كي تبنى الدول لا بد من نظام يسوس شؤونها، ومن قوانين تضبط مصالحها، ولعل أعلى هرم هذا النظام هو رئيس الدولة، وحين نبحث في واقع الرؤساء نجد فيه اختلافا وخلافا كثيرا، خاصة وأننا كدول إسلامية عهدت العديد من نظم الحكم مع بداية الدولة الإسلامية والخلافة والإمارات، انتهاء لدول الأقاليم، وهذا ما يخلق لدينا تساؤلات عدة فيما يتعلق بهذا المنصب التكليفي الأول في الدولة، والذي سنتشارك أجوبتها من خلال تقريرنا ومن خلال برنامج بيان للناس الذي يعرض على قناة عمران على يوتيوب.

صاحبة الرأي في «الحَل والعَقد» 

هناك نقاشات كثيرة -خاصةً بين الشباب-، من أين يستنبط رئيس الدولة سلطته الحقيقية من خلال السياسة الشرعية؟
د. علي القرة ياغي:
أهل السنة والجماعة بالإجماع متفقون على أن قضية الولاية، ليست نصية، وإنما قضية تعاقدية وهي الّتي تسمى بالبيعة، وقد اختاروا أيام سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- مصطلحًا جميلًا ورائعًا وهو مصطلح (أهل الحَل والعقد)؛ والحل هو العزل، وقدموا العَزل على العقدِ؛ للإشارة إلى أن الأمة هي صاحبة الرأي في قضية الحَل والعزل، كما أنها صاحبة العقد، وهذه مسألة مهمة جدًا تنبأ إليها الصحابة في عصر أبي بكر. 
والنصوص الشرعية كلها تدل على أن العلاقة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعتباره إمامًا، وبين أمته أن القضية قضية تعاقد ما عدا القضايا الدينية.

وأكبر دليل على ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيعة العقبة أخذ عهدًا وعقدًا، وكانت هناك وثيقة ودستور بين الأنصار والرسول، على أن يحموه داخل المدينة، ولذلك في غزوة بدر كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يطلب المشورة وقد كان يقصد الأنصار حسب العقد الجديد، وقد تكلم رئيس الأوس ورئيس الخزرج وأعطوا للرسول وقالوا: "لو خضتم بنا البحر لخضناه"!

ولذلك عبر القرآن بعبارة قوية جدًا في تلك القضايا الّتي تخصُ إدارة الدولة وتخص العلاقات بين الإمام وغيره، فإن هذه العلاقة هي علاقة بيعة فقال الله تعالى: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ"والمبايعة دائمًا باب المفاعلة فيها أقوى، بينما التعاقد في العقود العادية، وباختصارٍ شديد، إن مصدر الحكم بالنسبة للحاكم، هو الأمة "وأولي الأمر منكم" وهذا دليل على أن الرئاسة أساسية، وأمر التشاور أيضًا مهم بالنسبة للرئاسة "وشاورهم في الأمر"، وبالتالي فمرجعية اختيار الحاكم هي الأمة، ومرجعية عزل الحاكم هي الأمة أيضًا، حتى أن إمام الحرمين قال: " العلاقة علاقة تعاقدية، وأنها علاقة ستتأثر بشروط البيعة، وأن الإمام ينعزل أساسًا إذا خالف الأمانة". 


 اختاروا فيما بينكم!

ما هي حدود السلطة في النظام الرئاسي، وما هي المساحة الإسلامية في هذا الموضوع، ومن الّذي يختارُ أهل الحَل والعَقد؟
د. علي الصلابي:
طبيعة المجتمعات في عهد النبوة، كانت تبرز القيم والأعيان من خلال الميدان، فعند المهاجرين بَرز أبو بكر بمواقفه، ثُم عمر ثُم الزبير، وكذلك الأنصار بحكم التركيبة القبلية لدى الأوس والخزرج، وانتمائهم ودخولهم في الإسلام، فكانت طبيعة المجتمعات تبرز من يتقدم بهذا الدين، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطي هذا الحق لأتباعه فيقول: "أخرجوا لي 12 نقيبا"، فقد اختاروا فيما بينهم من يمثلهم في بيعة العقبة، ولما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك فراغا سياسيا هائلا وضخما، اجتمع بعد ذلك الأنصار في سقيفة بني سعدة في جمعية عمومية للأنصار وكان نقاشهم منطقيا وجميلا، ولو تساءلنا: كيف تم اختيار أهل الحل والعَقد؟


ما وصل إليه التفكير السياسي؛ يكون عن طريق صندوق الاقتراع، فتأتي التوعية ورسم صورة الممثل البرلماني في قيمه الإنسانية والروحية والوطنية، بحيث من يختار؛ يختار منظومة أخلاقية، فهو الذي سيمثل البرلمان.

