لعل مفهوم الزكاة يرتبط عند الكثيرين بمفهوم البذل الفردي، والأجر الأخروي، لكن ما يغيب عنا هو ما يمنحه ركن الزكاة من فوائد عظيمة لاقتصاد الدولة فهو رافد مهم من روافد التنمية للدول والمجتمعات، ذلك أنها تعد داعما رئيسا للتخلص من الفقر والعوز، كما أن لها دور عظيم في بناء مؤسسات الاقتصاد إذا ما صرفت ووجهت نحو بوصلتها الصحيحة.
سيجيبنا دكاترتنا الأفاضل في هاته الحلقة المتعلقة بالزكاة عن مدى أهميتها، ومدى تأثيرها في التنمية والعديد من الأسئلة المتعلقة بها.

«الإغناء يؤهل للتعمير».. ما المفهوم الأوسع للتنمية؟  

كيف نعرف مفهوم التنمية في الإسلام؟
د. نور الدين الخادمي: التنمية في بُعدين أساسيين: 

  1. بعد يتعلق بمفهومها التقليدي والمقرر في المدونة التعريفية وفي التاريخ البشري. 
  2. وبعد آخر وهو المفهوم الواسع المحرر لهذه التنمية. 

جرت عادة العلماء والباحثين بإطلاق لفظ التنمية على الاقتصاد الإسلامي وتطوير المنتوج المالي وتكثير السلع؛ أي فيما يتعلق بالبُعد الاقتصادي التنموي لهذه التنمية، غير أن هذا البُعد هو البعد الأساسي للتنمية، ولكن التنمية بمفهومها الواسع المحرر؛ هي التنمية الإنسانية، والبُعد الاقتصادي أحدُ أبعادها، لذلك نتحدث عن تنمية إنسانية في الاقتصاد والصحة والعقل وربط العلاقات والنفع العام في الداخل والخارج، وهذا المفهوم العام تستوعبه الشريعة الإسلامية باستقراءٍ غير يسير في نصوصها ومقاصدها وقيمها. 
أما المسألة الثانية والّتي تتعلقُ ببعد آخر من أبعاد التنمية وهو البعد الأعلى منها، وهو المعبر عنه في الفقه الإسلامي بـ "الإغناء" وقد جاء الإغناء في عيد الفطر وفي زكاة المال وفي مواضع أخرى؛ يكون فيها الإغناء مقصِدًا شرعيًا، أغنوهم عن السؤال في صدقة الفطر.
 

والمؤمن يتشوف في أن يكون غنيًا، ينفق زكاته بدّل أن يكون فقيرًا ويأخذ هذه الزكاة.

 مع أن الفقر حالة توجد عند الإنسان، ولذلك يحتاجون إلى الزكاة من جهة التضامن الإسلامي عبر شعيرة الزكاة، إذن الإغناء؛ أن نجعل المسلمين والناس أجمعين في غنى مادي وصحي واجتماعي ووطنّي بما يؤهلهم لتعمير هذه الأرض، والإسلام يتشوف إلى إغناء الناس والنّبي -صلى الله عليه وسلم- استعاذ من الفقر وجعله قرين الكُفر، بمعنى من جهة الذم والقدح ومن جهة العمل جهة درء الكُفر.
آلت الدراساتُ الحديثة إلى هذا التطور في المفهوم، والمسلمون يعيشون مع الآخر، ولا بأس أن يأخذوا في منتج الآخر لتوسيع مفهوم التنمية والإغناء، استقرت المعرفة الآن؛ بأن التنمية هي بُعد إنساني، ولا يُمكن أن نحقق تنمية اقتصادية من غير تنمية إنسانية، تنمية في العقل والوعي وتنمية سياسية.
فالمجتمعات التي فيها دول سياسية، هذه في الغالب الأعم تتحققُ تنميتها الاقتصادية، أما الدول الّتي ابتليت بالاستئثار بالسلطة أو الدولة، غالبًا لن تتقدمُ كثيرًا، نحنُ نتحدثُ عن تنمية بمفهوم واسع ومحرر، والمسلمون جزء في هذا المفهوم بالتعايش مع المجتمعات الأخرى، وهناك تعاون بين تنمية إسلامية وتنمية عند الآخرين، وهذا أمر يحكمه المشترك والخصوصية، المشترك بالتنمية؛ كتطوير الشعوب وتحقيق إغنائها المادي والصحي والتنموي، والخصوصية؛ مراعاة ما تختصُ به الأمة الإسلامية مثل أحكام الزكاة والوقف.


