للناس وننقلها للعالم أجمع. 

لا زالت بيننا.. فلماذا لا نلتف حولها؟  

الرسالة الأصلية موجهة للناس كافة وهي رسالة رحمة، وأصلها عدل وحرية. فإن أردنا أن نؤديها بحقها علينا أن نعود لهذه الأصول، فوجود الوحي فينا فقط لا يعني أننا خير من غيرنا إلا إذا التزمنا بالمبادئ القيمية الكبرى التي جاء بها الوحي، فالانتماء لمسمى المسلمين لا يجعلنا من شعب الله المختار، فنحن بشر ممن خلق وكذلك كان التوجيه الإلهي لمن ادعى الخيرية الذاتية حين قال في سورة المائدة «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ».

نحن أمم من الأمم تجري علينا سنن الله كما تجري على باقي خلقه، ولكن الأفضلية تأتي بالتزامنا بالقيم؛ قيم العدل والحرية والرحمة الإنسانية وغيرها، إن تمسكت بها فهذا يعني أنك حامل لهذه الرسالة، وهي لا تنحصر في الشعائرية أو في أنك ولدت في أسرة مسلمة.

علينا أن نعيد تعريف كلمة الرسالة بما يقتضيه حالنا المعاصر، كل جيل وأمة في زمن من الأزمنة تستطيع أن تتعامل مع الرسالة الأصلية بمنطوق عصرها وثقافة حضارتها التي تعيش فيها وأدوات زمنها، وهكذا تصبح الرسالة متجددة قابلة للانتقال وقادرة على إعمال دورها في إطلاق دورة حضارية جديدة. 

أما إن نظر إليها على أنها مجردة من كل القيم وهي فقط مجموعة من الطقوس التعبدية أو اعتقادات مجردة عن الفعل اليومي التي تتنزل على الناس في واقعهم قيما يستطيعون من خلالها أن يؤدوا رسالتهم للبشرية، فلا فائدة منها من باب البناء الحضاري، فعندما سقطت بغداد كان الخلفاء يبنون المساجد ويقيمون الشعائر وكانت هناك مدارس وما إلى ذلك، لكنها كانت قد فقدت روحها القادرة على توليد قوة دفع حضاري. 

الإشكال هو كيف يمكن أن تحول الرسالة إلى قيمة في زمنك؟ وتستطيع أن تحملها معك إلى المستقبل دون أن تنكفئ على ذاتك، حتى وإن كان ذلك الانكفاء من أجل أن تتعايش فقط مع زمرتك من الناس وتظن أنك من خيار الأرض لأنك قمت بهذا الدور، الإسلام هو فيما تفعله لأجل البشرية والإنسانية وليس ما تفعله فقط من أجل قومك أو نفسك! وهذه قيمة أساسية. 

وعليه فمن واجبنا أن نطبق منطقا جديدا على مفهوم الرسالة، اليوم العالم يحتاج إلى منظومات عادلة، في الاقتصاد مثلا لدينا مشكلات في النظام عميقة، عالميا توجد ديون تكبر الدخل السنوي بثلاثة أضعاف، واحد بالمئة من الخلق يملكون ما يملكه بقية الناس، النظام الاقتصادي فيه ثغرات مبنية على أهواء كتفكيك العلاقة بين المال والعملة بحيث أصبح هناك فرق بين الأموال التي يعبر عنها بصفة الأرقام وبين الاقتصاد الحقيقي الذي يشغل الناس. 

الغائية المادية وإيذان انهيار الدورة الحاكمة 

هناك أيضا مشكلة معاصرة تتعلق بغاية الحضارة المادية المعاصرة، لأن البشرية في القرنين الماضيين أصبحت غايتها مادية، نحن نعيش دورة حضارية غربية، بدأت بالنهوض في القرن السابع عشر وتوجت في القرن التاسع عشر بأن غلبت على الإنسانية ثم تعولمت.