 فالإسلام بطبيعته يمتلك التطبيق، فعهد الخلافة الراشدة عهد للمرجعية الأولى في كيفية اختيار الرئيس، ففي سقيفة بني سعدة هناك من قال عُمر، وهناك من قال أبا بكر وغيرهم، ثُمّ بعد ذلك تم الاختيار، فهي آراء متعددة تمت مناقشتها لاختيار شخص شوري، تنتقل في فترة خطيرة جدًا لتعطينا كيفية تطور المجتمعات، طُعن سيدنا عُمر فاختار هيئة شورية عليا، حتى اختار 6 أشخاص وقال: اختاروا فيما بينكم!هذه رؤية جديدة للشورى والديمقراطية، اعتمدت على السابقة، ثلاثة تنازلوا لثلاثة، أصبح عليّ وعُثمان وعبد الرحمن بن عوف. 


«السياسة صفة ومسارا ومقتضيات».. فهل تكون الرئاسة ذاتية؟ 

هناك إشكالية فيما يتعلق برئيس الدولة بين الذاتية والموضوعية، كيف نفصل بين الاثنين ونعالج هذه الإشكالية؟
 د. نور الدين الخادمي:
مصطلح الذاتية يتعلق بالذات والشخص، ومصطلح الموضوعية يتعلق بالموضوع، رئيس الدولة باعتباره شخصًا يُسمى بأسماء، الرأي المحقق في الفقه الإسلامي، أن رئاسة الدولة رئاسة موضوعية ولا تتعلق بالرئيس وشخصه؛ لأن الرئيس شخصية بأوصافه وبانتساب قبلي ومؤهلات عقلية، والذات لا تتعلق إلا بالمرسلين والأنبياء، فالله اختارهم إرادةً إرادية، وتعلقًا بذواتهم، أما ما بعد الأنبياء لا عصمة لأحد.


وليست هناك مهمة سياسية أو صفة قيادية تتعلق بالذوات، ولذلك نحنُ في العالم السُنّي والعقيدة الإسلامية، نقول بأن رئاسة الدولة رئاسة موضوعية.

 أي أنها تتعلق بموضوع هذه الرئاسة، والموضوع الرئاسي هو السياسة الخارجية والأمن الوطني وحماية الأفراد والدستور والسهر على أمن المواطنين، أما بالنسبة لما يقال خلاف ذلك بأن الرئيس أو الحاكم ذاتي وشخصي، فالأصلُ أن الرئاسة موضوعية وليست ذاتية، ويخرجُ تخريج آخر جزئي واستثنائيً أن الحكم يكون لعائلة ولكن ضمن المقبولية العامة والعرف الاجتماعي، وضمن تقييد هذه السلطة تقييدًا إنسانيًا ودستوريًا، بمعنى: أن السلطة إذا ارتبطت بعائلة أو المسلمون وجدوا عرفًا ماضيًا بذلك، وقبلوا بذلك ضمن إرادة ومقبولية عامة، ولكن ضمن ضابط على أن تكون هذه السلطة مقيدة وتخدم المواطنين، وأن لا تكون السلطة مطلقة.
 أما الأصل العام والتحقيق أن السياسة والحكم يتعلقان بالموضوع السياسي المصلحي ولا يتعلقان بالأشخاص، ولذلك مقولة استمرارية الدولة في السياسة الحديثة هي تأسس بأن الدولة موضوعية ولا تتعلق بأشخاص، وإنما برسالتها، وهذه تمنع الدكتاتورية والاستبداد، ولا تجعل الحاكم يحكم على أنه من جنس كذا وأنه وريث شيء، الإنسان يولد طفلًا ويقع بعد ذلك في دوائر عديدة كالطب والهندسة أو السياسية، وذلك بحسب القبول الشعبي والمنطقية العلمية والاستحقاق السياسي، أما أن يولد الإنسان حاكمًا، فهذا لم يقم به المسلمون من قبل ولا غيرهم، ممن يعتبرون أن السياسة صفة ومسارا ومقتضيات إجرائية وقانونية، ولذلك الموضوع السياسي يتعلق بالدستور لا بالأشخاص.


«الشطط والمثالية» في اشتراطات الرئيس

ما رأيكم في مصطلح الذاتية والموضوعية الخاصة بالرئاسة؟
 د. عبد المجيد النجار:
في الفقه الرئاسي الموروث هناك اشتراطات اشترطت في رئيس الدولة، وفيها قدر لا بأس به من الشطط ومن المثالية، لأنهم قاسوا كأنما قاسوا الرئيس المبتغى على الخلفاء الراشدين، وهذا أوقع الواقع في عدد من الإشكاليات، ولهذا نشأت فكرة جديدة وهي رئاسة جواز المفضول مع وجود الفاضل، ولكن في الحقيقة هذه الشروط المشترطة في الفقه السياسي الموروث، صرفت الناس عن وضع تقييدات للسلطة المطلقة للرئيس.