بين التنمية الداخلية والخارجية.. «من الفقر إلى الكفاف فالكفاية»

ما أثر الزكاة في التنمية لدى المجتمعات الإسلامية؟
 د. علي القره ياغي:
كلمة التنمية عبر عنها الله في "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"، فكرة التطهير هي الجانب الداخلي الذي يشمل القضايا الأربع، من النفس والعقل والروح والنفس، وهذه الأمور الداخلية التي تخص الفقراء والأغنياء، فالزكاة تحقق التنمية الإنسانية، وتحقق تمام الكفاية؛ أي الغنى.


والزكاة هنا؛ الزيادة المالية والخارجية "تطهرهم" تعبير داخلي، و"تزكيهم" تعبير خارجي، فالتنمية هي الزيادة والنمو في الجانب النفسي والعقلي والمالي والصحي والاقتصادي، والزكاة لها دور كبير في التنميتين، في التنمية الداخلية؛ لأنها بالنسبة للأغنياء ستؤدي إلى القضاء على الطمع والجشع. 

وهناك تجربتان في ذلك، تجربة عمر بن الخطاب حينما أرسل معاذا واليًا على اليمن، فجاءه في السنة الأولى بثلث الأموال، فاستحلفه وقال:ما بعثتك جابيًا وإنما بعثتك هاديًا، فقال معاذ: والله قد بحثتُ فما وجدتُ في اليمن فقيرًا، ثُم في العام الثاني أرجع نصف الزكاة، وفي العام الثالث الثُلثين، واليوم اليمن أصبحت تُعاني الفقر بنسبة 93%، هذه التجربة الرائدة لم تُكتب بشورى صحيحة ولم تدرس في صورة صحيحة. 
وقد وضع فيما بعد عمر بن عبد العزيز لهذه التجربة خطة، وقد حكم اليمن سنتين تقريبًا، في السنة الأولى أرسل رسائل للقضاء على حد الكفاف، أي أن الناس يخرجون من الفقر إلى حد الكفاف فتكون عندهم كفاية، وفي السنة الثانية إلى حد الكفاية، وفي السنة الثالثة كانت تمام الكفاية، ويقول يحيى بن سعيد: أرسلني عمر بن عبدالعزيز إلى أفريقيا، لجمع الزكاة، فجمعتها ووزعتها على الفقراء، فلم أجد من يأخذها، فاشتريت العبيد وأعتقتهم، هذه أفريقيا الّتي وصلت في عهد عمر إلى القضاء على الفقر، اليوم؛ عدد الفقراء في أفريقيا 348 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر -وهو دولار في اليوم- ونسبة الفقر في نيجيريا 92%.  

 
تعطيل الزكاة.. «الصرف لا لنبي ولا إمام!»

 لماذا لا نملك مثل تجارب الصحابة في القضاء على الفقر، ولا نجد مصارف الزكاة في مكانها الصحيح، ما سببُ ذلك؟
د. أحمد الريسوني:
الزكاة اليوم معطلة بدرجة كبيرة جدًا، وتركت لأريحية الأفراد، فمنهم من يزكي ومنهم من يترك ومنهم من يعتبر أن الدولة تأخذ منه ضرائب كثيرة فلا يزكي، فأصبحت الزكاة معطلة بدرجة 80%.
وليست المشكلة فقط في عدم وضع الزكاة في مصاريفها، بل عدم تحصيلها وتشغيلها وتفعيلها، فالمشكلة ليست بالمصاريف، هناك بعض الدول تزكي فتجد مشاكل تتعلق بالصرف.
 والمصاريف حددها الله في القرآن يوحي أن لا مجال فيها لا للزيادة والنقصان "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ". ولذلك عندما جاء أحدهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: أعطني الزكاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ننظر، فإن كنت من هذه الأصناف أعطيتك، وإلا ليس من حقي أن أعطيك.