أي أن القيم الحضارية الغربية التي حملها اقتصاد السوق والقيم الليبرالية تعولمت وأصبحت هي الدين الجديد، فإذا كان الدين هو الشعائر فحسب فلكل قوم دينهم الشعائري، أما إن اعتبرنا الدين هو ما يدين به الإنسان في علاقاته وقيمه ونظرته للخلق فالحضارة الغربية في الحقيقة قدمت دينا عالميا قائما على فلسفة مادية، فالحضارة الغربية بشقيها الاشتراكي الشيوعي والرأسمالي الليبرالي ذات طبيعة مادية، ولهذا كانت المرجعية المادية هي الحاكمة. 

والمادية تقول أن هذا الكون الذي نراه ظاهرٌ ليس له باطن، هو قواعد ومعادلات وعلوم، ليس لها غاية خارجة عن ذاتها، صحيح أنها لا تمانع أن تتدين تدينا روحيا تعبديا، فإذا أحببت أن تكون روحانيا بإمكانك أن تذهب إلى المسجد أو الكنيسة أو المعبد، ولكن لا تجعل من روحانيتك سببا لتغيير النظم، لأن النظام في حد ذاته أعلى من الروحانية، فمرجعيته مادية محضة. 

واليوم بدأنا نشهد انهيارات في هذه الحضارة، ونشعر أننا بدأنا ندخل عهد ترقيعات للثغرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو ما يأذن بانحدار دورتها واقتراب سقوطها.

كما شهد ابن خلدون نهاية دورة حضارية وبداية أخرى، فنحن اليوم نشهد نهايات لحضارة، ونريد أن نتلمس بدايات الحضارة الجديدة لكننا نعاني من غياب الوضوح. 

هناك من يقول أن الحضارة الصينية ستعود، لكن في رأيي الحضارة الصينية تحتاج إلى وقت كبير جدا حتى تعولم ذاتها، ثم إن قيمها صينية بحتة من الصعب تصديرها. 

السبب الذي جعل الحضارة الغربية مهيمنة أنها استطاعت عولمة منتوجاتها من الديمقراطية والرأسمالية … إلخ، حتى الصين نفسها تسير وفق أدوات غربية،صحيح أنها غير ديمقراطية، فهي دولة يحكمها حزب شيوعي مركزي، لكنها اقتصاديا أكبر دولة رأسمالية، وبالتالي النظم الغربية هي المهيمنة على العالم، من المستبعد أن تقوم دورة حضارية صينية في وقت قريب. 

التصالح مع العصر وإصدار نسخة عالمية 

 تعريفنا للرسالة ما زال منكفئا، أحاديا، وأنانيا في بعض الأحيان، ولم نستطع الخروج بقيمنا وما نعتقده في ذواتنا إلى مستوى عالمي، نحتاج إصدار نسخة عالمية قيمية، تجعل من قيمنا نظاما للاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها، وهذا يحتاج إلى نخبة ومجتهدين ومفكرين يقومون بهذا الدور لكي يخرجوا للعالم نسخة عولمية عن قيمنا الإسلامية.

 نحتاج أن نخاطب العالم، ونخاطب بعضنا البعض أيضا بالأخلاق والقيم. نستطيع طبعا أن نخاطب أنفسنا وإخواننا بالدين، لكن علينا أن نُصدر نسخة مما نعتقده قابلا ليكون ثقافة إنسانية عالمية، وهذا أمر لم نستطع تحقيقه إلى الآن.

في كثير من الأحيان أجنداتنا وأفكارنا ورؤانا وتصوراتنا منغلقة على ذواتنا، نحاول أن نجد حلولا لأنفسنا ونحاول أن نغوص في تفاصيل لا قيمة لها، أجندات تراثية تاريخية كانت منذ زمنٍ بعيد مجال نقاش ولا تزال ولن تُحَلَ اليوم ولا بعد غد. 

