• تحرير: سيمون ماير Simon Mair
  • ترجمة: إسلام هواري

نشر موقع the conversation تحليلا للباحث في الإقتصاد البيئي، "سيمون ماير" Simon Mair، حول مؤشرات وتحولات مستقبل الاقتصاد العالمي لمرحلة ما بعد فيروس كورونا.
أين سنكون بعد ستة أشهر، سنة، عشر سنوات من الآن؟ أستلقي في الليل متسائلا عما يخبئه المستقبل لأحبائي، أصدقائي وأقاربي الضعفاء. أتساءل ماذا سيحدث لوظيفتي، على الرغم من أنني أكثر حظاً من الكثيرين: أحصل على أجر جيد ويمكنني العمل عن بعد. أكتب هذه الكلمات من المملكة المتحدة، بينما لا يزال لدي أصدقاء يعملون لحسابهم الخاص يحدقون في قائمة أشهر بدون أجر، وأصدقاء فقدوا بالفعل وظائفهم. كما أن العقد الذي يشمل 80% من راتبي سينتهي في ديسمبر. يضرب فيروس كورونا الاقتصاد بقوة. فهل يوظفني أحدهم عندما أحتاج إلى عمل ؟!


هناك عدد من السيناريوهات في المستقبل، وجميعها تعتمد على كيفية استجابة الحكومات والمجتمعات لفيروس كورونا وعواقبه الاقتصادية. نأمل أن نستغل هذه الأزمة لإعادة البناء وإنتاج شيء أفضل وأكثر إنسانية، ولكننا قد ننزلق إلى شيء أسوأ.

أعتقد أننا نستطيع فهم وضعنا الحالي -وما قد يؤول إليه في المستقبل  من خلال النظر في الاقتصاد السياسي للأزمات الأخرى. يركز بحثي على أساسيات الاقتصاد الحديث: خطوط التوريد العالمية، الأجور والإنتاجية. من خلال الطريقة التي تساهم بها الديناميكيات الاقتصادية في مواجهة تحديات مثل تغير المناخ وانخفاض مستويات الصحة العقلية والبدنية بين العمال، أعتقد أننا بحاجة إلى نوع مختلف جدا من الاقتصاد إذا أردنا أن نبني مستقبلا عادلا اجتماعيا وسليما بيئيا. وفي مواجهة COVID-19، لم يكن هذا أكثر وضوحا من أي وقت مضى.
إن الاستجابة لجائحة COVID-19 هي ببساطة تضخيم الديناميكية التي تقود الأزمات الاجتماعية والبيئية الأخرى: يعني إعطاء الأولوية لنوع من القيمة على الأنواع الأخرى. وقد لعبت هذه الديناميكية دورا كبيرا في قيادة الاستجابة العالمية لـ COVID-19. لذا مع تطور الاستجابة للفيروس، كيف يمكن لمستقبلنا الاقتصادي أن يتطور؟
من منظور اقتصادي، هناك أربعة سيناريوهات في المستقبل: الانحدار إلى الهمجية، الدولة الرأسمالية القوية، الدولة الراديكالية الاشتراكية، أو التحول إلى مجتمع كبير مبني على المساعدة المشتركة. هذه التوقعات ممكنة جدا إن لم تكن مرغوبة. 

مالذي يحمله المستقبل لنا؟

 تغييرات صغيرة

إن فيروس كورونا، مثل تغير المناخ، هو جزء من مشكلة هيكلنا الاقتصادي. وعلى الرغم من أن كلاهما مشكلة بيئية أو طبيعية، فهما مدفوعان اجتماعيا. 
نعم، يحدث تغير المناخ بسبب بعض الغازات التي تمتص الحرارة، لكن هذا تفسير سطحي جدا. ولفهم تغير المناخ حقا، نحتاج إلى فهم الأسباب الاجتماعية التي تبقينا نتسبب في انبعاث الغازات الدفيئة. وكذلك الحال مع COVID-19، فسببه المباشر هو الفيروس. لكن إدارة آثاره تتطلب منا أن نفهم السلوك البشري وسياقه الاقتصادي الأوسع.

