تكلم المفكِّر المسلم العراقيُّ، صاحب الثقافة الموسوعية، وخير من أمسك القلم بثقةٍ بالغةٍ، محمَّد أحمد الراشد، فأفاض في الحديث عن فقه الدعوة التطويريِّ، وتحدَّث عن الدروس التجريبية في العمل الدعويِّ والوعي الحركيِّ، منذ أكثر من نصف قرنٍ، وكانت البداية من على صفحات مجلة المجتمع الكويتية.
امتلك ناصية البيان، فكان صاحب كلامٍ صادقٍ، وبيانٍ ناطقٍ، ولفظٍ دافقٍ، وأسلوبٍ سامقٍ. كتب العمارة الدعوية، وتنظير التغيير، ورسائل العين، وأصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي، وكتباً أخرى.
هو صاحب أطروحات الشمول المعرفيِّ والممارسة الحضارية، عبر التربية الإبداعية والتخطيط والنشاط المنهجيِّ؛ نقل الدعاة من العفوية إلى المنهجية، ومن الظنِّ والتقليد إلى التأصيل والاجتهاد والإبداع.

كتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، وفي العقول صوراً من براعة التعبير، وبنى في الأفئدة خياماً من جلال التصوير، تلحظ في كتابته غاية الإفصاح بالحجَّة، والمبالغة قي وضوح الدلالة، لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع، غزيراً في المعاني والألفاظ، وكذا في التحبير والارتجال. 

تميَّز يراعُهُ بوضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقَّة المدخل، وكان ذا بيان وتبحُّرٍ في المعاني وتصرُّفٍ في الألفاظ، وكانت تعليقاته أجود اختصاراً وأجمع للمعاني. ثمَّ هو محَدَّثٌ شاعرٌ، ومقيمٌ جامعٌ، جيِّدُ الرأي كثيرُ الأدب، كاتبٌ من المستوى الرفيع، قد وضع منزل البيان في آخر موضع الفصاحة وأول موضع العجم، نفض الغبار وأزال عنه الدِثار. 
اتبع شرعة الإسلام الصافية مع فطرة نقيَّة حباه المولى بها، تقدح النورَ في نجوم سمائه الرفيعة، طاف بآرائه على وديان العقل والاجتهاد الواقعيِّ، وسارت تجاربه تسيح بموازاة قمم الجبال؛ حتى وصل إلى السموِّ في رؤاه المستقبلية؛ فدوَّن مذهباً كاملاً في فقه الدعوة، وعندما تحدَّث عن الأفكار التي تتحدَّث عن البيئة التطويرية، أراد أن يلفت الأنظار إلى أن التطوير، كما أنه عملٌ عقلانيٌّ في إطارٍ من العاطفة، فإنه أداءٌ منهجيٌّ تتفرَّع عنه أساليبه ولغته وحيثياته، والوعظ بذلك هو أحوج ما نحتاجه في يوم الزحمة السياسية المستهلكِة للجهود والطاقات.
وأضاف في بيان هذا المَعلَم فقال:"ولسنا نريد لأنفسنا أن نغفل عن تحقيق النموذج الدعويِّ العالميِّ، مهما ضغطت الحاجات التنفيذية اليومية. بل نكون في النهار فرساناً، نبالغ في تقديم الخدمات للشعب؛ ثم نكون في الليل رهباناً نسجد ساعة، ونعكف على الفقه والتخصُّص وتداول الفكر وممارسة التحليل ساعات أخرى؛ وفي ذلك إرهاق، لكنها كذلك طبيعة العمل الدعوي. لكن دون أن نذهل عن أن فوق سبع سمواتٍ، ربٌّ يعين، سبحانه، ويهدي إلى الصواب، إذا تمخَّضت النوايا خالصة؛ فاثبتْ وتطَّورْ، ومفتاحُك حسْن القصد". 
ثم عمد إلى تبيان آفاق التطوير الخمسة، فأجملها في صحَّة العقيدة، والفقه الوسطيِّ، ونَمَط الاجتهاد، والإبداع، والتخطيط. وعندما أخذ بتلابيب خطَّة التطوير يشرحها، ذكر في فحواها الأساسية، معرفة صيد الشواهد وأساليب توظيفها؛ وعدَّ الإبداعَ عامل نجاحٍ في ذلك فالشاهد التاريخيُّ مثلاً، يمكن للمقلِّد أن يذكره ببرودٍ، ولكن العنصر الاجتهاديَّ قد يصوغه شعراً أو يرسمه في شكل لوحةٍ، أو ينحته تمثالاً تجريدياً، أو يحوِّره إلى تمثيلية مسرحيةٍ أو فيلمٍ، فيكون التوظيف أتمُّ وأعمق تأثيراً.