وبدلًا من أن نفكر للمستقبل، ما زلنا نفكر في حل الخلافات التي حدثت قبل ألف سنة، رأينا جدالًا دمويا في القضايا المذهبية، وجدلا منهكا في أجندات قديمة: والشورى والديمقراطية وهلال رمضان وقضايا اللباس وقضايا متعلقة بالمرأة وغيرها، ما زلنا غارقين في هذا الجدل، أما العالم فيتحرك بسرعة هائلة، العالم في حالة سيولة، ونحن ما زلنا نحاول أن نجد إجابات على أسئلة لا يمكن القطع بها، ولا داعي أن نجيب عليها في هذه اللحظة، ، والأولى أن ننتج نسخة جديدة من منظومتنا القيمية للعالم أجمع ولأنفسنا أيضًا.

 وهذا في الحقيقة لم نقم به وهو يحتاج لجرأة و شجاعة، لأنك عند الحديث عن هذا الأمر كأنك تدخل في عالمٍ من المحظورات، فقد استقر في وعي الكثيرين أن الذين ينبغي أن يقودوا الحديث عن هذه الفكرة الدينية القيمية هم فقط أُناسٌ معينون ذوو كفاءاتٍ تراثية معينة. 

 لكن الله سبحانه وتعالى عندما خاطبنا، خاطبنا بأن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، يخاطب الناس جميعًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)! وبالتالي هذا الكتاب الذي هو مصدر كل شيء فيه خطابٌ للمؤمنين فلا مفر في الحقيقة من أن يحمل هذا العبء المؤمنون جميعا بكل مشاربهم وبكل اهتماماتهم وتخصصاتهم.

 وأنا أعيد التأكيد على فكرة جوهرية، وهي أنّ هناك كتابان يتجاوران ويتكاملان، الكتاب الأول هو قرآنه سبحانه وتعالى، هو الكتاب العزيز الذي نقرأه ونتلوه، وهناك الكتاب الثاني وهو الكون، لأن الله تعالى خلق هذا الكون من كلماته، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له "كن" فيكون، ثم قال لنا في آية أخرى: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)، فكلمات الله هي خلقُهُ أيضًا.

 وهذا الكون بعلومه وسننه وفيزيائيته وكيميائيته وبيولوجيته هو في الحقيقةِ قراءةٌ في كتاب الله المنشور، والقرآن هو كتاب الله المتلو.

ولذلك نحن نريد أن نتصالح مع العصر، ليس لدينا حربٌ بين رؤيتنا للكون -أي العلوم- وبين رؤيتنا للدين من خلال النص، هذا فصام مفترى ورثناه للأسف الشديد عن الجدلية بين الكنيسة وما بين الدين في القرن السابع عشر، وهذا لا علاقة لنا به، لأن إسلامنا قدم لنا نظريةً متكاملة تجمع ما بين نظرتنا في الكون ونظرتنا في الكتاب. 

من التمزق العرقي إلى الوحدة الرسالية 

والأصل الثاني هو العصبية، فما هي العصبية التي نتحدث عنها اليوم؟

 نحن معشر العرب كما قال ابن خلدون ولاحظ ذلك - وابن خلدون ذو أصول من البربر،  من البربر، وربما تكون له بعض الأصول العربية- لكن الرجل في الحقيقة كان محايدا في هذه المسألة ولم يكن عصبيًا، هناك من اتهمه بالتعصب ضد العرب، وهذا ليس صحيحًا.

ابن خلدون لم يكن ضد أو مع العرب ، كان مفكرًا متأملا، ومؤرخًا فيلسوفًا، حاضر الذهن، متعمقًا في رؤية الأمور، لا يدخل في مثل هذه الصغائر، بل كان أكبر من ذلك بكثير، لكنه لاحظ ملاحظات  فدوّنها وكتبها.

 العصبية التي نتحدث عنها ليست العصبية التي كانت في زمن ابن خلدون، أن يلتقي عباسيون ويقومون بثورة ويمسكون بزمام الأمور، لأن المسألة الآن تعقدت، فنحتاج إعادة تعريف العصبية بما يوافق عصرنا.