إن معالجة كل من COVID-19 وتغير المناخ أسهل بكثير إذا قمت بتقليل النشاط الاقتصادي غير الضروري. بالنسبة لتغير المناخ إذا أنتجت أشياء أقل، فإنك تستخدم طاقة أقل، تنبعث منها غازات دفيئة أقل. 
يتطور وباء COVID-19 بسرعة، لكن المنطق الأساسي بسيط، يختلط الناس معًا وينشرون العدوى. يحدث هذا في المنازل، وفي أماكن العمل، وفي الرحلات التي يقوم بها الناس. والحد من هذا الاختلاط يمكن أن يؤدي إلى الحد من انتقال العدوى من شخص إلى شخص مما يؤدي إلى حالات أقل بشكل عام.
الحد من الاتصال بين الناس ربما يساعد أيضا مع استراتيجيات التحكم الأخرى. وتتمثل إحدى استراتيجيات التحكم الشائعة في تفشي الأمراض المعدية في تتبع المخالطين وعزلهم، حيث يتم تحديد جهات اتصال الشخص المصاب، ثم عزلهم لمنع المزيد من انتشار العدوى. يكون هذا أكثر فعالية عند تتبع نسبة عالية من جهات الاتصال، وكلما قل عدد جهات الاتصال للشخص المصاب، قل العدد الذي عليك تتبعه للوصول إلى تلك النسبة العالية.
يمكننا أن نرى من ووهان أن تدابير العزل الاجتماعي والغلق الشامل كانت فعالة. الاقتصاد السياسي مفيد في مساعدتنا على فهم لماذا لم يتم القيام بهذه التدابير في وقت سابق في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة.

اقتصاد هش

الغلق الشامل يضع ضغوطا على الإقتصاد العالمي، فنحن نواجه ركودا خطيرا، وهذا ما دفع قادة العالم إلى الدعوة بتخفيف تدابير الغلق الشامل.
وحتى في الوقت الذي كانت فيه 19 دولة في حالة غلق شامل، دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump والرئيس البرازيلي جير بولسونارو Jair Bolsonaro إلى التراجع عن هذه الإجراءات. دعا ترامب Trump إلى عودة الاقتصاد الأمريكي إلى طبيعته في غضون ثلاث أسابيع (الآن تقبل أن العزل الإجتماعي سيدوم فترة طويلة). وقال بولسونارو Bolsonaro: حياتنا يجب أن تستمر. يجب الحفاظ على الوظائف ... يجب علينا، نعم، العودة إلى الوضع الطبيعي.
وفي المملكة المتحدة، قبل أربعة أيام من الدعوة إلى الغلق الشامل لمدة ثلاثة أسابيع، كان رئيس الوزراء بوريس جونسون Boris Johnson أقل تفاؤلاً بشكل هامشي، قائلاً إن المملكة المتحدة قد يتغير مسارها في غضون 12 أسبوعاً. ولكن حتى لو كان جونسون على حق، يبقى الحال أننا نعيش مع نظام اقتصادي مهدد بالانهيار عند الخطوة التالية للجائحة.
إن الانهيار الاقتصادي واضح إلى حد ما. الشركات موجودة لتحقيق الأرباح، فإذا لم تتمكن من الإنتاج، لا يمكنها بيع المنتج وهذا يعني أنها لن تحقق أرباحا، مما يعني أنها أقل قدرة على التوظيف. 
يمكن للشركات أن تتمسك بالعمال الذين لا تحتاج إليهم (على مدى فترات زمنية قصيرة): لتكون قادرة على تلبية الطلب عندما ينتعش الاقتصاد مجددا، ولكن، إذا بدأت الأمور تبدو سيئة حقا فستتخلى عنهم. لذا يفقد المزيد من الناس وظائفهم  أو يخشون فقدان وظائفهم. مما سيؤدي كل هذا إلى كساد اقتصادي.

مدينة لندن

في أزمة عادية الحل بسيط، تنفق الحكومة، وتنفق حتى يبدأ الناس في الاستهلاك والعمل مرة أخرى.