الله تعالى لم يترك صرف الزكاة لا لنبي ولا لإمام وإنما جعلها مصارف محددة، وإن كانت ثمانية فهي مركزة بالدرجة الأولى على الفقراء والمساكين، ثُم الزكاة تؤخذ من أغنيائهم فتردُ على فقرائهم، وهي مخصصة للفقراء وإخراج الفقراء من فقرهم. 

هل «صناعة الإنسان» هي مفتاح التنمية؟ 

هل أمثلة الصحابة الكرام الّتي تحدثنا عنها في القضاء على الفقر، نستطيع أن نطبقها اليوم؟
د. عبد المجيد النجار:
كل مظاهر التنمية التي ذُكرت في أبعادها المادية، هي رهينة لِمفتاح أكبر من مفاتيح التنمية؛ وهي تنمية الإنسان، لأن هذه المظاهر الأخرى إنما يصنعها الإنسان، ولكي يصنع الإنسان هذه المظاهر، ينبغي أن يكون المفتاح هو صناعة الإنسان، والمعبر عنه بالتنمية البشرية، فعندما يكون الإنسان مكونًا في الفكر والوعي الذي يمكنه من الريادة والفاعلية، حينها يستطيع أن يصنع التنمية، ولهذا فإن الفكر الإسلامي الجديد ينبغي أن يهتم الاهتمام الأكبر بتنمية الإنسان؛ في التعليم والتربية والتكوين، وأن تخصص من ميزانية الدولة ميزانية كُبرى لصناعة الإنسان، وهناك ملمح  روي عن عمر بن الخطاب وهو يؤسس للدولة، فبحسه الإسلامي الرشيد جمع بعضا من أصحابه وقال: تمنوا!
فتمنى أحدهم أن يحصل على الذهب والمال، وقال آخر: أن يكون هذا المكان مليئا بالرجال، أي الإنسان، هذا الإنسان الذي سيصنع التنمية، فمفتاح التنمية هو تنمية الإنسان.  


لماذا ليس للزكاة اليوم أثر؟ 

كيف نستقطب الزكاة في التنمية الاجتماعية، وكيف يدفع المسلم ضريبته في سنة واحدة؟
د. علي القره ياغي:
مقدار الزكاة ليس قليلًا، قمت بنفسي في عام 2007 بإحصاء مقدار الزكاة، ووصلت إلى أن الزكاة في العالم الإسلامي لا تقلُ عن 300 إلى 400 مليار سنويًا، ووجدتُ أن الزكاة في الخليج تصل فعلًا إلى حوالي 100 مليار، فلماذا ليس لها أثر؟ والسبب في قضية الجمع، هو عدم توجيه هذه الأموال الكبيرة إلى التنمية، وينبغي أن تقسم الزكاة إلى ثلاثة فروع:

مسألة شراء أدوات الإنتاج لمن هو قادر على العمل، فبدلا من أن نعطيه سمكة نعلمه كيف يصطاد السمكة، ويجوز ذلك كما قال الفقهاء، وممكن أن تعطى لجمعية خيرية لتتفق مع الشخص وتشتري له أغراض المشروع.

 شراء أسهم شركات، أو بناء شركة مساهمة وتوزيعها على الفقراء، أو إدخالهم في الشركة ليكونوا من ضمن أصحابها، بحيثُ يكون لهم دخل دائم لا منقطع.
إنشاء مدرسة خاصة بالفقراء، وإذا جاء الأغنياء نصرف أموالهم على الفقراء، ولكن بشرط أن لا يجوز للفرد المزكي أن يقوم بها، وإنما يجب أن تعطى الأموال للجمعية، لأنها هي من تشرف على هذه الأموال.
أما بالنسبة لضريبة الزكاة، نسبة الضريبة التي تؤخذ تُخصم من الوعاء الزكوي، فمثلًا: عندنا مليون ريال وأخذت منا الضريبة 100000، تخصم الـ 100000 من الوعاء، ولكن لا تخصم من مقدار الزكاة، يخصم مبلغ الزكاة من أصل الضريبة.