هل هي القومية؟ 

المصطلح الذي ذكر في القرآن  الكريم لما قال الله تعالى: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ"، لا يقصد العرب فقط، ولكن يقصد كل من حمل الوحي، لأنه كان مرتبطا بصدر الآية، فقال: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ".

إذن هو ذكر لك... لأنك تحمل الوحي، ولقومك لأنهم يحملون الوحي، فهنا تحول مفهوم القومية من فكرة العرقية إلى فكرة الالتقاء على القيمة الرسالية التي يحملها الناس جميعًا. 

الحقيقة أن الأمة العربية اليوم ممزقة -ذات التمزق الذي لاحظه ابن خلدون-  ولذلك نحتاج أن نجد آلية مناسبة لتشكيل عصبية جديدة، لا يكفي لتجميع الناس أن نجمعهم فقط في جامعة مثل جامعة الدول العربية، لأننا رأينا أنها غير ذات جدوى، والسبب تناقض الرسالات التي يحملها أعضاؤها. 

بنية الدولة العربية تعاني معاناة حقيقية منذ مائة عام من فقدان الشرعية وتعاني أيضًا من نقصان الكفاءة الإدارية وتعاني من عدم قدرتها على خدمة المواطنين.  

لو كنت زعيما عربيا! 

أدى هذا الفشل المزمن إلى أن الكيانات التي ُتسمى دولا في عالمنا العربي لا تستطيع أن تفكر برؤية استراتيجية للمصلحة الوطنية ولا للمصلحة القومية.

ولكن لنفترض جدلا أن زعماءنا اقتنعوا أنه يجب علينا أن نعمل لصالح شعوبنا وأمتنا، ماذا ينبغي أن يفعلوا؟

ما هو الخيار الأول لو كنت أنا أو أي واجد منا زعيمًا في تلك اللحظة؟

سأقول للناس جميعًا -الملوك والأمراء ورؤساء الدول- لنلتقي ونحدد أولًا ما هي المصلحة التي تخدم كل واحد منا وتصنع مركز ثقل استراتيجي واقتصادي لنا جميعا. نبدأ بالاقتصاد: الفقير فيكم لديه موارد بشرية، والغني لديه موارد بترولية، هناك أيضًا من يملك أراضي زراعية، وهناك من لديه موارد مائية ومواد خام، فما رأيكم لو بدأنا نفكر ككتلة واحدة في تكامل تدريجي يفيد الجميع؟ 

ثانيًا، الحروب والصراعات التي نشبت بيننا عبثية لا قيمة لها، ما رأيكم أن نوقفها حتى نحاول أن نبني أمنا مشتركا لأنفسنا؟

 أنا في صراع بسوريا وأنت بليبيا وهذا في اليمن، فما رأيكم أن نضع صراعاتنا جانبا ونتفق على حلول تفيدنا جميعا؟

لدينا مشكلة مع دول الجوار، مشكلة مع إيران، ومع تركيا، ما رأيكم أن نحدد تفاهمات معينة تصنع استقرارا إقليميا يمكننا من المضي في حالة بناء؟

 الدول المحيطة كلها تعرف أننا نكذب عليهم في كثير من الأحيان نحن نرسل المبعوثين سرًا، لا يوجد داعٍ! ينبغي أن تكون مصالحنا معلنة وليست سرية، وعلاقاتنا معلنة لا سرية، لكننا لا نستطيع لأننا لم نحدد مصالحنا الوطنية بناء على قواعد استراتيجية صحيحة

 أستطيع أن أقرأ السياسة البريطانية بسهولة لأني أعرف لماذا حزب المحافظين أو العمال يقف بجانب هذا القرار، لأنه يعرف ما هي مصلحة بريطانيا القومية، وأعرف لماذا تقرر ميركل هذا القرار لأني أعرف ما هي مصلحة ألمانيا. هذه ليست أسرارا! 

في عالمنا العربي، لا تستطيع أن تتنبأ، لأنها أهواء شخصية للنخبة الحاكمة وليست استراتيجيات، وهذه مشكلة كبيرة جدًا.