 مثل هذه الحلول لن تنجح هنا لأننا لا نريد أن يتعافى الاقتصاد (على الأقل ليس حاليا)، فالهدف من الغلق الشامل هو توقف الناس عن الذهاب إلى العمل أين تنتشر العدوى. وقد أشارت دراسة حديثة إلى أن رفع تدابير الإغلاق الشامل في ووهان في وقت مبكر جدا يمكن أن يؤدي إلى ذروة ثانية من تفشي الفيروس في وقت لاحق من 2020.

وكما كتب الخبير الاقتصادي جيمس ميدواي James Meadway، فإن الاستجابة الصحيحة لـ COVID-19 ليست في زيادة هائلة للانتاج، بل اننا نحتاج إلى تقليص الانتاج على نطاق واسع. وإذا أردنا أن نكون أكثر قدرة على التكيف مع الأوبئة في المستقبل (ولتجنب أسوأ تغير مناخي) فإننا بحاجة إلى نظام قادر على تقليص الإنتاج بطريقة لا تعني فقدان سبل العيش.
لذا فإن ما نحتاجه هو عقلية اقتصادية مختلفة. نحن نميل إلى التفكير في الاقتصاد على أنه الطريقة التي نشتري بها الأشياء ونبيعها، وخاصة السلع الاستهلاكية. ولكن هذا ليس ما هو عليه الاقتصاد أو يجب أن يكون عليه. في جوهره، الاقتصاد هو الطريقة التي نأخذ بها مواردنا وتحويلها إلى الأشياء التي نحتاج العيش بها. بالنظر إلى هذه الطريقة، يمكننا أن نبدأ في رؤية المزيد من الفرص للعيش بشكل مختلف تسمح لنا بإنتاج أشياء أقل دون زيادة البؤس.
لقد كنت أنا وغيري من خبراء الاقتصاد البيئي مهتمين منذ فترة طويلة بمسألة الكيفية التي ننتج بها أقل بطريقة عادلة اجتماعياً، لأن التحدي المتمثل في إنتاج كميات أقل أمر أساسي أيضاً لمعالجة تغير المناخ، فكلما أنتجنا المزيد زاد ذلك من انبعاث الغازات الدفيئة. إذن كيف يمكننا تخفيض الإنتاج مع الحفاظ على وظائف الناس؟
تتضمن الاقتراحات تخفيض مدة أسبوع العمل، أو كما ذكرت في أحد مقالاتي الأخيرة، يمكن أن تسمح للناس بالعمل ببطء أكبر وضغط أقل. ولا ينطبق أي من هذين الاقتراحين مباشرة على COVID-19، حيث يتمثل الهدف في تقليل الاتصال بدلا من الإنتاج. ولكن جوهر الاقتراحات هو نفسه، أن تقلل من اعتماد الناس على الأجر لتتمكن من العيش. 

ما هو هدف الاقتصاد؟

إن مفتاح فهم الاستجابات لـ COVID-19 هو السؤال عن الهدف من الاقتصاد. وفي الوقت الراهن، الهدف الأساسي للاقتصاد العالمي هو تسهيل تبادل الأموال، وهذا ما يسميه خبراء الاقتصاد بقيمة التبادل.