 

نحن اليوم في دولة الفكر السياسي الحديث، ينبغي أن نستفيد من الكسب الإنساني في الفقه السياسي، ولا نوكل رئيس الدولة إلى تلك الشروط المثالية، وإنما نمحو الواقع بأن نوجد مؤسسات من شأنها أن تحد من سلطة الرئيس وأن نوزع سلطة الرئيس في اتجاه المجتمع، في البرلمان والحكومة والمؤسسات الدستورية والمحاكم، وهكذا تكون سلطة الرئيس سلطة محترمة وأصلية، ولكنها مقيدة قطعًا في طريق الاستبداد الّذي يعاني منه الإسلام اليوم.


العَزل من «المتنفسات» التي تمنع الاختناقات

بما أنه لا يوجد بيننا صحابة، لماذا إذن نبحث عن الخلفاء الراشدين في الوقت الراهن؟
 د. أحمد الريسوني: إذن لا سبيل إلى التطلع نحو الخلفاء الراشدين وسنتهم، وهذا غير مسلَّم، لأننا عندما نتحدث عن إصلاح مجتمع فهذا يحتاج إلى أجيال وأجيال حتى تعدل من سلوكه ومن أوضاعه وتقاليده، ولكن رئيس الدولة هو شخص نضع له من الشروط ما يلزم، وإذا لم نضع له شروطا لن يصلح هذا المجتمع، وإذا توفرت فيه الشروط اللازمة فسيكون عنصر إصلاح لهذا المجتمع، فإذا اشترطوا في شخصٍ واحد، ليس كما يشترط  فيه الشعب.
 من أهم الأمور الّتي لم تعالج بعد في تاريخنا، وهي فكرة عزل الحاكم، فهذه الفكرة يجب أن تكون حاضرة ومماثلة، فالحاكم إذا فسق وتمادى في فسقه حتى عطل ما جاءت لأجله الدولة، يجب عليه أن ينعزل ويعتذر، وإذا لم ينعزل، فيعزل.
 ولذلك لم تؤسس مؤسسات عملية لعزله، وبالتالي أصبح هناك فقه جديد وهو الخروج عن الحاكم، ولذلك يجب تعزيز فكرة العزل وتأسيسها، ولأن المؤسسة تكون خاضعة للاستبداد لن تفعل شيئًا إذا طلبنا منها عزل الرئيس، وربما تبايعه وترفع من شأنه، فإذا تم وضع المتنفسات بأشكالها من حرية للتعبير وحرية للرأي والاتجاهات، هذا كله يمنع أن نصل إلى الاختناق الذي يؤدي بنا إلى الانفجار.
 

المواطنة لا تسوغ الخضوع للحرب 

هناك إشكالية حقيقية فيما يتعلق بالمواطنة، هناك بعض الناس يملكون جنسيتين لدولتين، وبالتالي إذا حدثت حرب بين الدولتين وهو مطلوب للخدمة العسكرية في إحدى الدولتين، ماذا يجب أن يفعل؟ وكيف يتحرك من الناحية الشرعية؟
د. أحمد  الريسوني:
الحرب تعتبر ظالمة، وجريمة جماعية وضد الإنسانية، فالحرب سواءً كانت من دولته الأصلية أو الأخرى وكيفما كانت الضغوطات عليه، فلا يجوز أن يقتل غيره تحت التهديد، والحرب معناها أن تذهب لقتل غيرك، والسعيد من ذهب إلى الحرب ولم يقتل أحدًا وأن يلقى الله قتيلًا أفضل، فالحرب ليست بالأمر الهين ولا تسوغها لا جنسية ولا جواز سفر ولا امتياز ولا تأشيرة.
 هذه الأمور لا ينظر إليها في حالة الحرب، فكيف من دول غير مسلمة وكيف إذا كانت ظالمة، وهذه جرائم بالجملة وكاملة الأركان، فلا يجوز له ولو كان حاملًا مائة جنسية من هذه الدولة، ولا يجوز أن يشارك في العدوان بأي صورة كانت.


أن ترجع إلى بلادك أفضل! 

هناك إشكالية أخرى، بعض المسلمين يعيشون في دول غير إسلامية، وهم مواطنون في تلك الدول ويشعرون دائمًا بعدم الراحة، لماذا هذه النفسية توجد عندهم في الأقلية المسلمة؟
د. أحمد الريسوني:
المسلمون بإمكانهم أن يحافظوا على دينهم من خلال تعاليم الإسلام وتجنب المحرمات، وأن يخدموا دينهم بنشر تعاليمه ويخلصوا لدينهم، ليشعروا بالراحة، لكن إذا وصل الأمر إلى حد أن أحد الأبناء لم يستطع أن يحافظ على دينه، فليجاهد وليحافظ على الإسلام، وإذا رأى أن المدرسة تريد أن تخرجه عن دينه، فليرجع إلى بلاده أفضل له ولقلبه. حتى أن من لطائف بعض التراجم نجد بعض العُلماء إذا هاجر إلى بلد وجلس فيها 4 سنوات فأكثر، تُنسب له، ونرى مسلمين يعيشون أكثر من 30 سنة في بلاد الإسلام ولا يعتبرون من المواطنين.