لو أردنا أن نحدد مصالحنا وفقا للمصلحة الجمعية بعيدا عن الشخصانية والأهواء لاجتزنا أكبر عقبة في سبيل تأسيس واقع إقليمي مستقر، نستطيع فعلا أن نؤسس عصبيةً حقيقية، بمعنى مركزًا اقتصاديًا استراتيجيًا قادرًا على النهوضِ بالأمم والشعوب التي تنتمي إليها هذه المنطقة من العالم ، ولكن للأسف لم نفعل! 

قَرنُ الإذلال متى بدأ؟  

الصين لم تكن دائمًا دولة متقدمة، كانت فقيرة جدًا من أفقر دول العالم، لحد لا يمكن أن تتخيله، من عام 1832 إلى عام 1945 هذه حوالي مائة عام أو يزيد، الصينيون يطلقون على هذا القرن، قرن الذل" Century of Humiliation "، لماذا يسمونه هكذا؟ 

في عام 1832 هاجمتهم بريطانيا في حرب الأفيون الأولى وأجبرت الصين على فتح موانئها للبريطانيين للتجارة، ثم بعد ذلك احتكرت وقسمت بعض الأجزاء فأخذت هونغ كونغ وبعدها جاءت اليابان وروسيا وكل أمم الأرض ألمانيا وفرنسا، الكل هجم على الصين والكل أخذ منها أشياء كثيرة جدًا وأجبروا على قبول شروط مذلة ومهينة وأخذت منهم سيادتهم، فشعر الصينيون أنهم "خانعون" ، بالضبط نفس الشعور الذي تكلم عنه ابن الأثير.

تكلم ابن الأثير عن لحظة الذل، في لحظة الذل كان يدخل المغولي على قريةٍ فيمسك أهلها واحداً بعد الآخر، يذبحهم ولا يجرؤ أحدهم أن يقاتل، تتري واحد! إذا كانت في لحظة اسمها "Humiliation" (إذلال) هذه اللحظة عاشتها الصين مائة سنة، اليوم الصين بسبب تلك اللحظة تريد أن تؤسس لذاتها اكتفاءً اقتصادياً ونموًا هائلًا لأنهم في كل فترة يذكِّرون بعضهم بعضا بأن انتبهوا فنحن كنا من أعظم أمم الأرض - منذ ثلاث ألاف سنة والحضارة الصينية قائمة، كانت الأكثر تقدمًا تقنيًا والأكثر تقدمًا حضاريًا وهي التي اخترعت الكتابة وهي التي اخترعت السلاح وأشياء كثيرة جدًا- ولكن عشنا قرنا من الذل - وهو قرن في الثقافة الصينية مرعب ولكنه مؤسس لدافع استراتيجي وسياسي، ولذلك ستستمر الصين في نهوضها.

نحن يا إخواني وأخواتي عشنا "Century Of Humiliation" منذ عام 1917 أي أكثر من مائة سنة، عشنا قرنًا من الذل، لماذا؟ لأنه قد تم تحديد حدودنا من دون إِذننا، نُصِّبَ ملوكنا وأُمراؤنا وسادتنا وحُكامنا من دون تشاور معنا، احتلت أرضنا واستعمرت. 

 حُددت علاقاتنا مع بعضنا البعض حربًا وسلمًا من قوى خارجيةٍ أجنبية، أُجبرنا على قبول كل شيء يُملى علينا في القرن، ابتداءً من أسعار نفطنا وانتهاءً بكيفية تعامُلنا مع جمعياتنا الخيرية، كله تم من قبل الغرب، يتدخلون في صناعة قراراتنا الداخلية، أي وزير يستلم أي وزارة وأي رئيس وزراء يستلم أي حكومة! 

كل هذا حدث في مائة عام والحقيقة أن هذا قرنٌ من الذل شديد، ونحتاج أن نحول هذا الذل الذي مررنا به إلى قوة دفع حضاري لا يتوقف إلا باستعادة استقلالنا وكرامة مواطنينا وازدهار بلادنا كما تفعل الصين.