الفكرة السائدة للنظام الحالي الذي نعيش فيه هي أن قيمة التبادل هي نفس قيمة الاستخدام. في الأساس، سوف ينفق الناس المال على الأشياء التي يريدونها أو يحتاجونها، وهذا العمل من إنفاق المال يخبرنا شيئًا عن مدى قيمة استخدامه. وهذا هو السبب في أن الأسواق تعتبر أفضل طريقة لإدارة المجتمع، فهي تسمح لك بالتكيف، ومرنة بما يكفي لمطابقة القدرة الإنتاجية مع قيمة الاستخدام. 
ما يلقيه COVID-19 في حالة ارتياح حادة هو مدى زيف معتقداتنا حول الأسواق. وفي مختلف أنحاء العالم، تخشى الحكومات من أن تتعطل الأنظمة الحيوية أو تحمل فوق طاقتها: خطوط التوريد، الرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحية بشكل خاص. هناك الكثير من العوامل المساهمة في ذلك، لكن سنذكر اثنين منهم: 
أولا، من الصعب جداً كسب المال من العديد من الخدمات المجتمعية الأساسية. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن المحرك الرئيسي للأرباح هو نمو إنتاجية اليد العاملة: القيام بالمزيد مع عدد أقل من الناس. فالناس هم عامل تكلفة كبير في العديد من الشركات، وخاصة تلك التي تعتمد على التفاعلات الشخصية، مثل الرعاية الصحية. وبالتالي، فإن نمو الإنتاجية في قطاع الرعاية الصحية يميل إلى أن يكون أقل من بقية الاقتصاد، وبالتالي فإن تكاليفه ترتفع بشكل أسرع من المتوسط.
ثانياً، الوظائف في العديد من الخدمات الحيوية ليست تلك التي تميل إلى أن تكون ذات قيمة أعلى في المجتمع. والعديد من أكثر الوظائف أجرا موجودة فقط لتسهيل التبادل وكسب المال، فهي لا تخدم أي غرض أوسع للمجتمع: أو كما يسميها عالم الأنثروبولوجيا ديفيد غرايبر David Graeber  "الوظائف التافهة". ومع ذلك، لأنها تجني الكثير من المال، لدينا الكثير من الاستشاريين وصناعة إعلان ضخمة وقطاع مالي ضخم. وفي الوقت نفسه، لدينا أزمة في الرعاية الصحية والاجتماعية، أين غالبا ما يجبر الناس على ترك الوظائف المفيدة التي يتمتعون بها، لأن هذه الوظائف لا تجني لهم ما يكفي للعيش.

وظائف لا طائل منها


وظائف غير ضرورية

حقيقة أن الكثير من الناس يعملون في وظائف لا طائل منها هي جزئيا سبب عدم استعدادنا لمواجهة COVID-19. فقد كشفت لنا الجائحة أن العديد من الوظائف ليست ضرورية، ومع ذلك فإننا نفتقر إلى ما يكفي من العمال الرئيسيين للاستجابة عندما تسوء الأمور.
يضطر الناس إلى العمل في وظائف غير ضرورية لأنه في مجتمع حيث تكون فيه قيمة التبادل هي المبدأ الموجه للاقتصاد، فإن السلع الأساسية للحياة تتوفر أساسا من خلال الأسواق. وهذا يعني أن عليك شرائها، ولشرائها تحتاج إلى الدخل الذي يأتي من الوظيفة.
 من جانب آخر، فإن الاستجابات الجذرية والفعالة التي نراها في تفشي COVID-19 تتحدى هيمنة الأسواق وقيمة الصرف. تتخذ الحكومات في جميع أنحاء العالم إجراءات كانت تبدو مستحيلة قبل ثلاثة أشهر. ففي إسبانيا، تم تأميم المستشفيات الخاصة، وفي المملكة المتحدة، أصبح احتمال تأميم وسائل النقل المختلفة واردا جدا، كما أعلنت فرنسا استعدادها لتأميم الشركات الكبيرة.
وعلى نحو مماثل نشهد انهيار أسواق العمل، فبلدان مثل الدنمارك والمملكة المتحدة توفر للناس دخلا من أجل منعهم من الذهاب إلى العمل. وهذا جزء أساسي من الغلق الشامل والناجح. 

هذه التدابير أبعد ما تكون عن الكمال. ومع ذلك، فهو تحول عن مبدأ أن الناس يجب أن يعملوا من أجل كسب دخلهم، والتحرك نحو فكرة أن الناس يستحقون أن يكونوا قادرين على العيش حتى لو كانوا لا يستطيعون العمل.

هذا يعكس الاتجاهات السائدة في السنوات الأربعين الماضية. وخلال هذا الوقت، اعتبرت الأسواق وقيم الصرف أفضل طريقة لإدارة الاقتصاد. ونتيجة لذلك، تعرضت النظم العامة لضغوط متزايدة لتسويقها، لتدار كما لو كانت شركات يتعين عليها كسب المال. وعلى نحو مماثل، أصبح العمال أكثر تعرضاً للسوق ــ فقد أدت عقود صفرية المدة واقتصاد الأعمال الحرة إلى إزالة طبقة الحماية من تقلبات السوق التي كانت توفرها العمالة طويلة الأمد والمستقرة.