الإبداع مسارٌ ومدارٌ، منه تنطلق المواقف، وبه تصاغ الخطط، فإن كان درباً مستقيماً ففي آخره إنجازٌ، وإن كان دائرةً مغلقةً، فهو مسعىً لا ينحت التكرار أرضه، ومدأبٌ ثابتٌ لا يعتري الدائر فيه فتورٌ.

وحكى لنا أن قراءة التاريخ، هي أشبه بلمس الشيء المحسوس المؤسِّس لليقين، وكلما كان التاريخ أقرب زماناً، كان أوفى تمثيلاً.
أردت بهذه المدونة أن أومئ إلى قيمة ما كتبه يراع هذا العملاق، الذي بدأت مسيرة ثقافته بالقانون، ثم التفت إلى الفكر الذي أزهر معه أدباً قلَّ نظيره، فسارت باسمه الركبان مسيرة الشمس في فلكها، تسيل العبارات من قلمه كما تسيل القطرة من فِيِ السقاء!. ومن هنا فإني أهيب بكل من شرع بالمشاركة في عملية النهوض الحضاريِّ، أن يقرأ ما كتبه الأستاذ الراشد، وسيلاحظ كيف أنه رشَفَ من الأدب وأطروحات الفكر العالميّ،ِ الصافي منه، ولم يتعامل معه كحاطب ليلٍ، بل أخذه على أحسن وجهٍ وأفضل مآلٍ.
مما جعل منه كاتباً مميَّزاً لم يدوِّن لمرحلةٍ ولا لقطرٍ، بل للساحة العالمية برمَّتها، في عمق امتداد المستقبل؛ في سبيل عملٍ بنَّاءٍ يهدف إلى تحسين الوضع الفكريِّ والمعرفيِّ للدعوة، ولمدى أجيالٍ قادمةٍ.
وغدت أطروحاته تتَّسم بالتفكير الاستراتيجيِّ، وتنبِّه إلى قضايا لم تكن موضع اهتمام عند من كتب في فقه الدعوة، من مثل نظرية الجمال، وربطها بمنهجية التربية الدعوية، أشار من خلالها إلى أن أثير تطلعاتٍ جماليةٍ، كافيةٌ في نفوس بعض الدعاة، لإنتاج فنٍّ تجريديٍّ إيمانيٍّ، ليست أهمية إشاراته بأقلَّ من إشارات الأدب، وكيف أن الفنَّ السنمائيَّ أصبح لازماً لنجاح قنواتنا الفضائية، وذلك من خلاله تعريجه على الفنِّ في كتابه "صناعة الحياة"، أما عن اشتقاق الكثير من النظريات التنظيمية والتربوية وقواعدنا التخطيطية، من مدارس وإبداعات فنِّ العمارة، فقد أجاد القول فيها في كتابه " العمارة الدعوية ". 
لعلي قد أغريت القارئ بقراءة ما كتبه الأستاذ الراشد، وذلك حسبي، أملاً أن أحظى بدعوةٍ صادقةٍ ممن نهل من هذا الينبوع الثرِّ المتدفق الفيَّاض.