الوعي لا زال يبحث عن مخرج! 

العرب في الحقيقة أمة لديها مخزون من الوعي ومن الثقافة السياسية ومن الثقافة التراثية ما يمكنها أن تبني مستقبلا باهرا، وتنطلق انطلاقة حضارية عظيمة، لكن المصيبة أن الذل الذي ممرنا به لم يخرج لنا حكاما خانعين، كما لاحظ ابن الأثير عن حكام زمنه، ولكن أيضًا للأسف الشديد وجد في بعض الأحيان طريقه إلى عامة الناس، لأنهم بدؤوا بالنظر لهذه الكيانات التي نصبها الغرب علينا على أنها الكيانات التي ينبغي تقديسها من دون عقلانية ولا حتى مصلحة جامعة.

نحن فقدنا الشعور بأننا صُنّاع تاريخٍ وحضارةٍ، وبدأنا نتكاسل عن كل ذلك وهذا في الحقيقة دورة حضارية رآها ابن الأثير واليوم للأسف نحن نراها، لكنها لن تستمر طويلًا ، لأن هناك أجيالا جديدة من الناس رأيناهم في الربيع العربي وسنَراهم في دورات جديدة، لم ينته حال النهوض ومحاولة الصعود أبدًا في عالمنا العربي، ولن تقف إلا عندما نستعيد عافيتنا الحضارية.

 كل جاهل يعتقد أن أجيالنا الحالية والقادمة ستقبل بحالة المهانة والذل فسوف يخيب ظنه، لأنه لم يقرأ تاريخنا ولا يعرف سنن الله في الحياة . 

أسوأ شيء في الأنظمة التي تحكمنا الآن أنها غير قادرة على تخيل المستقبل، لا تعدنا بأي أمل اقتصادي ولا أمل سياسي ولا تعطينا ازدهارا ولا غيره، هي تعدنا بالسجون والمعتقلات. ولكن في الحقيقة هذا لا يدوم، ولا يستقر، خاصةً عندما تفقد مثل هذه الدول والحكومات قدراتها المالية أو قدراتها الأمنية وعندما ينكسر الخوف في نفوس الناس لاحقًا تنهار كل بيوت العنكبوت هذه. 

 لذلك أُبشركم أنني أشعر بأننا نعيش نهاية قرن الذُل للأمة العربية والذي عاشته منذ مائة عام، وأعتقد أن البدايات بدأت تظهر في شكل الوعي هنا وهناك، في كلام هنا وهناك، في أُناسٍ يقودون حركة تغيير حقيقية.

صحيح أننا الآن لم نرتقِ بعد برسالة واضحة تتنزل على الواقع بشكل يوحّد الناس ويجمعهم، لكن الجدل حول ذلك قد بدأ، وصحيح ما زال في الناس عيوب، وأحيانًا بعض السذاجة وأحيانًا بعض الاستعجال وأحيانًا بعض اليوتوبيا وأحيانًا بعض المثالية، لكن هذا كله ليس مهمًا، المهم أن الحراك ما زال مستمرًا وأن الوعي لا زال يبحث عن نضج، ويعني أننا في لحظة ما سنخطئ ثم نصيب ثم نخطئ ثم نصيب، لكن الأهم أن لا نتعثر ونقع ونبقى منبطحين على الأرض، عندما نتعثر ونقع نقوم مرةً ثانية ونعرف أن هناك حفرة لكي لا نقع فيها مرةً أخرى. 

نسأل الله سبحانه وتعالى أن نصل إلى تلك اللحظة التاريخية وأن نعيش بداية دورة حضارية كما تلمس بدايتها ابن خلدون ، بدايات تبشر بإذن الله تعالى بنضج يرفع عنا حال التشرذم، ويقودنا نحو حمل رسالةٍ للناس جميعًا فيها العدل والمساواة والحرية، والسلام عليكم ورحمة الله.