عمال من بلجيكا وهولندا يحتجون على ظروف عملهم

عمال من بلجيكا وهولندا يحتجون على ظروف عملهم 

ويبدو أن COVID-19 يعكس هذا الاتجاه، حيث أخرج الرعاية الصحية وسلع اليد العاملة من السوق ووضعها في أيدي الدولة. وتنتج الدول لأسباب عديدة، بعضها جيد وبعضها سيء، لكن على عكس الأسواق فإنها لا تضطر إلى الانتاج لقيمة الصرف وحدها. 
هذه التغييرات تعطينا الأمل والفرصة لإنقاذ الكثير من الأرواح، حتى أنها تلمح إلى إمكانية حدوث تغيير على المدى الطويل يجعلنا أكثر سعادة ويساعدنا على التصدي لتغير المناخ.
 لكن لماذا أخذنا وقتا طويلا للوصول الى هنا؟ لماذا كانت العديد من البلدان غير مستعدة لتخفيض الإنتاج؟  الجواب يكمن في تقرير صدر مؤخراً عن منظمة الصحة العالمية: لم تكن لديهم "الذهنية" الصحيحة.

الدولة الرأسمالية

رأسمالية الدولة هي الاستجابة المهيمنة التي نشهدها في جميع أنحاء العالم الآن، ومن الأمثلة النموذجية على ذلك المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.
يواصل المجتمع الرأسمالي للدولة سعيه إلى تحقيق قيمة التبادل باعتبارها الضوء الموجه للاقتصاد، لكنه يدرك أن الأسواق خلال الأزمة تتطلب الدعم من الدولة. وبالنظر إلى أن العديد من العمال لا يستطيعون العمل لأنهم مرضى وخوفا على حياتهم، فإن الدولة تتدخل بتمديد الائتمان وتسديد الأجور. 
ومن المتوقع أن يكون ذلك لفترة قصيرة. تتمثل الوظيفة الأساسية للخطوات التي يتم اتخاذها في السماح لأكبر عدد ممكن من الشركات بمواصلة التداول. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، لا تزال الأسواق توزع الأغذية (على الرغم من أن الحكومة خففت من قوانين المنافسة). وفي الحالات التي يتم فيها دعم العمال مباشرة، يتم ذلك بطرق تسعى إلى تقليل الاضطراب في الأداء العادي لسوق العمل. لذا، على سبيل المثال، كما هو الحال في المملكة المتحدة، يتعين على أصحاب العمل تقديم طلبات للحصول على الأجور للعمال وتوزيعها. ويكون حجم الأجور على أساس قيمة الصرف التي يخلقها العامل عادة في السوق، بدلاً من فائدة عمله.
هل يمكن أن يكون هذا سيناريو ناجحاً؟ ربما ،ولكن فقط إذا ثبت أن COVID-19 يمكن السيطرة عليه خلال فترة قصيرة. وبما أنه يتم تجنب الإغلاق الكامل للحفاظ على أداء السوق، فمن المرجح أن يستمر تفشي العدوى. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، لا يزال البناء غير الأساسي مستمراً، مما يجعل العمال يختلطون في مواقع البناء. ولكن التدخل المحدود للدولة سيصبح من الصعب الحفاظ عليه إذا ارتفعت أعداد القتلى. إن ارتفاع حالات الاصابة والوفيات سوف يثير الذعر ويعمق الآثار الاقتصادية، مما يجبر الدولة على اتخاذ المزيد من الإجراءات الجذرية في محاولة للحفاظ على أداء السوق.

الرأسمالية

الهمجية

هذا هو السيناريو الأكثر سوءا. والهمجية هي المستقبل إذا واصلنا الاعتماد على قيمة التبادل كمبدأ موجه، ومع ذلك نرفض تقديم الدعم لأولئك الذين يُحبسون خارج الأسواق بسبب المرض أو البطالة. وهذا السيناريو يصف حالة لم نرها بعد.
تسقط الشركات ويموت العمال جوعا لعدم وجود آليات لحمايتهم من الحقائق القاسية للسوق، ولا تُدعم المستشفيات بتدابير استثنائية، وبالتالي تصبح غارقة فيموت الكثير من الناس. الهمجية هي في نهاية المطاف حالة غير مستقرة تنتهي بالخراب أو الانتقال إلى أحد أقسام الشبكة الأخرى بعد فترة من الدمار السياسي والاجتماعي.
هل يمكن أن يحدث هذا؟ يتمثل القلق في أنه يمكن أن يحدث هذا عن طريق الخطأ أثناء الوباء، أو عن قصد بعد أن يبلغ الوباء ذروته. الخطأ هو إذا فشلت الحكومة في التدخل بطريقة كبيرة بما فيه الكفاية خلال الجائحة. قد يتم تقديم الدعم للشركات والأسر، ولكن إذا لم يكن هذا كافيا لمنع انهيار السوق في مواجهة المرض على نطاق واسع، ستنشأ الفوضى. وقد يتم إرسال أموال وأشخاص لدعم المستشفيات، ولكن إذا لم يكن ذلك كافياً، سيتم رفض عدد كبير من المرضى.
ومن المحتمل أن يكون هناك تقشف ضخم بعد أن يبلغ الوباء ذروته وتسعى الحكومات إلى العودة إلى وضعها الطبيعي. 
ومن شأن الفشل اللاحق للاقتصاد والمجتمع أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية واجتماعية، مما يؤدي إلى فشل الدولة وانهيار أنظمة الرعاية الاجتماعية للدولة والمجتمع.


الدولة الاشتراكية

تصف اشتراكية الدولة أول مستقبل يمكن أن نراه مع تحول ثقافي يضع نوعًا مختلفًا من القيمة في قلب الاقتصاد. هذا هو المستقبل الذي نصل إليه بتمديد التدابير التي نراها حاليًا في المملكة المتحدة وإسبانيا والدنمارك.

المفتاح هنا هو أن تدابير مثل تأميم المستشفيات وأجور العمال لا ينظر إليها على أنها أدوات لحماية الأسواق، ولكن وسيلة لحماية الحياة نفسها. وفي مثل هذا السيناريو، تتدخل الدولة لحماية أجزاء الاقتصاد الضرورية للحياة: إنتاج الغذاء والطاقة والمأوى على سبيل المثال، بحيث لا تعود الأحكام الأساسية للحياة على هوى السوق. وتقوم الدولة بتأميم المستشفيات، وتجعل السكن متاحاً مجاناً. وأخيراً، فإنه يوفر لجميع المواطنين وسيلة للوصول إلى مختلف السلع – سواء الأساسيات أو أي سلع استهلاكية يمكننا إنتاجها مع انخفاض القوى العاملة.

ولا يعود المواطنون يعتمدون على أرباب العمل كوسطاء بينهم وبين المواد الأساسية للحياة. يتم دفع الأجور للجميع مباشرة ولا ترتبط بقيمة الصرف التي يقومون بإنشائها. وبدلا من ذلك، فإن الأجور هي نفسها للجميع (على أساس أننا نستحق أن نكون قادرين على العيش، لمجرد أننا على قيد الحياة)، أو أنها تستند إلى فائدة العمل. عمال المحلات التجارية الكبرى، سائقي التوصيل، عمال المستودعات، الممرضات، المعلمين، والأطباء هم المديرون التنفيذيون الجدد.

من الممكن أن تظهر اشتراكية الدولة نتيجة لمحاولات تحقيق رأسمالية الدولة ومن آثار جائحة طويلة الأمد. وإذا حدث ركود عميق وحدث اضطراب في خطوط التوريد بحيث لا يمكن إنقاذ الطلب من خلال هذا النوع من السياسات الكينزية (نظرية جون مينارد كينز John Maynard Keynes) القياسية التي نشهدها الآن (طباعة النقود، مما يجعل الحصول على القروض أسهل وما إلى ذلك)، فقد تتولى الدولة الإنتاج.
وهناك مخاطر على هذا النهج ــ يجب أن نكون حذرين لتجنب الاستبداد. ولكن قد يكون هذا أفضل أمل لنا ضد تفشي COVID-19. دولة قوية قادرة على حشد الموارد لحماية الوظائف الأساسية للاقتصاد والمجتمع.


المساعدة المشتركة

والمساعدة المشتركة هي المستقبل الثاني الذي نعتمد فيه حماية الحياة كمبدأ توجيهي لاقتصادنا. ولكن في هذا السيناريو، لا تأخذ الدولة دوراً محددا. وبدلا من ذلك، يبدأ الأفراد والجماعات الصغيرة في تنظيم الدعم والرعاية داخل مجتمعاتهم.
تتمثل المخاطر في هذا المستقبل في أن الجماعات الصغيرة غير قادرة على تعبئة نوع الموارد المطلوبة بسرعة لزيادة القدرة على الرعاية الصحية بشكل فعال، على سبيل المثال. 
ولكن يمكن أن تساهم المساعدة المشتركة في منع انتقال العدوى بشكل أكثر فاعلية، من خلال بناء شبكات دعم مجتمعية تحمي قواعد العزل. ويشهد الشكل الأكثر طموحا لهذا المستقبل نشوء هياكل ديمقراطية جديد، ومجموعة مجتمعات قادرة على تعبئة موارد كبيرة بسرعة نسبية، ويتحد الأشخاص معًا لتخطيط الاستجابات الإقليمية لوقف انتشار المرض وعلاج المرضى (إذا كانت لديهم المهارات).
هذا النوع من السيناريو يمكن أن ينبثق من السيناريوهات الأخرى. إنها طريقة ممكنة للخروج من الهمجية أو رأسمالية الدولة، ويمكن أن تدعم اشتراكية الدولة. ونحن نعلم أن استجابة المجتمع كانت أساسية للتصدي لتفشي الإيبولا في غرب أفريقيا. ونحن نرى بالفعل جذور هذا المستقبل اليوم في المجموعات التي تنظم حزم الرعاية والدعم المجتمعي. ويمكننا أن نرى ذلك كفشل لاستجابات الدولة، أو يمكننا أن نعتبرها استجابة مجتمعية مادية ورحيمة لأزمة تنكشف.

المساعدة


الأمل والخوف

هذه الرؤى هي سيناريوهات متطرفة، ورسوم كاريكاتورية، ومن المرجح أن تنزف في بعضها البعض. خوفي هو الانتقال من الدولة الرأسمالية إلى الهمجية. أملي هو مزيج من الدولة الاشتراكية والمساعدة المشتركة: دولة قوية وديمقراطية تحشد الموارد لبناء نظام صحي أقوى، تعطي الأولوية لحماية الضعفاء من أهواء السوق وتستجيب للمواطنين وتمكنهم من تشكيل مجموعات مساعدة مشتركة بدلاً من العمل في وظائف لا معنى لها.
وما نأمل أن يكون واضحا هو أن كل هذه السيناريوهات تترك بعض الأسباب للخوف، ولكن بعض الأمل أيضا. يكشف COVID-19  العيوب الخطيرة في أنظمتنا الحالية. ومن المرجح أن تتطلب الاستجابة الفعالة لذلك تغييرا اجتماعيا جذريا. وأعتقد أنه يتطلب خطوة جذرية بعيدا عن الأسواق واستخدام الأرباح كوسيلة أساسية لتنظيم الاقتصاد. والجانب الإيجابي من ذلك هو إمكانية أن نبني نظاما أكثر إنسانية يجعلنا أكثر مرونة في مواجهة الأوبئة في المستقبل وغيرها من الأزمات الوشيكة مثل تغير المناخ.
يمكن أن يأتي التغيير الاجتماعي من عديد الأماكن والتأثيرات. إن المهمة الرئيسية بالنسبة لنا جميعاً هي المطالبة بأن تأتي الأشكال الاجتماعية الناشئة من أخلاقيات تقدر الرعاية والحياة والديمقراطية. والمهمة السياسية الرئيسية في هذا الوقت من الأزمة هي العيش والتنظيم (فعليا) حول هذه القيم.